في خضم هذا التحوّل الكبير، برز ميل لدى جزء وازن من قاعدة حزب الله الشعبية نحو ممارسة الاستعلاء والمكابرة بالنفس المطلق، وهذا ما يلاحظه أي مراقب لوسائل التواصل الاجتماعي. هذا الاستعلاء قد يُبرره زهو هذا الجمهور بإنتصار منا هنا أو من هناك، خاصة في مواجهة منظومة دولية وإقليمية لا يستهان بها، لكن لا بد من التواضع، حماية للحزب وجمهوره ودوره.
ليس خافياً أن حزب الله بات يلعب دور المقرّر في الحياة السياسية بعد أن استطاع إيصال حليفه ميشال عون الى رئاسة الجمهورية (٢٠١٦) ومن ثمّ فوزه الى جانب حلفائه في الانتخابات النيابية (٢٠١٨)، ونيله الأغلبية النيابية، وبعدها تحكمه في تركيب حكومات عديدة وصولاً إلى حكومة سعد الحريري الجاري تأليفها حالياً.
وإذا كان هذا المسار هو مسار طبيعي لأي حزب سلطوي يراكم تجربةً شبيهة بتجربة حزب الله، فإنً مخاوف عديدة تبرز لناحية أن يكرر الحزب تجارب أحزاب وطوائف وجماعات بلغت من القوة أيضاً ما بلغه الحزب اليوم، وفي هذا الإطار، نلفت نظر القارئ إلى تجارب ثلاث سنقوم بعرضها، ولو بشكل موجز، أدناه.
أولاً، تجربة المارونية السياسية:
إستثمرت الطوائف المسيحية عامةً والمارونية خاصة حضورها التاريخي في صلب تأسيس الكيان اللبناني، واستفادت من تمركز البورجوازية فيها لتراكم حضوراً قوياً في المجالين الاقتصادي والمالي. تُرجم هذا الحضور بتأثير قوي في المجال السياسي الداخلي، فكان أن اتكأت هذه الطائفة أيضاً الى الدعم الغربي، ما جعلها قوية جداً في ميزان القوى السياسي في لبنان. بيد أنّ عناد أركان الطائفة وأحزابها السياسية ومكابرتهم، قد جعلاها تعرّض البلد للخطر وتالياً الانزلاق الى الحرب الاهلية، وذلك عندما رفضت التنازل ولو لمصلحة رزمة قليلة من تلك الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي كان ينادي بها طيف واسع من الأحزاب الوطنية واليسارية في مطلع سبعينيات القرن الماضي.
وفي سياق مسار تحولهم العميق في البنية الاجتماعية اللبنانية، تحوّل الشيعة من كونهم طائفة المحرومين في مرحلة ما بعد الإستقلال ولا سيما في ستينيات القرن الماضي الى حدّ تشكيلهم راهناً – الى جانب قوى وازنة أخرى – شريحة لا يستهان بها من ضمن البرجوازية اللبنانية. الدليل هو عندما طرح موضوع الـ”هيركات”، أو جعل من يملكون ودائع تفوق المليون دولار مساهمين بنسبة معينة من ودائعهم، إذ تبين أن حوالي سبعين بالمئة من هؤلاء المودعين هم من أبناء الطائفة الشيعية.
نحن اليوم أمام محاولة جدية متمادية لعزل حزب الله ومن خلاله الطائفة الشيعية وهو مسار بدأ في العام 2005 ولم يتوقف حتى يومنا هذا
أيضاً، تحوّل حزب الله ليس فقط الى عنصر دعم وقوة وإرتكاز للطائفة الشيعية، بل لمجمل النظام السياسي الطائفي في لبنان. وبدل أن يستثمر الحزب فائض قوته العسكرية والسياسية في اصلاح النظام وتطويره لانّ في هذا مكسب للمقاومة وعنصر حماية لها، إذا كان إنهيار النظام حتمياً، لجأ الحزب، وفي لحظة سياسية تشبه التجربة التي خاضتها المارونية السياسية، منذ خمسة عقود، إلى الإنخراط في مسار يفضي في نهاية المطاف إلى الحفاظ على النظام وصون حصته فيه، وهذا ما ظهر جلياً في موقفه المناهض لانتفاضة ١٧ تشرين/أكتوبر. ثمّ أنّ رفض الحزب اليوم – كما رفض قوى النظام الأخرى – لمسار التغيير ومعاندته له يشابه، الى حدّ كبير، تمسك حزب الكتائب بالنظام ومكتسباته فيه في مطلع السبعينيات، ما حدا باليسار، آنذاك، إلى حمل شعار عزل الكتائب. نحن اليوم أمام محاولة جدية متمادية لعزل حزب الله ومن خلاله الطائفة الشيعية وهو مسار بدأ في العام 2005 ولم يتوقف حتى يومنا هذا.
