في كتابه الأخير “أميركا القيم والمصلحة، نصف قرن من السياسات الخارجية في الشرق الأوسط”، يقدّم سفير لبنان الأسبق في واشنطن الدكتور عبدالله بوحبيب عرضاً للحقبات الرئاسية من ريتشارد نيكسون إلى دونالد ترامب. في هذه الحلقة وهي الثانية، يعرض الكاتب لطريقة تعامل باراك أوباما مع الأزمة السورية في العامين 2011 و2012، فماذا تضمنت حرفياً؟
“بدأت الحرب السورية تكبر تدريجاً ابتداء من النصف الثاني من آذار/مارس 2011. لم تمضِ اشهر قليلة قبل ان يباشر المجتمعان الاقليمي والدولي مشاركتهما فيها. انطلقت اهلية واصبحت اقليمية ثم دولية. المشاركة الاقليمية في الاشهر الاولى تولتها تركيا والسعودية والامارات وقطر من جهة، وايران وحزب الله من الجهة الاخرى.
دخل الرئيس باراك اوباما الحلبة السورية مباشرة في صيف 2011، بدعوته نظيره السوري بشار الاسد الى التنحي، معتمداً على تقارير الاستخبارات الاميركية التي رجّحت ان لا يختلف مصيره عن مصير الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس التونسي زين العابدين بن علي.
بعد عام على الحرب، عندما أُعلِم باراك اوباما ان النظام السوري ينقل سلاحاً كيميائياً الى مناطق قريبة من مواقع القتال، انذر الاسد بأن استعماله يُغيّر قواعد اللعبة، ما تُرجم انه خط احمر، تخطيه يعني تدخّلاً اميركياً مباشراً في الحرب السورية. رأى كثيرون ان انذار اوباما كان خطأ استرتيجياً، اذ من شأن ذلك تشجيع اطراف معادين للاسد على استعمال سلاح كيميائي لاجتذاب الولايات المتحدة الى الحرب.
معظم مساعدي الرئيس، الاعضاء في مجلس الامن القومي، ومعهم وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، ارادوا تدخّلاً اميركياً اكبر واوسع مما اراد الرئيس أوباما الذي اقتصرت مساهمته على تدريب الاستخبارات المركزية الاميركية عناصر الجيش السوري الحر وتمويله. عارض وزير دفاعه روبرت غايتس – الذي لبث في منصبه حتى صيف 2011 – التدخّل في سوريا قبل انهاء حربي افغانستان والعراق. كذلك خلفه ليون بانيتا الذي فوجىء باعلان الرئيس استعمال السلاح الكيمائي خطاً احمر صيف 2012. كان نائب الرئيس جو بايدن حذر اوباما اكثر من مرة من ان الاعلان عن الخط الاحمر مؤداه تورّط اميركي في الحرب السورية.
اتُهم الاسد باستعمال السلاح الكيميائي في غوطة دمشق في آب/أغسطس 2013. اعتبر كل اعدائه انه تخطى الخط الاحمر الذي رسمه له الرئيس الاميركي قبل عام، من ثم سينفذ الاخير تهديده بمعاقبة قاسية للنظام.
باستثناء كبير موظفي البيت الابيض، كانت غالبية مساعدي الرئيس في مجلس الامن القومي الاميركي تريد معاقبة نظام الاسد لاستعماله السلاح الكيميائي
باستثناء كبير موظفي البيت الابيض، كانت غالبية مساعدي الرئيس في مجلس الامن القومي الاميركي تريد معاقبة نظام الاسد لاستعماله السلاح الكيميائي، خصوصاً وان بعضهم يريد تدخّلاً في الحرب قبل ذلك الحدث. جون كيري وزير الخارجية في الولاية الثانية رغب في التدخّل في الحرب السورية مذ تسلمه مهماته. كان منزعجاً جداً من العنف الذي ارتكبه النظام في محاولته اخماد تمرّد بدأ سلمياً في الاشهر الاولى. اما المندوبة الاميركية لدى الامم المتحدة في الولاية الثانية، السفيرة سيمانتا باور، فكانت من المتحمسين للتدخّل في سوريا منذ البداية. متطرّفة لعقيدة «المسؤولية عن الحماية» التي تنص على حق التدخّل الدولي متى اقدم نظام بلد ما على قتل مواطنيه، اذ لا يشكل ذلك انتهاكاً لسيادة هذا البلد. راحت تشدّد على ان المتمردين في سوريا هم المواطنون العاديون يستحقون دعم اميركا. اشار آخرون في مجلس الامن القومي الاميركي الى ان هؤلاء هم المزارعون والحرفيون والمهنيون، واخذوا يقارنونهم بالرجال الذين قادوا حرب الاستقلال الاميركية، منذ اكثر من قرنين من الزمن، ضد الاستعمار البريطاني.
ركزت هيلاري كلينتون، عندما كانت وزيرة خارجية اوباما، على الردّ المبكر والحازم على عنف الاسد. عام 2014، بعدما تركت منصبها، قالت ان «الفشل في المساعدة على بناء قوة قتالية ذات صدقية من المتمردين (السوريين) الذين بدأوا الاحتجاجات ضد الاسد ترك فراغاً كبيراً شغله الجهاديون. الدول العظمى (كاميركا) تحتاج الى تنظيم المبادىء، وان لا تفعل الاشياء بغباء كما يردّد الرئيس اوباما، ليس مبدأ تنظيميا». اغضب كلامها الرئيس أوباما وردد مساعدوه كلامه ان الحرب العراقية – وقد دعمتها كلينتون حينما كانت تمثل ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ الفيديرالي – كانت عملاً غبياً. ادهش اوباما ديمقراطيين ليبراليين امثال كلينتون وكيري كانوا لا يزالون يؤيدون التدخّل في شؤون بلدان اخرى بعد التجربة العراقية المرّة، من دون تجاهل حرب فيتنام التي قاد كيري وقتذاك تظاهرات لوقفها. بعد ذلك التصريح اعتذرت كلينتون من الرئيس.
