قبل اتفاق الطائف، كانت السلطة الإجرائية منوطةً برئيس الجمهورية منفردًا، ونصت المادة 53 من الدستور اللبناني الصادر في 17/10/1927 وتعديلاته في 21/1/1947 على الآتي: “رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيساً ويقيلهم و….”. أي أن تسمية رئيس الحكومة هي حق دستوري حصري برئيس الجمهورية دون غيره، إذ لا استشارات نيابية مُلزمة أو غير مُلزمة.
وبعد اتفاق الطائف المُصادَق عليه في 22/10/1989، صدر التعديل الجديد للدستور في 21/9/1990 لتصبح هذه المادة في البند الثاني منها على الشكل التالي: “… يسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب استناداً إلى استشارات نيابية مُلزمة يُطلعه رسمياً على نتائجها”، وذلك تفاديًا للمشاكل التي قد تنشأ نتيجة “استنسابية” رئيس الجمهورية في تسمية رئيس الحكومة، حيث أصبحت السلطة الإجرائية منوطةً بمجلس الوزراء مجتمعًا، بحسب المادة 65.
ووفقاً لأحكام الدستور، تبدأ مراحل تشكيل الحكومة مع مجلس النواب، عبر الاستشارات النيابية الملزمة الني يدعو إليها رئيس الجمهورية، وتنتهي عند مجلس النواب لنيل الثقة، وهذا هو الأمر الطبيعي في نظام ديمقراطي برلماني، تعمل الحكومة بموجبه، استناداً الى ثقة مجلس النواب، وتسقط بعدم إعطائها الثقة أو بسحب الثقة منها، وفقاً للأصول المعتمدة في الدستور.
الإستشارات النيابية الملزمة
نصت المادة 53 من الدستور في البند 2 على الآتي: “يُسمّي رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف بالتشاور مع رئيس مجلس النواب، استنادًا إلى استشارات نيابية ملزمة يُطلعه رسميًا على نتائجها”. وهذا يعني أن الدستور أوكل إلى رأس الدولة، أي رئيس الجمهورية، مهمة تسمية رئيس الحكومة، بالتشاور مع رئيس السلطة التشريعية المتمثلة برئيس مجلس النواب، بعد وجوب الاستماع إلى آراء النواب المُلزمة في تسمية رئيس الحكومة، والأخذ بهذه الآراء.
تُثار هنا مسألة حضور النواب للمشاركة في الاستشارات النيابية، هل أن الحضور يجب أن يكون شخصيًّا، أم أنه يمكن قضاء الأمر بالوكالة أو بالمراسلة أو بالتفويض. بالرجوع إلى نص المادة 45 من الدستور: “ليس لأعضاء المجلس حقّ الاقتراع ما لم يكونوا حاضرين في الجلسة، ولا يجوز التصويت وكالة”. أي أنه لا يجوز التصويت استناداً إلى توكيل، أي إلى تفويض، ولا يحّق للنائب، الذي يُمثّل الأمة جمعاء، توكيل أو تفويض غيره من زملائه في المجلس النيابي بممارسة مهامه الدستورية بأيّة مسألة تعّلق الأمر، ومنها تسمية رئيس الحكومة الذي سيُكلَّف بتشكيلها.
وعليه، إذا كان لا يجوز لنائب تفويض زميله بممارسة مهامه في مسألة دستورية معينة، فإنه من باب أولى لا يجوز له تفويض مثل هذا الصلاحية إلى رئيس الجمهورية، الذي هو ليس عضواً في المجلس النيابي المُنتخب من الشعب. وبالتالي ليس لممثلي الشعب توكيل أو تفويض رئيس الجمهورية، استنادًا إلى أحد المبادئ الدستورية العامة التي تقضي بأن “لا تفويض بلا نص”، لذا وجب عليه إبداء رأيه صراحةً ووجاهيًّا أمام رئيس الجمهورية بتسمية رئيس الحكومة المكلّف، لوجود نصّ عام لم يميّز فيه المشرّع بين تصويت على موضوع وتصويت على آخر، ولم يحدد فيه ماهيّة التصويت، سواء أكان خطياً أم شفهياً، وهو نص مطلق، والمُطلق قانوناً يبقى على إطلاقه دون تمييز بين حالة وأخرى فيها، تطبيقاً لمبدأ دستوري عام: “لا تمييز حيث لم يُميّز المشترع”.
نشير أيضًا أنه يمكن للنائب عدم تسمية أي مرشح للحكومة أمام رئيس الجمهورية أثناء الاستشارات النيابية، لعدم اقتناعه بأي من الأسماء المطروحة لتولّي هذا المنصب الدستوري، أي أن يدلى بورقة بيضاء.