ثانياً، تجربة المقاومة الفلسطينية:
إنّ دخول عامل المال والثراء الشديد لبعض القيادات الفلسطينية المناضلة بدءاً من أواخر ستينيات القرن الماضي أدى الى انسلاخ تلك القيادات عن القاعدة الشعبية الحاضنة للمقاومة الفلسطينية، فبرز ميل لدى بعض المنظمات الفلسطينية (وبعض القيادات فيها) إلى ممارسات (تتصل بفائض القوة طبعاً) كانت أبعد ما تكون عن المقاومة وثقافتها وأدبياتها. كما أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات (الرئيس الفعلي للبنان حتى العام 1982، كما حزب الله الرئيس الفعلي للبنان اليوم) كان قد ساهم في “تفريخ” كم هائل من الفصائل والمنظمات في الوسطين الفلسطيني واللبناني لقبّها العديد من الصحافيين بـ”الدكاكين” (اليوم يعيد حزب الله تكرار التجربة من خلال بعض دكاكين “السرايا اللبنانية”)، وأدى ذلك إلى نشوء طبقة من المنتفعين الذين يدورون في فلك المقاومة الفلسطينية، من دون أن يكونوا بالضرورة أمناء على الرسالة والوجهة التي تحملها القضية الفلسطينية. الناظر إلى البيئة الاجتماعية لحزب الله، يستطيع أن يلاحظ صراعاً طبقياً بين شريحتين اجتماعيتين موجودتين في الحزب نفسه. الشريحة الاولى تضمّ ذوي الدخل المحدود من الطائفة الشيعية والتي كانت صمّام الأمان في التشكيل الاجتماعي التأسيسي للحزب في العام ١٩٨٢، وجل هؤلاء من فئة “الحرس القديم”. أمّا الشريحة الثانية، فهي من فئة “حديثي النعمة” الذين بدأوا بالتأثير في القرار السياسي، منذ إنخراط الحزب في المشهد الداخلي، غداة العام 2005.
في حقيقة الامر، فإنّ عنصراً أساسياً لفهم موقف حزب الله المناهض لانتفاضة ١٧ تشرين/أكتوبر، لا يمكن أن يكون بمعزل عن فهم أنّ الحزب فضّل آنذاك مراعاة “الاوليغارشية” التي تخص “جماعته” عوضاً عن إرضاء فقراء وميسوري الطائفة الشيعية، لانّ “أثرياء الحزب” هم الذين يمولون الحزب ونشاطاته ومؤسساته، فيضمن عبرهم استمرارية الحزب نفسه. وعلى منوال التجربة الفلسطينية، فرّخ حزب الله العديد من الهيئات والشخصيات التي أصبحت فيما بعد أبواق إعلامية له وهي في بعض الاحيان أدت إلى الإضرار بصورة الحزب ولم تدرّ الفائدة المرجوّة منها. وعندما كان الوضع المالي للحزب قوياً ومتماسكاً ومستقراً (كان هذا قبل انخراطه بالحرب السورية وزيادة الأعباء المالية والعسكرية وتراجع الدعم المالي الإيراني بسبب العقوبات الأميركية)، فرّخ الحزب تنظيمات سياسية ومنابر إعلامية وإقتطع ميزانيات شهرية للحلفاء، في مشهد يعيد التذكير بتجربة علاقة أحزاب الحركة الوطنية اللبنانية بالثورة الفلسطينية. فبرزت، كما في التجربة الفلسطينية، طبقة من “المنتفعين” لا تساهم فعلياً في حماية المقاومة والحزب الاّ بمقدار ما يُدفع لها، وذلك تحت طائلة نقل البارودة أو الإستعانة بمصادر مالية أخرى ولو كانت من عند “المعسكر الآخر” أحياناً.
