استهل الكاتب يوسي ميلمان تقريره بالقول: في مايو (أيار) من عام 1955 أرسلت زينة هارمان، التي كانت في ذلك الوقت عضوة ضمن البعثة الإسرائيلية لدى الأمم المتحدة في نيويورك، برقية سرية مشفَّرة إلى وزارة الخارجية في القدس. نبَّهت الدبلوماسية هارمان الوزارة على الفور إلى حقيقة ما تنامى إلى عِلْمها من مصادر موثوقة من أن جامعة الدول العربية بصدد إعداد تقرير لتقديمه إلى الدورة العاشرة للأمم المتحدة المَعْنية بالمخدرات. ويزعم هذا التقرير أن إسرائيل ضالعة بعمق في تجارة المخدرات بمصر، إذ تصل المخدرات إليها من بلاد الشام، ومن ثم تعيد توجيهها إلى مصر.
وحذَّرت زينة هارمان رؤساءها في القدس من أن «الجامعة العربية تخطط للإعلان عن مذكرة حول وضع المخدرات الخطرة في الشرق الأوسط. وتزعم هذه المذكرة أننا ننشر أدوية تؤدي إلى السُكْر بغرض تقليل قوة العرب، ونحن بحاجة إلى الاستعداد لهذا الأمر».
إسرائيل تروِّج المخدرات في الدول العربية لإضعافها!
يؤكد الكاتب على أن معلومات زينة هارمان كانت صحيحة، فبعد ذلك التحذير بوقت قصير قدَّم العميد عبد العزيز صفوت الذي ترأس مكتب مكافحة المخدرات في جامعة الدول العربية التقرير إلى لجنة الأمم المتحدة. وكما كان متوقعًا، كان التقرير يدين إسرائيل بشدة متهمًا إياها بالتورط من خلال طريقتين متشابكتين بتسميم العرب عامة، والمصريين خاصة، بالمخدرات، وكذلك الأوروبيين والأمريكيين. وكانت الطريقة المزعومة الأولى طموحة ومكلفة وتتطلب بنية تحتية وخبرة غير عادية، ولكنها ماكرة بطبيعتها. وكانت الطريقة الثانية أبسط واقتصادية أكثر.
وقد وصف صفوت الطريقة الأولى على النحو الآتي: «يبدو أن هناك بالتأكيد مصانع صغيرة في إسرائيل لتصنيع الكوكايين، والهيرويين والمخدرات الصناعية، وأنه رُتِّب لتهريب هذه المخدرات إلى دول معينة في الشرق الأوسط، وأخرى في أوروبا باستخدام علامات مزيفة تحمل أسماء شركات كبرى. ورتبت إسرائيل أيضًا لتهريب المخدرات (البيضاء) إلى الولايات المتحدة بحرًا عن طريق قبرص وجنوى (إيطاليا) ومرسيليا (فرنسا)، وجوًا بوسائل عادةً ما تصل من إسرائيل».
ورواية صفوت عن الطريقة الإسرائيلية الثانية الأكثر بساطة لنشر المخدرات في أوساط الشعوب العربية ركَّزت على الحشيشة. وتقتضي هذه الطريقة من إسرائيل أن تعيد استخدام شحنات الحشيشة المهربة إلى البلاد من لبنان والأردن وضبطها، ثم إعادة تهريبها إلى مصر. وزعم التقرير أن «التحقيقات التي أجريتُها، أي صفوت، كشفت أن إسرائيل لا تنوي زراعة القنَّب الهندي (نبات علاجي له تأثير مخدر تستخرج منه الحشيشة) داخل البلاد، وترى أنه يكفي التعامل مع كميات الحشيشة الجاهزة المهربة إليها من لبنان والأردن».
ووُجِّهت إلى إسرائيل اتهامات مماثلة في السنوات التي تلت ذلك، وكان لها صدىً في الصحافة المصرية. إذ كتبت صحيفة الأهرام اليومية أنه خلال حملة في سيناء عام 1956 أخبر مهربو الحشيشة، وهم من بدو النقب على الأرجح الذين أسَرَهم الجيش المصري، المحققين أن جنودًا من الجيش الإسرائيلي سمحوا لهم بمواصلة سيرهم نحو مصر، وهم يحملون المخدرات المهربة. وبحسب الصحيفة «استخدم اليهود الآليات العسكرية لنقل الحشيشة إلى الصحراء أثناء احتلال سيناء».
