نصّ البند 2 من المادة 64 من الدستور اللبناني على أن رئيس مجلس الوزراء (المكلّف) “يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقّع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها”. إذًا، يبدأ الرئيس المكلف، المستند إلى الثقة التي منحته إياها الأكثرية النيابية بناءً على الاستشارات الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية (مادة 53)، وإلى مسؤولية الحكومة أمام مجلس النواب ونيلها الثقة واستمرارها (مادتان 64 و66)، مشوار تشكيل الحكومة الشائك، المعبّد بالمطالب والمطالب المضادة، حيث يتواصل مع مختلف الكتل النيابية والنواب المستقلين لتشكيل الحكومة، فيستمع إلى مطالبهم من دون أن يكون مقيّداً أو مُلزَماً بهذه المطالب المتنوعة، بل يعمل على التوفيق بينها، سعياً إلى تأمين التضامن الوزاري الكفيل بإنجاح عمل الحكومة.
وليس لزامًا على رئيس الحكومة المكلف التقيُّد بنتائج الاستشارات النيابية لتكليف حكومته، ويُستدل على ذلك من أنه لم تعقب كلمة “استشارات” كلمة “ملزمة” كما ورد في المادة 53 من الدستور، التي نصّت حرفياً على عبارة “إستشارات نيابية مُلزمة” حين تسمية رئيس الحكومة، وذلك في دلالة واضحة من المشترع الدستوري على التمييز بين نوعين من الاستشارات، أحدها يكون مضمونها مُلزماً وهي المتعلقة بتسمية رئيس الحكومة وتكليفه بمهمة التأليف، والأخرى يكون مضمونها اختياريا وهي المتعلقة بتسمية الوزراء وتوزيع الحقائب الوزارية عليهم.
وجاء في نص المادة 64 من الدستور (البند2) أن رئيس الحكومة “يُجري” الاستشارات النیابیة لتشكیل الحكومة، ولم تقُل “يُسمي” الوزراء استناداً إلى استشارات نیابیة ملزمة كما فعلت ذلك المادة 53، أي أنّ الرئيس المكلف ملزم فقط بالاستشارة من الناحية الشكلية، والسبب أن مجلس النواب هو من يمنح الثقة للحكومة حين تمثل أمامه برئيسها ووزرائها وتقدم بيانها الوزاري ـ خطة عملها، وتنال ثقة المجلس النيابي على أساسه أو لا تنالها، كما أن الدستور أتاح للنواب حق مساءلة الحكومة وصولاً إلى حجب الثقة عنها إذا تبيّن للمجلس أنها ليست على مستوى الثقة التي منحها إياها عند تأليفها، أو في حال عدم موافقتهم على بيانها الوزاري.
ويبقى الرئيس المكلّف على تواصل مع رئيس الجمهورية، فيطلعه على حصيلة المشاورات غير الملزمة وعلى مطالب الكتل النيابية، ويلعب هنا رئيس الجمهورية دور الداعم والمسهل لعمل رئيس الحكومة المكلّف، فيحاول تذليل الصعاب والمطالب. ولأن تشكيل الحكومة يتم في نهاية الأمر بالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، فإنه على الرئيس المكلف إجراء التعديلات اللازمة التي يقترحها رئيس الجمهورية عليه بخصوص التشكيلة الوزارية المقترحة.
وعند انتهاء رئيس الحكومة المكلّف من استشاراته النيابية، يضع تصوّراً لتشكيل حكومة منسجمة ومتضامنة وفاعلة وقادرة على نيل ثقة مجلس النواب، فيضع بين يدي رئيس الجمهورية التشكيلة النهائية لكي يصدر رئيس الجمهورية، بالاتفاق معه، مرسوم تشكيلها.
