هذا للتاريخ. أما الحاضر، فإن السودان يتوخى أن تكون إسرائيل مدخله إلى الولايات المتحدة وفك عزلته الدولية وإنتشاله من إنهياره الاقتصادي. ويبتغي الرئيس الأميركي دونالد ترامب توظيف التطبيع السوداني في حملته الإنتخابية التي تميل ولاياتها المتأرجحة ناحية خصمه الديموقراطي جو بايدن التي تحوّلت كورونا حليفاً موضوعياً له. بينما يسعى إلى إنتصاره الرمزي على “لاءات” الخرطوم.
لترامب ونتنياهو أن يزهوا بتتالي عمليات التطبيع. لكن بالنسبة إلى السودان لا يعني أن التطبيع ورفع إسمه عن لائحة الدول الراعية للإرهاب، سينهيان مشاكل تاريخية تضرب جذورها منذ إستقلال السودان عن بريطانيا وفك إرتباطه بمصر. تاريخ من الإنقلابات فتح شهية الجيش على الحكم منذ إبراهيم عبود في 1958، وجعفر النميري في 1969، وعبد الرحمن سوار الذهب 1985 (الوحيد الذي سلّم للمدنيين طوعاً)، وأتى عمر البشير ليطيح بهم في 1989 ويقيم حكماً إسلامياً بالشراكة مع حسن الترابي، قبل أن ينقلب عليه.
كان الجنرالات يغطّون فشلهم في الحكم بتغذية الصراع مع الجنوب المختلف دينياً. فنشبت حروب متعددة، إلى أن حاول البشير المطلوب بمذكرات جلب دولية، بسبب حروب الإبادة التي شنّها في دارفور، إسترضاء الغرب، فتنازل عن جنوب السودان عام 2011. لكنّ ذلك لم يحل المشكلة الإقتصادية على رغم أن السودان بات بلداً نفطياً في هذه الأثناء. وذهب البشير إلى حرب اليمن بعد 2015، علّه ينال حظوة اقتصادية من السعودية، بعدما كان وثّق علاقاته في السابق مع قطر. أيضاً لم تجد مشاكل السودان حلاً، ولا أفلحت وصفات صندوق النقد والبنك الدولي، وظلّت المجاعة تطرق أبواب السودان الذي تعتبر تربته الأخصب في العالم. لكنّ بلاءه مستحكم في جنرالاته.
الكلام الوارد في البيان الثلاثي الذي أعلن التطبيع هو كلام لا يعدو أن يكون كلاماً احتفالياً. هل من المتخيل أن يصبح أقصى طموح السودان أن تستعمره إسرائيل زراعياً. الإغتصاب الاسرائيلي لفلسطين بدأ بمستوطنات زراعية
وأزيح البشير الذي لم تقوَ عليه رياح الربيع العربي في 2011، في إنتفاضة متأخرة في نيسان/ابريل 2018. ذهب البشير وبقيت مشاكل السودان، والعسكريون لم يتركوا السلطة واضطروا تحت غضب الشارع إلى تقاسمها مع النقابات التي قادت الثورة المدنية. وكانت بدعة المجلس الإنتقالي السيادي حلاً وسطاً لمرحلة إنتقالية. وتولى رئاسة المجلس الفريق أول عبد الفتاح البرهان.
والبرهان، كان من الضبّاط الخلّص للبشير، كما هو الرجل القوي الآخر الجنرال محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي”، الذي كان العصا التي ضرب بها البشير في دارفور وكردفان. وهو مطلوب أيضاً للمحكمة الجنائية الدولية. لكنه الآن واجهة النظام. ويأمل في أن يغفر له تأييده للتطبيع الكثير من جرائمه.
عملياً، بقي الجيش السوداني ممسكاً بالسلطة وقدّم البشير كبش فداء. وها هم العسكريون يلعبون الآن ورقة التطبيع علّها تكون الممر إلى مساعدات أميركية ودولية أخرى، يعتبر السودان في حاجة ماسة إليها، وإلا سيبقى الشارع في حالة غليان وتالياً سيبقى الجنرالات في حالة قلق دائم من أن يلاقوا مصير البشير.
وفي الوقت الذي يعتقد الجنرالات وشركاؤهم المدنيون في الحكم أن التطبيع، سيكون الوصفة السحرية التي تحل المشاكل الإقتصادية للسودان، فإنهم واهمون إلى حد بعيد. والدليل هو حال مصر والأردن. الدولتان تقيمان علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل منذ عقود وتتمتعان بعلاقة تكاد ترقى إلى التحالف الإستراتيجي مع الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يجلب لهما الإزدهار الاقتصادي ولا حقّق لهما الرخاء الموعود.
ويخطىء حكام السودان إذا ما اعتقدوا أن التطبيع مع إسرائيل سيجلب الإزدهار. والكلام عن بداية جديدة هو من قبيل الكلام الإحتفالي. الكلام الوارد في البيان الثلاثي الذي أعلن التطبيع عن الشق الزراعي من العلاقات مع إسرائيل هو كلام لا يعدو أن يكون كلاماً احتفالياً. هل من المتخيل أن يصبح أقصى طموح السودان أن تستعمره إسرائيل زراعياً. الإغتصاب الاسرائيلي لفلسطين بدأ بمستوطنات زراعية. يا للتاريخ ومفارقاته.
والكلام الحقيقي هو الذي قاله نتنياهو في معرض تعليقه على إعلان التطبيع :”اليوم تقول الخرطوم نعم للسلام مع إسرائيل، نعم للإعتراف بإسرائيل ونعم للتطبيع مع إسرائيل”. أي عكس اللاءات الثلاث. بالنسبة لنتنياهو أمس انتهت حرب 1967 بإستسلام كامل.
بعد هزيمة 1967، خسر الفلسطينيون ومصر وسوريا والأردن الأراضي ودُمّرت أسلحتهم. ولم يتبقَ لدى العرب سوى هذه اللاءات الثلاث سلاحاً معنوياً.
أمس، سطا نتنياهو على هذه اللاءات ليستكمل عرس نصره.