إسرائيل تنفي: للاستخدام الشخصي فقط
بدورهم، نفى ممثلو إسرائيل المزاعم المصرية بقوة. وقالت وزارة الخارجية في بيان لها استند على معلومات من الشرطة الإسرائيلية: «إن القنَّب كان يُزرع في إسرائيل بكميات قليلة». وأضاف البيان: «وثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الحشيشة مخصصة للاستخدام الشخصي فقط، ولم تُهرَّب أي حشيشة زُرِعت في إسرائيل إلى الخارج على الإطلاق».
ويستدرك الكاتب قائلًا: ومع أن الشرطة الإسرائيلية اكتشفت عام 1954 أن الحشيشة كانت تُزرع في مخيمات عبور مختلفة في أنحاء البلاد، إلا أن الادِّعاء بعدم تهريب الحشيشة إلى الخارج كان كذبة وجزءًا من الحرب الدعائية التي دارت بين إسرائيل ومصر. وكانت هناك كميات كبيرة لا يستهان بها تُهرَّب من لبنان عبر إسرائيل لتصل إلى مصر، التي كانت في ذلك الوقت أكبر وأخطر عدو للدولة اليهودية.
ويضيف الكاتب: تَظهِر هذه الوثائق التي اقتبستُها في هذا المقال، وغيرها كثير، في كتاب جديد ورائع للمؤرخ حاجي رام من قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة بن غوريون في مدينة بئر السبع. وقد ركَّزت أبحاث رام لسنوات على إيران، وأوضحت كتبه ومقالاته أنه خبير في هذا المجال. ولا يوجد سبب واضح لتحويل بوصلة اهتمامه لدراسة الحشيشة في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني عليها ومن ثم في إسرائيل. وعلى أية حال تُعد النتيجة التي جاءت بعنوان «إسكار بني صهيون: تاريخ اجتماعي للحشيشة من فلسطين أثناء الانتداب البريطاني إلى إسرائيل» من طباعة جامعة ستانفورد عملًا أصيلًا وفريدًا من نوعه.
يوضح البروفيسور رام قائلًا: «قررتُ أن أكتب عن ذلك منذ حوالي 10 سنوات عندما رأيتُ بطريق المصادفة كثيرًا من المؤلفات البحثية حول تواريخ مختلفة عن المخدرات، والحشيشة، والأفيون، والكوكايين، وكذلك التبغ والقهوة، كل ذلك في أماكن وحِقَب مختلفة». وتابع: «لقد أمْعَنتْ تلك الدراسات النظر في تاريخ المخدرات باعتباره جزءًا من عوالم أكبر تتصل بالسياسات العابرة للحدود والاقتصاد والثقافة، والتي لا يمكن دراستها على نحو كافٍ إذا ميَّزنا الدولة باعتبارها الفئة الحصرية للتحليل. وانجذبتُ على الفور إلى دراسة هذا الموضوع».
تاريخ حديث نسبيًّا للمخدرات
يشير التقرير إلى أن رام اكتشف من خلال دراساته أنه مع أننا نعرف كثيرًا عن تاريخ المخدرات، وبخاصة الحشيشة والأفيون في أجزاء أخرى من الإمبراطورية البريطانية، لا سيما الهند ومصر، إلا أننا نعرف القليل جدًّا عنها في فلسطين وإسرائيل. «يتناول كتابي التحوُّل من فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني إلى دولة إسرائيل في الخمسينات والستينات من القرن الماضي من منظور تجارة الحشيشة باعتبارهت سلعة غير مشروعة تُهرَّب عبر الحدود، وتُتداول، وتُستهلك، وتُنظَّم، ويُختلف عليها اختلافًا لا نهاية له، وباعتباره أيضًا شاشة يَعرِض عليها البشر رغباتهم وقلقهم الطبقي والعِرْقي والجنساني».
