ثمة حبس للأنفاس في العراق. الأسابيع الأخيرة من عهد دونالد ترامب ستبقى مفتوحة على سيناريوهات واحتمالات إقليمية وعراقية عديدة، وهو أمر لن يكون رهن مزاجية ترامب “الانتقامية”، بل تبعاً لحسابات الدولة العميقة، طالما أن المتعارف عليه هو أن القرار في المفاصل الأساسية يكون للمؤسسات وتحديداً للبنتاغون.
الرائج دوليا وإقليميا أن ترامب سيسعى خلال ما تبقى من أسابيع ولايته لاستثمار ما يمكن إستثماره لتوريث سيد البيت الأبيض الجديد ما يصعّب مهمته ويحول دون ترجمة جدول أعماله، ولا سيما الشرق أوسطي.
ووفق مصدر ديبلوماسي غربي واسع الإطلاع في بغداد، فإن العدد الرسمي للجنود الأميركيين في العراق هو 2500 ضابط وجندي، بعد أن تم سحب 700 منهم في الأشهر الأخيرة، غير أن المفاجأة التي لم تتضح كامل خيوطها أن واشنطن أدخلت 400 ضابط وجندي في الأيام الأخيرة إلى العراق تحت غطاء “قوات التحالف الدولي” من دون أن يتسرب هذا الخبر حتى الآن إلى الإعلام العراقي أو الأميركي. وقال المصدر لموقع 180 بوست إن هؤلاء الضباط والجنود أوكلت إليهم مهام خاصة، “ويعتقد انهم شاركوا في عملية عسكرية في الفلوجة (محافظة الأنبار) عبر غطاء جوي ووجود ميداني على الارض”.
تعزيز القوات الأميركية بدل تقليص وجودها، ولو بعنوان عملية في الفلوجة، يطرح الكثير من علامات الإستفهام، خاصة وأن جيمس جيفري، الذي غادر منصب المبعوث الأمريكي الخاص لسوريا، كان قد إعترف مؤخرا إنه تم تضليل ترامب، وأوضح في مقابلة مع صحيفة “ديفينس وان” المتخصصة في الشؤون العسكرية “أننا كنا نمارس لعبة المغامرة بعدم الإفصاح الصريح لقادتنا حول عدد القوات في سوريا، والرقم الحقيقي يفوق العدد المعلن مرات عديدة”.
الخطوة الأميركية بإراسال مئات الجنود في الظلام رفعت منسوب المخاوف العراقية والإيرانية، وترافقت مع حالة تأهب تشمل منذ أسابيع عديدة كل الفصائل العراقية الحليفة لطهران على جميع الأراضي العراقية.
يمسك مصطفى الكاظمي العصا من الوسط لإحداث توازن في علاقة بغداد بكل من طهران وواشنطن
على هذا الأساس، ثمة إعتقاد أن ترامب، إذا لم ينفذ ضربة بأهمية اغتيال الجنرال قاسم سليماني أميركياً، فإنه قد يستغل أي إستهداف جديد للمصالح الأميركية (السفارة الأميركية، الوحدات والقواعد الأميركية) من أجل تنفيذ رد عسكري ـ أمني غير مسبوق بعنفه ضد الفصائل العراقية المتحالفة مع طهران.
انطلاقاً من هذا المعطى الذي يظلّل المشهد العراقي، لا تبدو بغداد سياسياً وأمنياً وإقتصاديا بحالة جهوزية للتعامل مع مرحلة جو بايدن. ولمن يريد أن يقرأ العنوان، تكفي المشاهد التي تناقلتها مواقع التواصل الإجتماعي للمطر الذي أغرق العاصمة العراقية مع موجة الشتاء الأولى، فكيف حال البنى التحتية في باقي المدن والمحافظات العراقية؟
وفيما يمسك مصطفى الكاظمي العصا من الوسط لإحداث توازن في علاقة بغداد بكل من طهران وواشنطن، تتعدد عناوين الإنقسام ومنها كيفية مقاربة المسألة الاقتصادية، لا سيما بعد إعادة الحديث عن تفعيل الاتفاقيات الصينية – العراقية التي وقعتها حكومة رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي في أيلول/سبتمبر من العام المنصرم، والتي يرى البعض أنها كانت سبباً رئيسياً في اندلاع حراك تشرين/أكتوبر 2019.