بعد أن يجرى رئيس الجمهورية الاستشارات النيابية الملزمة، هناك جدل حول مدى دستورية تكليف المرشح الذي نال أغلبية أصوات النواب من أصل 128 نائبًا قبل استقالة 8 نواب، حيث صاروا حالياً 120 نائباً.
ورد في الدستور أنه يقتضي لكي يكون التكليف في هذه الحالة دستوريًا، أن يكون منسجمًا ومتوافقًا مع أحكام الدستور، والذي بالعودة الى أحكامه نرى أنه رفع غطاء الشرعية عن أية سلطة لا تكون ميثاقية، فقد ورد في الفقرة (ي) من مقدمته على أنه: “لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك”، ولم يأتِ النص على تحديد عدد معيّن من الأصوات النيابية لكي يُعتبر التكليف دستوريًّا، بل يمكن أن ينال التكليف بأقلية نيابية، حيث لا اعتبار للعدد في الاستشارات النيايبة، بل يجب مراعاة متطلبات العقد الاجتماعي بين الطوائف، طالما أن الطائفية السياسية لم تُلغَ بعد من النظام اللبناني بحسب المادة 95 من الدستور.
غير ملزمة
وثمة وجهة نظر عند بعض الدستوريين (وهم الأقلّية) مفادها أن هناك إلزامية لرئيس الجمهورية بإجراء الاستشارات النيابية، إلا أنه ليس مُلزماً بالأخذ بنتائجها، إذ إنه يملك سلطةً “شبه استنسابية” في ذلك. ويثير هؤلاء الأسئلة التالية:
- كيف يمكن الحديث عن تعبيرين متناقضين هما “استشارات” و”إلزاميتها” معاً؟
- لماذا لم ترد عبارة “بنتائجها” بعد عبارة “مُلزمة”؟
- في حال مخالفة رئيس الجمهورية رأي الأكثرية النيابية بالتسمية، ما الذي يمنع الأغلبية النيابية من حجب الثقة عن الحكومة، عملاً بمبادئ النظام البرلماني؟
- ما دامت الاستشارات النيابية ملزمة، فلماذا النص على “التشاور” مع رئيس مجلس النواب؟
إلا أن الرأي الدستوري الحاسم، استتاداً إلى الأعراف والتقاليد المُتّبعة، يقتضي بامتثال رئيس الجمهورية لآراء الأغلبية من نواب الأمة المنتخبين من الشعب، والذين يعبّرون عن إرادته، وبالتالي أن يقوم بتسمية من نال العدد الأكبر من أصوات النواب.
في نيسان/أبريل من العام 1966، اختار رئيس الجمهورية شارل الحلو الرئيس عبد الله اليافي لتأليف حكومة، برغم حصول الرئيس رشيد كرامي على العدد الأكبر من الأصوات خلال الاستشارات النيابية “غير الملزمة”. هنا دافع الرئيس صائب سلام عن خيار الرئيس حلو قائلاً: “الرئيس ليس علبة بريد ولا صندوق اقتراع”.
في العام 1998، وخلال عهد رئيس الجمهورية إميل لحود، أعاد الرئيس نبيه بري استخدام نفس المصطلح، عندما قال “إن الرئيس ليس صندوق اقتراع، وأنه غير مقيّد بنتائج هذه الاستشارات العددية”، لأن عدداً من النواب فوّض لحود تسمية رئيس الحكومة، ما أثار حفيظة الرئيس الراحل رفيق الحريري، فاعتذر الأخير عن التأليف، معتبراً أن التفويض يشكل تجاوزاً للدستور.
خلاصة
إذًا، على رئيس الجمهورية أن يستجيب في هذه المهمة الدستورية إلى مشورة النواب الملزمة لهُ (كما أوردنا سلفًا في المادة 53 من الدستور)، بكونهم ممثلي الشعب، واطلاع رئيس مجلس النواب رسمياً على ما آلت إليه حصيلة الاستشارات النيابية، والإعلان عن اسم المرشح لرئاسة الحكومة العتيدة الذي نال العدد الأكبر من أصوات النواب.
بعد ذلك، يُرسل رئيس الجمهورية خلف المرشح الفائز بنتيجة الاستشارات للحضور إلى مقر رئاسة الجمهورية، لوضعه بحصيلة استشارات التكليف التي رست عليه، ويطلب منه البدء بتحديد مواعيد للكتل النيابية والنواب المستقلين في مقر مجلس النواب، للاستئناس برأيهم في ما خص تشكيل الحكومة التي سيترأسها، ويصدُر رئيس الجمهورية عبر المديرية العامة لرئاسة الجمهورية بيان تكليفه، ويُحدد في البيان موعد استشارات التأليف التي سيجريها الرئيس المكلَّف.
هنا تنتهي مهمة النواب الإلزامية بإبداء آرائهم بتسمية رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلّف، لكي تبدأ مرحلة قيام رئيس الحكومة المكلّف بتأليف الحكومة الجديدة.