يوضح التقرير أن رام أشار إلى أن الحشيشة بدأت تصل إلى فلسطين أثناء الانتداب البريطاني بكميات تجارية في العشرينات من القرن الماضي فقط، وعلى نحو أكثر تحديدًا في الثلاثينات من ذلك القرن. ويؤكد رام أن «تاريخ الحشيشة في فلسطين وإسرائيل فريد من نوعه، ولكنه يتمتع بأوجه تشابه مع تاريخ المخدرات في أماكن أخرى أيضًا». وفي حين أنه «كان استخدام القنَّب في عديد من الأماكن بالدول العربية، والإيرانية، وتركيا العثمانية في الشرق الأوسط منتشرًا بالفعل في العصور الوسطى، وعلى أبعد تقدير في أوائل العصر الحديث، يُعد استخدام الحشيشة في فلسطين وإسرائيل ظاهرة حديثة نسبيًّا.
لقد بدأ استخدام الحشيشة بالفعل على نحو فعَّال بعد اتخاذ تدابير عالمية غير مسبوقة للسيطرة على تعاطي المخدرات والإتجار بها في جميع أنحاء العالم. ووضع هذا التطور حدًا لمسار تهريب الحشيشة من اليونان إلى مصر. وللتعويض عن انقطاع إمدادات الحشيشة من اليونان، تحول مستهلكو المخدرات المصريون إلى المورِّدين من سوريا ولبنان. ونتيجةً لذلك تحوَّلت فلسطين أثناء الانتداب البريطاني عليها إلى حلقة وصل مركزية بين سلاسل السلع المخدِّرة التي امتدت من لبنان في الشمال إلى مصر في الجنوب».
ماذا عن طريقة التهريب؟
يقول البروفيسور رام: «كانت خطوط السكك الحديدية التي أنشأتها سلطات الانتداب في البلاد من أهم طرق تهريب الحشيشة. وفي عام 1942 امتد الخط الذي يربط مدينة القنطرة المصرية الواقعة على قناة السويس بمدينة حيفا إلى مدينتي بيروت وطرابلس اللبنانيتين. وتشعب الخط ومر عبر مدينتي اللد ويافا، وكان قريبًا من المركز الحضري الكبير لتل أبيب – يافا».
ويصور رام في كتابه عددًا من عمليات تهريب الحشيشة التي جرت ببراعة، ومرَّت عبر فلسطين الواقعة تحت الانتداب في طريقها إلى مصر. على سبيل المثال: هناك وصف مضحك لحادث محرج تعرَّض له جورج أمبروز لويد المفوض السامي البريطاني في مصر عام 1929. إذ إنه في طريق عودته من زيارة إلى دمشق، عثر على 24 حزمة من الحشيشة في عربة القطار الخاصة به. وبحسب تقرير نشرته صحيفة «دافار» العبرية، كان المشتبه بهم الأساسيون «حرَّاسًا وخَدَمًا مصريين» – موظفين في شركة السكك الحديدية.
عالم تهريب المخدرات: حنكة وجرأة وقسوة
يشير الكاتب إلى أن الحنكة والجرأة في عمليات التهريب كانت أحيانًا مصحوبة بالقسوة أيضًا. وفي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كانت الطريقة الشائعة هي استخدام قوافل الإبل.
وتشير تقارير بريطانية إلى قيام مهربين من قطاع غزة بوضع الحشيشة في اسطوانات من الصفيح وإجبار الإبل على ابتلاعها. وبعد أن تعبر القافلة الحدود وتصل إلى ملاذ آمن، تُذبح الإبل وتُفتح بطونها ليتسنى إخراج أسطوانات المخدرات منها. وكما أشار راسل باشا، المسؤول البريطاني البارز في مصر في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، والذي كان مسؤولًا عن مكافحة المخدرات في البلاد، كانت الخسارة التي يتكبدها المهربون من ذبح الإبل ضئيلة مقارنةً بالربح الذي يحققونه من بيع المخدرات.