هذه الاتفاقيات أتت في سياق مشروع ضخم تسعى الصين إلى تنفيذه، وهو مشروع “الحزام والطريق”، المُكمّل لمشروع طريق الحرير، وهو مشروع سيسمح للصين بالحصول على مردود مالي هائل، ما يجعل الاقتصاد الصيني متفوقاً على الاقتصاد الأميركي في السنوات القادمة، كما يؤكد مراقبون عراقيون. وقد خلفت الاتفاقية الصينية العراقية آنذاك عاصفة من الردود الداخلية، بعد ان اعتبر كثيرون أن دوافعها سياسية في إطار تخفيف ضغط العقوبات الاقتصادية الموجهة ضد إيران على وجه الخصوص، وبعد أن شدد البعض على مسارها غير الدستوري، على اعتبار أن أي اتفاقية دولية لا تصبح نافذة إلا إذا صادق عليها مجلس النواب، وهو ما لم يحصل حتى الآن، إذ أدرجتها حكومة عادل عبد المهدي فقط ضمن المشاريع المزمع تنفيذها في مشروع قانون موازنة العام 2020.
تردد أن زيارة قائد قوة القدس في الحرس الثوري الجنرال اسماعيل قاآني إلى العراق في الأيام الماضية كانت مخصصة للبحث مع رئيس الوزراء في الاتفاقيات العراقية مع السعودية والصين، علماً أن العراق يعمل على إبرام عدد من الاتفاقيات مع ايران في مجال الدفاع الجوي والبري والبحري
وبعد تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة، اهتم الأخير بالشق الاقتصادي اهتماماً مختلفاً، ان جاز التعبير، فوسّع مروحة الاتفاقيات الاقتصادية لتشمل الثلاثي المشرقي (مصر والأردن والعراق على أن ينضم إليه لبنان وسوريا والسلطة الفلسطينية) وأيضاً مع دول عربية مجاورة، كما وقع اتفاق التعاون الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، والذي رآه البعض بديلاً عن الاتفاقية الصينية السالفة الذكر.
وزاد الطين بلة إفتتاح منفذ عرعر الحدودي بين العراق والسعودية الأسبوع الماضي، واستئناف التبادل التجاري بين العراق والسعودية وتوقيع العراق 13 إتفاقية مع السعودية، بينها اتفاقيات تتعلق بالبنى التحتية للكهرباء والطاقة واستصلاح الاراضي واطلاق مشاريع زراعية. وقد أفرزت هذه المسألة جدلاً داخلياً واسعا، وصل إلى حدّ اعتبار هذه الاتفاقيات “تشكل خرقاً لسيادة العراق”، كما عبر عن ذلك رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، فيما اعتبرها اخرون نوعا من انواع “الاستعمار الجديد”، ما اضطر الكاظمي إلى الدفاع عن الاتفاقيات واستهجان هذه المواقف المزايدة سياسياً على حكومته، في حين اعتبر زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي أن الإصرار السعودي على التواجد غرب العراق في مقابل التواجد التركي شماله “يؤكد على أن العراق مقبل على مرحلة زيادة حدة الصراع التركي ـ القطري من جهة، والسعودي ـ الاماراتي من جهة أخرى”.
وتردد أن زيارة قائد قوة القدس في الحرس الثوري الجنرال اسماعيل قاآني إلى العراق في الأيام الماضية كانت مخصصة للبحث مع رئيس الوزراء في الاتفاقيات العراقية مع السعودية والصين، علماً أن العراق يعمل على إبرام عدد من الاتفاقيات مع ايران في مجال الدفاع الجوي والبري والبحري، وهذا ما بحثه وزير الدفاع العراقي الفريق جمعة عناد سعدون مع نظيره الإيراني أمير حاتمي، ومع قائد القوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد حسين باقري، وقد أكد الأخير أن العراق وإيران أعدا معاهدة لتعزيز قواتهما المسلحة رسميا.
وبعد الإعفاء الأميركي الجديد للعراق من العقوبات المفروضة على إيران مدة 45 يوماً إضافياً، يرى البعض أن ترامب يسعى لتعزيز الانقسام الداخلي عبر إعادة تمكين الفاعلين الايراني والصيني في العراق، في مقابل أيضاً تمكين الطرف السعودي.. وهذا ما سيخلق لبايدن مزيداً من الملفات الشائكة، في ظل ظروف عراقية قابلة للانفجار في أية لحظة.