ألقى كيري خطاباً في قاعة وزارة الخارجية في30 آب/أغسطس 2013، مشدّداً على معاقبة الرئيس السوري لأن «صدقية الولايات المتحدة الاميركية وحلفائنا ومصالحهم المستقبلية» معرضة للخطر. اضاف: «انها ذات صلة مباشرة بصدقيتنا وما اذا كانت الدول لا تزال تصدّق الولايات المتحدة عندما تقول شيئاً. تلك الدول تراقب الولايات المتحدة لمعرفة ما اذا كانت سوريا تستطيع تجنب العقاب».
كان كيري يزور البيت الابيض بانتظام خلال تسلّمه مهمات وزارة الخارجية. عمل دائماً على محاولة اقناع الرئيس بانتهاك سيادة سوريا. طلب منه في مناسبات مختلفة اطلاق صواريخ على اهداف محدّدة في سوريا بغية توجيه رسالة الى النظام، الهدف منها ـ كما يقول كيري ـ ليس الاطاحة بالاسد بل تشجيعه وايران وروسيا على التفاوض من اجل السلام. في اعتقاده ان الرئيس السوري اراد الاشتراك في محادثات السلام عندما كانت قواته تتقهقر وتخسر المدينة تلو الاخرى. لكن حالياً بات لتحالف الاسد اليد الطولى على الارض، ولذا لا يبدي وحلفاؤه اي رغبة في اخذ مواقف الوزير الاميركي على محمل الجد للتفاوض بحسن نية. اعتقد كيري ان القليل من صواريخ كروز يعدّل في قرار الاسد وحلفائه.
عادل الجبير الذي عيّن وزيراً للخارجية بعد وفاة الامير سعود الفيصل، اخبر حكومته واصدقاءه في واشنطن ان قرار اوباما بضرب الاسد نهائي
ثبت اوباما ما ورد في خطاب كيري في وزارة الخارجية ببيان من البيت الابيض جاء فيه: «من المهم لنا ان ندرك انه عندما يُقتل اكثر من 1000 شخص، بمن فيهم مئات الاطفال الابرياء، من خلال استخدام سلاح يعارض استعماله حوالى 98 % من الانسانية الذين يشدّدون على ان من الواجب ان لا يستخدم في الحرب حتى، وليس ثمة اي اجراء، يعطي ذلك اشارة الى ان المعايير الدولية لا تعني الكثير، وهذا يشكّل خطراً على الامن القومي الاميركي».
عوّلت حجج استعمال القوة ضد الاسد لدى المسؤولين الكبار في ادارة اوباما، ومنهم بايدن وكيري، على الخط الاحمر الذي رسمه الرئيس قبل عام. نائبه جو بايدن قال ان على «الدول الكبرى ان لا تخدع» الحلفاء والاصدقاء حول العالم، خصوصاً وان هؤلاء، الى مساعدي الرئيس في البيت الابيض، لاحظوا ان اوباما هدّد النظام السوري بعمل عسكري متى استعمل الاخير السلاح الكيميائي. كذلك ركزت حجة وزارة الخارجية على «صدقية» الامن القومي الاميركي.
كان ثمة تأييد خارجي قوي لقيام الرئيس الاميركي بمعاقبة النظام السوري. باستثناء المستشارة الالمانية انجيلا ميركل، تحمّس الاوروبيون لما قد يقدم عليه. الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند ارسل مسبقاً حاملة طائرات الى شرق المتوسط للمشاركة مع خمس مدمرات اميركية استقدمت الى المنطقة لقصف الاهداف التي سيحدّدها البنتاغون تلبية لطلب اوباما. السفير السعودي لدى واشنطن عادل الجبير الذي عيّن وزيراً للخارجية بعد وفاة الامير سعود الفيصل، اخبر حكومته واصدقاءه في واشنطن ان قرار اوباما بضرب الاسد نهائي. اما رئيس حكومة بريطانيا دايفيد كاميرون، المتحمس كثيراً لضرب سوريا، فخذله البرلمان البريطاني في 29 آب/أغسطس 2013 بمنعه من المشاركة في الحرب.
بدا قرار البرلمان البريطاني انذاراً قوياً لاوباما حيال حاجته الى دعم الكونغرس، خصوصاً وان استطلاعات الرأي العام الاميركي تحدّثت عن معارضة شعبية كبيرة لاستعمال القوة في معاقبة سوريا. الى ذلك، ارتأى اوباما انه في حاجة ايضاً الى الشرعية الدولية، الى قرار من مجلس الامن كما فعل الرئيس جورج بوش الاب في حرب العراق الاولى، وكما فعل اوباما نفسه قبل بدء الحرب على نظام القذافي في ليبيا في آذار/مارس 2011. في تفكيره كذلك ان الرئيس جورج بوش الابن بقرار من مجلس الامن نجح في قيادة تحالف دولي ضد افغانستان بعد احداث 11 ايلول/سبتمبر، وفشل عندما اجتاح العراق من دون دعم المنظمة الدولية”.