وطبقًا لسجلات شرطة الانتداب، كان يمر حوالي 35 ألف بعير سنويًّا عبر معبر القنطرة الجمركي بعد عبور سيناء. وسرعان ما اكتشفت السلطات البريطانية هذا النمط من العمل، وبدأت جهودًا منهجية للتعامل معه. وعلى هذا الأساس ركَّبوا في الأربعينات من القرن الماضي أجهزة تعمل بالأشعة السينية في القنطرة من أجل الفحص العشوائي للإبل التي كانت تعبر الحدود.
الزراعة والتهريب عبر البحر
يشير الكاتب إلى أنه في حالاتٍ أخرى، ومن أجل تقليص المسافة التي يتعين اجتيازها، بدأت عصابات المهربين بزراعة الحشيشة في الحقول المحيطة بمدينتي طولكرم وجنين، وفي الضفة الغربية المحتلة اليوم. وكانت هناك حيلة أخرى لتهريب المخدرات عن طريق البحر من موانئ في لبنان (مثل: بيروت وصيدا) عبر منطقة رأس الناقورة إلى عكا وحيفا، وحتى إلى أماكن أبعد مثل غزة والعريش. وردًا على ذلك أنشأت الشرطة قوة خفر سواحل صغيرة، كانت مواردها ضئيلة وغير فعَّالة إلى حد كبير.
وردًا على سؤال من الصحافي يشير إلى أن جهود شرطة الانتداب لاحتواء تلك الظاهرة باءت بالفشل إلى حد كبير، يجيب البروفيسور رام: «هذا صحيح. كانت شرطة الانتداب مشغولة بعدد من المهام المُلِحة، وميزانيتها محدودة. ونتيجةً لذلك كانت قوة الشرطة شبه عاجزة في جهودها لوقف الإمدادات والتجارة الضخمة في الحشيشة التي تعبر فلسطين في طريقها إلى مصر».
ويوضح الكاتب أنه في وقت مبكر من عام 1922 أشار دوجلاس داف، قائد شرطة الموانئ في فلسطين، إلى أن المهربين «ليس لهم كُبَراء يمكن التفاوض معهم.. ولا يخافون من الله، ولا من البشر، ويفعلون أي شيء من أجل كَسْب بضعة قروش». وأيَّده في ذلك كلود سكودامور جارفيس، حاكم سيناء البريطاني آنذاك، قائلًا في يأس: «إن وقف تهريب الحشيشة يشبه إلى حد ما محاولة سد مجرى مائي بحاجز طيني – بمجرد أن تسد ثقبًا واحدًا تدخل عليك المياه من ثقبٍ آخر».
من سوريا ولبنان إلى مصر
وجد تقرير صادر عن شرطة فلسطين عام 1947 أن «الحشيشة والأفيون هما المخدران الرئيسان اللذان يُهرَّبان على نحو غير قانوني عبر فلسطين وصولًا إلى مصر، وفي معظم الحالات تأتي الحشيشة من سوريا ولبنان». وبالإضافة إلى عدم احترام الحدود، لم يكن المهربون مقيدين بدين أو جنسية. ولم يقتصر الأمر على العرب فحسب، بل شارك أيضًا يونانيون، وإيطاليون، وبلغاريون، وقبارصة، على سبيل المثال لا الحصر، في تهريب المواد المحظورة، وأحيانًا شارك في ذلك جنود وضباط بريطانيون متمركزون في قواعد عسكرية في فلسطين ومصر.
ومن وقت لآخر كما تشهد التقارير الرسمية والصحافية، تورَّطت أسماءٌ لها صلات بعصابات يهودية في عمليات تهريب المخدرات، على سبيل المثال: ديفيد شاماي، وتيودور شاميت، وألكسندر رودينتسكي. وانضم بعضهم إلى عصابات عربية وتعاون معها. وهنا وهناك، ذكرت التقارير أيضًا أن يهودًا خدموا في الجيش البريطاني بمصر كانوا ممن اشتركوا في تهريب المخدرات أو بيعها.