لم يحدد الدستور مهلةً زمنيةً لرئيس الحكومة المكلّف لتشكيل الحكومة كي لا يشعر الرئيس المكلّف بضغط عامل الوقت، وكي يستطيع الموازنة بين مطالب الكتل النيابية، ولا يبقى تحت ضغطها أو أسير رغباتها، وتحت ضغط الرأي العام
لا مهلة مقيدة للتأليف
تُطرح هنا مسألة المهلة المعطاة للرئيس المكلف لتشكيل الحكومة، والنتائج المترتبة على انتهائها أو تجاوزها دون التوصل الى تشكيل الحكومة، علما أن الدستور لم يحدد مهلةً زمنيةً لرئيس الحكومة المكلّف لتشكيل حكومته، وهذا شأن معظم الدساتير في الأنطمة البرلمانية في العالم.
إن المبدأ الحاكم في تشكيل الحكومة هو وجوب تشكيلها من دون تأخير، استمراراً لعمل المؤسسات الدستورية، وحرصاً على إستمرار المرفق العام وحفظاً للنظام العام، ولم يحدد الدستور مهلةً زمنيةً لرئيس الحكومة المكلّف لتشكيل الحكومة كي لا يشعر الرئيس المكلّف بضغط عامل الوقت، وكي يستطيع الموازنة بين مطالب الكتل النيابية، ولا يبقى تحت ضغطها أو أسير رغباتها، وتحت ضغط الرأي العام المطالب بمعرفة مسار أمور التأليف، بل يُترك الرئيس المكلف لضميره ووجدانه، وهذا ما يُعوّل عليه من أجل مصلحة البلاد العليا.
لا صلاحية بسحب التكليف
بعد تسمية رئيس الحكومة وتكليفه بالتشكيل، لا سلطة ولا صلاحية لأية جهة كانت بسحب التكليف منه أو وضع حد له، فاختيار رئيس الحكومة من قبل ممثلي الأمة، ليس تفويضاً يمكن سحبه، أو تعييناً يمكن التراجع عنه، بل هو تكليف بمهمة دستورية ينتهي بانتهاء تسميته رئيسًا للحكومة، إلا إذا قرر الإعتذار، وعندها يتكرر سيناريو التكليف نفسه.
أما مشكلة عدم تحديد مهلة زمنية لتشكيل الحكومة فإنها تكمن في إمكانية الرئيس المكلف التباطؤ بتقديم تشكيلته الحكومية المقترحة، وبالتالي نبقى أمام حكومة تصريف أعمال إلى ما شاء الله.
لقد كان التوجه في مدينة الطائف يميل إلى تقييد صلاحية رئيس الحكومة المكلف تشكيل الحكومة بمهلة زمنية محددة، أسوةً بالمهلة الزمنية المقررة لإعداد البيان الوزاري (شهر واحد)، لكن رئيس الوزراء الراحل صائب سلام اعترض بشدّة وأصر على رفض تقييد رئيس الحكومة المكلف بمهلة زمنية للتأليف، لأنه إذا كان رئيس الحكومة المكلف على خلاف مع رئيس الجمهورية، وكانت هناك مهلة محددة للتأليف، فإن رئيس الجمهورية قد يماطل ويرفض التشكيلة المقدّمة من رئيس الحكومة المكلف حتى تنقضي المهلة، حينها يستطيع رئيس الجمهورية أن يلغي أمر تكليفه.
ولهذا السبب لم تقيّد المادة 64 رئيس الحكومة بأي مهلة للانتهاء من مشاورات التأليف، ولم تُعطِ رئيس الجمهورية صلاحية سحب التكليف الصادر بناءً لإرادة النواب.
وفي حال لم يتفق رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف على التشكيلة الحكومية، فإن الحل يكمن في إرادة الرئيسين على حل هذه المعضلة، طالما أن الدستور عينهُ اشترط في المادتين 53 و64 منه حصول اتفاق بينهما لإصدار مرسوم تشكيل الحكومة وتوقيعه معًا.