إيمان حزب الله بوطنيته ولبنانيته يجب أن يسبقا أي أمر آخر، أمّا اعتبار هذا الامر أمراً ثانوياً طالما أنه يستمدّ قوته من قوّة إيران، فهذا افتراض يعرّضه للخطر حالما يحدث أي تضعضع في وضعية إيران كقوة إقليمية مؤثرة في لبنان والاقليم
هذا الامر حوّل الدفاع عن المقاومة (والحزب ضمناً) الى مهمة مدفوعة الاجر، بدل أن تكون نابعة عن قناعات وطنية وفكرية راسخة. اذاً، تسربّت مظاهر الثراء والفساد الى الحزب وبيئته ومؤسساته وبعض البلديات التي يستحوذ فيها الحزب على حصة كبيرة في عضويتها، وهذا ما ينبغي على الحزب التنبّه له، اذ أن صراعاً طبقياً قد يحصل في صفوف الحزب (وربما يحصل الان ونحن لا نعلم به بحكم طبيعة الحزب ونواته التنظيمية المغلقة وظروف عمله)، فيودي به الى التهلكة على غرار الكثير من الأحزاب والمنظمات التي لديها تجارب شبيهة بتجربة الحزب. لا يجوز أيضاً إغفال نقطة جزئية ولكنها جوهرية: برغم الأزمة المالية في لبنان، فإن معظم مؤسسات حزب الله تدفع للمتفرغين بالعملة الصعبة، وهذا المبلغ أياً كان رقمه، فإنه يحيلنا على مقارنة ظالمة لو سألنا إبن حركة أمل أو أي شخص في هذه البيئة ينال راتبه بالعملة اللبنانية التي صارت في الحضيض!
ثالثاً، تجربة الحزب الشيوعي اللبناني:
قد تبدو المقارنة ظالمة لهذا أو ذاك، لكن تدُلنا تجربة الحزب الشيوعي انّ أي مكوّن سياسي ومهما كان ظهره محمياً بفعل قوّة إقليمية ودولية، فإنّ حمايته السياسية لا تتحقّق الاً بمقدار انخراطه في النسيج الاجتماعي والسياسي الداخلي. نقول هذا مع العلم أنه لو قدّر للحزب الشيوعي أن يمارس فوقية في التعاطي السياسي مع شركائه في الوطن، فإنّه كان وبسهولة تامة قد فعلها. موازين القوى كانت تسمح له لان ظهره كان محميّاً من قوة دولية إسمها الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشرقي. طبعاً حدثت بعض التجاوزات والانتهاكات ابان حقبة الانتشار الكثيف والجماهيري للحزب وانخراطه في الحرب الاهلية، وما استتبعها من حمل سلاح، ولكن هذه التجاوزات تبقى ضئيلة جداً إذا ما قورنت بممارسات أحزاب أخرى توفرت لها الامكانيات نفسها التي يمتلكها الحزب الشيوعي، وهذا بشهادة أحزاب في اليمين واليسار معاً. وفي حالة الحزب الشيوعي اللبناني (96 عاماً)، وفي حال ارتكازه فقط على دعم الحليف السوفياتي، كان لينهار مع انهيار المنظومة الاشتراكية. صحيح أن ما أصابه أصاب معظم الأحزاب الشيوعية في العالم، لكنه إستطاع أن يحافظ على حضوره في حياة البلاد السياسية والاجتماعية والنقابية والثقافية، بعدما أسّس طوال عقود لبناء حاضنة شعبية وإجتماعية، فلا تكاد تخلو قرية لبنانية واحدة من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب من شيوعي أو يساري سواء كان يوماً في التنظيم الحزبي أو خارجه. أما في حالة حزب الله، فان الإستقواء الداخلي، وعدا عن آثاره اللبنانية المضرة، إنما يرتد سلباً على صورة قوّة إقليمية كبرى هي الجمهورية الإسلامية في إيران. وهنا نقول أنّ إيمان حزب الله بوطنيته ولبنانيته يجب أن يسبقا أي أمر آخر، أمّا اعتبار هذا الامر أمراً ثانوياً طالما أنه يستمدّ قوته من قوّة إيران، فهذا افتراض يعرّضه للخطر حالما يحدث أي تضعضع في وضعية إيران كقوة إقليمية مؤثرة في لبنان والاقليم. هل هذا الكلام فيه شيء من الطوباوية؟ نعم، لكن للجرس أن يُقرَع.. وللحزب أن يقرأ أو لا يقرأ.