من هم المستهلكون في فلسطين؟
يقول رام: «تمثلت إحدى نتائج طريق التجارة الجديد من لبنان وسوريا إلى مصر في ارتفاع كبير في استهلاك المخدرات بين الطبقة العاملة الحضرية من العرب في فلسطين، مما يؤكد أن التجاور والألفة والتوافر غالبًا ما تلعب دورًا في ذلك. وهكذا حلَّقت في الثلاثينات من القرن الماضي سحابة كثيفة من دخان الحشيشة المُحترِق فوق يافا، وحيفا، والقدس، وعكا، ونابلس، وطبريا، والرملة، واللد، وحتى فوق تل أبيب، أول مدينة عبرية».
هل تستهلك تل أبيب الحشيشة أيضًا؟
ويستطرد رام مؤكدًا: «نعم. قُدِّمت الحشيشة للزبائن في المقاهي، بدايةً من ثلاثينات القرن الماضي، وكان ذلك أولًا في المدن العربية أو المختلطة مثل حيفا، وعكا، ونابلس. وتشير الأوصاف في الصحافة والوثائق الرسمية إلى المقاهي التي كان يرتادها عرب من الطبقة الدنيا. لكنني وجدتُ أيضًا أدلة على أنه منذ الحرب العالمية الثانية كانت المقاهي في قلب تل أبيب تقدم الحشيشة للزبائن اليهود”. (…)
المخدرات والأمن القومي
لكن النفور المزعوم من المخدرات (في المجتمع اليهودي) توقف عندما تعلق الأمر بالأمن القومي. ووفقًا لوثائق شاي (Shai)، ذراع الاستخبارات، ومكافحة الجاسوسية التابع لـ«الهاجاناه»، وهي جيش الطائفة اليهودية في فلسطين ما قبل الاستقلال، كانت التنظيمات المسلحة المنشقة – إرجون وليحي (المعروفة على نحو أكثر باسم شتيرن) – ضالعتَيْن في عمليات تهريب المخدرات.
وكان لدى شاي ملفات شخصية عن أفراد هذه المنظمات، وبعضها يذكر أسماء الأعضاء الذين يتاجرون في الحشيشة لتمويل أنشطتهم. وذكر تقرير في صحيفة «معاريف» في 11 مايو (أيار) 1948، قبل ثلاثة أيام من إعلان إسرائيل استقلالها، أن «المنظمات الصهيونية هرَّبت أسلحة من لبنان وسوريا» بمساعدة الأموال التي حصلت عليها من صفقات الحشيشة. وقبل ذلك بثلاث سنوات، ذكرت صحيفة «هتسوفيه» التابعة للحركة القومية الدينية، أن عصابة عسكرية يهودية (إشارة إلى إرجون أو ليحي) اعتُقلت في مصر بتهمة «تهريب الحشيشة والأفيون على نطاق واسع».
وبحسب معلومات أخرى، لتأمين المجهود الحربي اليهودي للتنظيمات السرية عام 1945، كانت الحشيشة تُهرَّب في طائرة تطير بين مصر وفلسطين. وفي عام 1964 أورد الصحافي أفييزر جولان في صحيفة «يديعوت أحرونوت» شائعات مفادها أن «المنظمة الصهيونية شبه العسكرية إرجون ضالعة في تهريب الحشيشة إلى مصر لتمويل حربها».
الحشيشة في القمة
وذكر الكاتب أن المخاوف من أن تعاطي المخدرات قد يُلوِّث المجتمع اليهودي ويُفسدُه تلاشت عقب إقامة دولة إسرائيل وبعدما وضعت حرب الاستقلال أوزارها. وأعربت السلطات الرسمية الناشئة عن تفاؤلها بأن إغلاق الحدود مع الدول المجاورة وقطع الرابط الجغرافي بين لبنان ومصر سيحول دون استمرار تهريب الحشيشة وغيره من العقاقير المخدرة عبر الطرق السابقة.
وتباهى تقرير أصدرته شرطة إسرائيل في عام 1948 قائلًا: «كانت أرض إسرائيل، في السابق، ممرًا رئيسًا لتدفق المخدرات الخطرة وكانت الغالبية الساحقة من المهربين والزبائن من العرب. وبسبب قطع العلاقات مع الدول المجاورة، لم تعد إسرائيل سوقًا مفتوحًا أمام تهريب المخدرات الخطرة».