ولا يملك رئيس الجمهورية ولا المجلس النيابي حق عزل رئيس الحكومة المكلَّف، إذا لم يشأ هذا الأخير الاعتذار عن متابعة مهمته بتأليف الحكومة، لا سيما في غياب النص الدستوري الذي يجيز مثل هذه الصلاحية لهما، إذ أن المبدأ هو “لا صلاحية دستورية بلا نص”، ولا سيما أن الرئيس المكلّف حاز على ثقة أغلبية النواب، بالتسمية، أما توقيع عريضة من أكثرية مجلس النواب تطلب من رئيس الجمهورية سحب هذه الثقة، فهذا لا سند له في الدستور، كما أنه ليس لمجلس النواب حق التدخل في عمل السلطة الإجرائية حين حصول أي خلاف بين رأسيّ هذه السلطة عملاً بـ”مبدأ فصل السلطات”.
المُكلف يبقى مُكلفاً
ولا يمارس رئيس الحكومة المكلف صلاحياته المنصوص عنها في المادة 64 من الدستور كرئيس لمجلس الوزراء، قبل صدور مرسوم التشكيل الذي يصدره رئيس الجمهورية ويوقع عليه معه، لأنه لا وجود لمؤسسة مجلس الوزراء قانوناً، قبل نيلها ثقة المجلس النيابي، كما أنه لا يجوز حصول تنازع في الصلاحيات بين رئيس حكومة تصريف الأعمال وبين الرئيس المكلَّف، ذلك أن الأول يستمر بممارسة صلاحياته الدستورية المحدودة كرئيس لمجلس الوزراء المستقيل.
إصدار المراسيم
تنص المادة 53 من الدستور (البند 4) على أن: “يُصدر رئيس الجمهورية بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء مرسوم تشكيل الحكومة ومراسيم قبول استقالة الوزراء أو إقالتهم”، أي أن تشكيل الحكومة وفقاً لأحكام الدستور (المادتان 53 و64) يتم بالاتفاق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف. فبعد أن يقترح الرئيس المكلف التشكيلة الحكومية على رئيس الجمهورية، يصدر الرئيس مرسوم تشكيلها بالاتفاق مع رئيس الحكومة، وهذا يدل على التعاون في إنجاز هذه المهمة الدستورية، لأن الدستور أناط برئيس الجمهورية أن يلعب دور المرجع والحكم في الصراع السياسي بين الكتل النيابية على الحصص الوزارية، وأن يكون صمام أمان للنظام.
ويتوجّب على رئيس الجمهورية، بعد نضوج التشكيلة النهائية المتفق عليها، إصدار ثلاثة مراسيم بالتزامن مع بعضها البعض:
- المرسوم الأول: مرسوم قبول استقالة الحكومة السابقة التي كانت تُصرّف الأعمال واعتبارها مستقيلة حكمًا، ويوقِّع وحده منفرداً على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم (5) من المادة 53 من الدستور.
- المرسوم الثاني: مرسوم تسمیة الرئيس المكلف كرئیس لمجلس الوزراء الذي تمّ تأليفه، ويوقِّع وحده منفردًا على هذا المرسوم سنداً لأحكام البند رقم (4) من المادة 53 من الدستور، ومنذ هذه اللحظة، يصبح الرئيس المكلّف رئيساً لمجلس الوزراء.
- المرسوم الثالث: مرسوم تشكيل الحكومة، ويقتضي لصحتّه أن يوقّع عليه حكمًا معه رئيس مجلس الوزراء، سنداً لأحكام البند رقم (4) من المادة 53، والبند رقم (2) من المادة 64 من الدستور المعطوفتين على بعضهما البعض للتلازم.
منح الثقة للحكومة المشكّلة
نصت المادة 64 (البند 2) من الدستور، في ما خص صلاحيات رئيس مجلس الوزراء: “يجري الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة ويوقع مع رئيس الجمهورية مرسوم تشكيلها. وعلى الحكومة أن تتقدم من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يومًا من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها. ولا تمارس الحكومة صلاحيتها قبل نيلها الثقة ولا بعد استقالتها أو اعتبارها مستقيلة إلا بالمعنى الضيّق لتصريف الأعمال”.
البيان الوزاري.. خلال 30 يوماً
بحسب نص المادة المذكورة، فإن الحكومة المشكّلة عليها أن تباشر بوضع بيانها الوزاري، والذي ستنال على أساسه ثقة المجلس النيابي، وتقدّمه إلى مجلس النواب في مهلة لا تزيد عن ثلاثين يومًا، عندئذ يوجّه رئيس مجلس النواب الدعوة إلى عقد جلسة لهيئته العامة مخصصة لنيل الثقة، بحيث تَمثل الحكومة المُؤلفة أمامها لتُعلن، عبر رئيسها، بيانها الوزاري، والذي يطلب على أساسه ثقة المجلس بالحكومة. وبعدما ينهي النواب تصويتهم بمنحها الثقة أو بحجبها عنها، تنتهي عملية تشكيل الحكومة دستوريًّا.
ويحق للبعض أن يطرح السؤال التالي: ماذا لو لم تتقدم الحكومة المُؤلفة من مجلس النواب ببيانها الوزاري لنيل الثقة في مهلة ثلاثين يوماً من تاريخ صدور مرسوم تشكيلها؟
من المسلّم به فقهًا واجتهادًا أن تحديد طبيعة المهل القانونية يتم بحسب صياغة النص الذي يتضمنها، وأنه كلما كانت هذه الصياغة تنص على وجوب وإلزامية التقيد بها لإجراء الالتزام المفروض، تكون هذه المهلة مهلة إسقاط وليست مهلة حثّ، تماماً كما هو الحال هنا، حيث فرضت المادة 64 من الدستور على الحكومة الالتزام بتقديم بيانها الوزاري خلال ثلاثين يومًا، وذلك لكون الصياغة ابتدأت بكلمة “على الحكومة…”، بما يعني وجوباً عليها إجراء هذه المهمة خلال هذه المهلة، وهي ليست مجرد مهلة قانونية عادية، بل تتعلق بمبدأ الأمان التشريعي.
وفي حال عدم الالتزام بالمهل، فإن ذلك يدل على استخفاف الحكومة المؤلفة بواجباتها الدستورية وتخلّيها عنها واستهتارها بها. وإلا، فإنه يُمكن للحكومة المؤلفة أن تبقى أشهراً عديدة دون أخذ الثقة، وهذا ما يُشكل وضعًا دستوريًا شاذًّا وخطيرًا يخالف أبسط مبادئ الشرعية، ومن شأنه أن يُبقي البلاد في حالة تصريف أعمال طويلة. لذلك، من المفيد القول، إن عدم الالتزام بمهلة الثلاثين يومًا يعني اعتبار الحكومة بمثابة الحكومة المستقيلة حكمًا.
إن المادة 64 (البند 2) تنص على الآتي: “لا تمارس الحكومة صلاحياتها قبل نیلها الثقة… إلا بالمعنى الضیِّق لتصریف الأعمال”. أي أنه في حال لم تنل الحكومة الثقة، تصبح تلقائياً بمثابة الحكومة المستقيلة، وعليها أن تقوم بتصريف الأعمال ريثما يتم تشكيل حكومة جديدة، وذلك بهدف تسيير شؤون المرافق العامة في الدولة، ولا يجوز لها أن تقوم بالأعمال التصرفية، باستثناء ما تعلق منها بتدابير الضرورة وأمن الدولة المحلي والخارجي، والتي تبقى فيها خاضعة لرقابة القضاء الاداري دون رقابة عليها من المجلس النيابي، على اعتبار أن مسؤولية السلطة التنفيذية أمام مجلس النواب مرتبطة بممارسة الحكومة صلاحياتها الكاملة إثر حصولها على ثقة السلطة التشريعية.
أما إذا تقدمت الحكومة ببيانها الوزاري ضمن المهلة الدستورية ونالت ثقة المجلس بالأغلبية المطلقة لا الموصوفة، فأنها منذ ذلك الحين تبدأ فترة ولايتها الدستورية بشكل طبيعي ويصبح بإمكانها ممارسة مهامها بكامل الصلاحيات التي كرّستها لها المادة 65 من الدستور.
(*) للكاتب نفسه، الإستشارات النيابية ملزمة أم غير ملزمة؟