بيد أن حالة التفاؤل هذه تحولت إلى حالة من التشاؤم، في غضون مدة وجيزة. واستُخدِمت الطرق القديمة مجددًا عن طريق البحر والبر. وبلغ العداء بين إسرائيل وجيرانها آفاقًا جديدة، لكن ذلك لم يمنع تجار المخدرات من الاستمرار في عبور الحدود.
وألمح الكاتب إلى أن موجات الهجرة اليهودية من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أدَّت إلى تنامي مخاوف انتشار تناول الحشيشة. إذ كان بعض المهاجرين يتناولون الحشيشة في بلدانهم الأصلية وجلبوا معهم هذا السلوك إلى إسرائيل. واكتسب آخرون، من الجيلين الأول والثاني من المهاجرين الشرقيين (ويُقصد بهم اليهود القادمون من دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا)، هذا السلوك في إسرائيل نتيجةً للتمييز العنصري ضدهم وتهميشهم في المجتمع اليهودي؛ حيث كانوا يقطنون مخيمات المرور العابر والمدن النائية والفقيرة.
بين المهاجرين والمخدرات
ونتيجةً لذلك – بحسب الكاتب – أصبحت المخدرات «أزمة» يهودية، في حين كان يُنظر إليها في السابق على أنها بالأساس «مشكلة» عربية. وامتزجت هذه الظروف مع تعامل مؤسسات الأشكناز مع القادمين الجدد بمزيد من الازدراء، وكانوا ينظرون إليهم باعتبارهم مُتخلفين وبدائيين على أية حال. وأدَّى الجمع بين المخدرات واليهود الشرقيين إلى زيادة كثافة القوالب النمطية، والاستشراق، والتجريم الذي عانى من ويلاته المجتمع في إسرائيل.
وأضاف الباحث حاجي رام قائلًا: من هذا المنطلق، لم تكن الصلة، التي نُسجت خيوطها بين المخدرات ومجتمع المهاجرين في إسرائيل، تختلف كثيرًا عما كان من الممكن ملاحظته في دول أخرى. إذ ارتبط تعاطي الماريجوانا في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، ارتباطًا أساسيًّا بالمهاجرين المكسيكيين والسود القاطنين للمناطق العمرانية، الذين تخشاهم الطبقة الوسطى من ذوي البشرة البيضاء (…).
وصم المهاجرين بكل قبيح
وذكر تقرير شرطة إسرائيل عام 1951 أن «هناك ثمة عناصر إجرامية اخترقت موجات الهجرة الهائلة»، وأضاف التقرير: «وصل عددٌ كبير من المهاجرين من دول فقيرة لم تكن ثقافتها وتركيبتها السياسية مستقرة وانضموا إلى الفئات الأدنى مرتبة أو ترعرعوا على القهر والإذلال». وكانت مؤسسة الأشكناز تنظر إلى اليهود القادمين من الشرق وتعاطيهم للمخدرات على أنه قد يجلب إلى إسرائيل «نظامًا من الفوضى». ووُصِف تعاطيهم للحشيشة على أنه «وباء»، كأن تعاطي المخدرات يشبه مرضًا يمكن أن يتفشى بسهولة بين اليهود الأشكناز من ذوي البشرة البيضاء.
ونوَّه الكاتب إلى أن الاشمئزاز المعلن عنه من تعاطي المخدرات لم يمنع أجهزة الأمن الإسرائيلية من استخدام المخدرات لتحقيق مآربهم الخاصة (…).
الحشيشة تصعد إلى أعلى قمة السياسة المصرية
وأفاد الكاتب أن هذه النغمة من الخطابات ترددت أصداؤها في إسرائيل في الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي. إذ صوَّرت الصحافة الإسرائيلية مصر على أنها دولة خُدِّر شعبها (أي أن هناك من سعى لنشر المخدرات بين أفراد الشعب المصري)، وأن تعاطي المخدرات في مصر لم يقتصر على الفقراء والتجار في الأسواق، أو في محلات الحلويات فحسب، بل وصل إلى أعلى المستويات حتى بلغ رأس الدولة؛ الرئيس جمال عبد الناصر.
وبعد بضع سنوات، ذكر ملف التقييم النفسي الذي أعدَّه شمعون شامير، الأكاديمي والدبلوماسي المتخصص في شؤون الشرق الأوسط في تقرير لقسم الأبحاث في المخابرات العسكرية الإسرائيلية، أن الرئيس الراحل أنور السادات كان يتناول الحشيشة أيضًا.
ويرى الكاتب أن الادعاءات القائلة إن حجم تناول الحشيشة في مصر، بحسب التقديرات في عام 1955 وصل إلى 8 ملايين مواطن، أو نحو ثلث شعب مصر آنذاك، أسدت معروفًا إلى آلة الدعاية الإسرائيلية، التي كانت تصوِّر مصر بوصفها دولة متخلفة في حين أن هذا يعزز من معنويات الشعب الإسرائيلي. وفي الوقت نفسه، أعربت المخابرات العسكرية تحت قيادة الجنرال حاييم هرتسوغ، عن قلقها لأن الحشيشة وغيرها من العقاقير المخدرة المتوفرة بكثرة في مصر ولبنان يمكن أن تجد طريقها إلى إسرائيل بسهولة أيضًا. ولن يؤدي ذلك إلى إفساد المجتمع الإسرائيلي وتقويض أخلاقه ومعنوياته فحسب، بل سيؤدي أيضًا إلى إضعاف جيش الدفاع الإسرائيلي وإعاقة قدراته القتالية.
واستشهد الكاتب بما أشار إليه رام في كتابه أنه لم يكن مستغربًا أن تتهم مصر الجيش الإسرائيلي بأنه متورط رسميًّا في تهريب المخدرات إلى الدول العربية بوجه عام، وإلى مصر بوجه خاص، من أجل إضعاف الشعوب العربية وتقويضِها.
شهادات تثبت تورط إسرائيل
وفي ختام التقرير سأل الكاتب حاجي رام: هل يمكنك أن تصدق مزاعم الجنرال المصري عبد العزيز صفوت وغيره في مصر بأن إسرائيل تُدير عمليات تهريب المخدرات مؤسسيًّا إلى الدول العربية؟
وهذا ما أجاب عنه رام قائلًا: «لا أعرف. ولكنني لا أستبعد ذلك، خاصة عندما نطالع تقارير نشرتها مصادر إسرائيلية تزعم أن إسرائيل حاولت تسميم آبار المياه في مصر وتطوير فيروسات ضد العرب الفلسطينيين في عكا عام 1948، والتقرير الذي أعدَّه تيد كروس عن ضابط في الاستخبارات الإسرائيلية عمل في مصر في المدة بين عامي 1948 و1950 وكان يُموِّل نشاطه عبر تهريب الحشيشة والتجارة فيه».
وتابع رام قائلًا: «كما أن شهادة شمشون مشبيتس، أحد مسؤولي الاستخبارات الإسرائيلية والتي وجدتُها في أرشيف منظمة الهاجاناه العسكرية الصهيونية، تُعد مادة جيدة تستحق الدراسة. وفي شهادته، قال مشبيتس إن المنظمة طرحت فكرة تهريب الحشيشة لتمويل إمداد الهاجاناه بالأسلحة، لكن المقترح أُرجئ إلى أجلٍ غير مسمى في نهاية المطاف. ولأنني لم أعثر على مزيد من الشهادات، فلا يُمكن معرفة ما إذا تبنى البعض هذه الفكرة أو استخدموا هذه الأساليب فيما بعد، بسبب الضيق والحاجة، سواء قبل عام 1948 أو بعد ذلك».
وأضاف رام: «فضلًا عن التقارير اللاحقة، من السبعينيات والثمانينيات، التي تزعم أن ضباطًا إسرائيليين، وبينهم مسؤولون في الاستخبارات، متورطون في تهريب المخدرات من لبنان. وعندما نستعرض تصرفات المخابرات الإسرائيلية، فمن المحتمل تصديق كثير من الأمور التي ارتكبوها وأنكروا فعلها أو رفضوا الاعتراف بها فيما بعد، لأنهم كانوا يشعرون بالخجل من أفعالهم ولا يُريدون أن يعلم الجمهور عنها شيئًا».
(*) نقلاً عن موقع “ساسة بوست“