إنه النظام.. وليس قانون الإنتخاب

بات لبنان دولة أكثر من فاشلة بإمتياز. لم تعد المقويات السياسية والاقتصادية والمالية، سواء أتت من الداخل وهي قد نضبت، أو من الخارج وباتت شحيحة، مفيدة للترميم. لا بد من الذهاب نحو الأصل: هذا النظام لم يعد صالحاً لوحدة لبنان واستقراره وازدهاره.

لقد عانى المكون المسيحي في لبنان من احباط كبير جراء قوانين انتخابات حقبة الوصاية السورية.. وبعدها. اعتبرت أغلبية المسيحيين ان تلك القوانين هدفت الى اقصائهم وتوزيع مقاعدهم النيابية بين امراء الميليشيات الاسلامية من جهة وبين الآتي من المقاولات والأعمال في السعودية الى السياسة اللبنانية الشيخ رفيق الحريري من جهة أخرى. تلك القوانين حتّمت مقاطعة معظم احزاب المكون المسيحي لأول إنتخابات نيابية أعقبت إتفاق الطائف، أي في صيف وخريف العام ١٩٩٢، وربما كانت السبب في اقصائهم وتهميشهم وإحباطهم طوال خمسة عشر عاماً.

وبرغم اجراء انتخابات عام ٢٠٠٥ بقانون مجحف من وجهة نظر أغلبية الأحزاب المسيحية، الا ان الجنرال ميشال عون استطاع وقتذاك ان يسجل انتصارا كبيرا في الدوائر ذات الاكثرية المسيحية التي ربحها وتلك التي خسرها. وبرغم ذلك، اقصي عن الحكومة التي دخلتها قوى لا تمثل شيئاً بالمقارنة مع كتلة ميشال عون التي تجاوزت العشرين نائباً.

جرّب المكون المسيحي ان يقنع نفسه أن تسوية الطائف انهت العد فعلاً، وهي الجملة التي لطالما كان يرددها رفيق الحريري في مجالسه في تسعينيات القرن الماضي. اصبح هناك اقتناع عند الكثيرين ان اتفاق الطائف اعترف ضمنا ان لبنان لا يمكن ان يعيش، كما يريده معظم اللبنانيين، من دون مكونه المسيحي، مهما قلّ عدده، وان لبنان يتحول الى بلد عربي آخر من دونهم. شدد صانعو اتفاق الطائف من المسيحيين والمسلمين على ان الوجود والدور المسيحيين يؤمنان تعددية لبنان ويؤكدان عروبته وانفتاحه على العالم.

“ما هو مصير العرب كشعب تاريخي في حال زوال النصارى من بينهم؟ العرب لن يبقوا عرباً على ارضهم التاريخية في حال زوال النصارى”. سؤال وجواب طرحهما المؤرخ الكبير الراحل كمال الصليبي في محاضرة القاها في الجامعة الاميركية في بيروت بدعوة من مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية في خريف ٢٠١٠. فماذا كانت النتيجة؟

كنا أمام خطاب أجمل من أن تصدقه على لسان كل رموز مرحلة ما بعد الطائف، أما الممارسة، فحدث ولا حرج. كانت النتيجة أن المسيحيين يعيشون اليوم حالة غير مستقرة. يخافون اندثار وجودهم تدريجياً بسبب الهجرة وتدني معدل الولادات عندهم وتزايد أعداد اللاجئين إلى بلدهم وإرتفاع معدل الولادات عند غيرهم، ما يسرع في تدني حضورهم ودورهم، حتى أنهم باتوا يدركون ان نظام بلدهم، وقد جهدوا لبنائه، طوال مائة سنة، لم يعد مربحاً ولا حامياً ولا حاضنًا لهم.

لذلك كله، من الطبيعي أن يستدرجهم قلقهم المقيم عندما يطرح قانون الانتخاب للنقاش كل فترة من الزمن. هم يخشون صيغة القانون الانتخابي الذي يجعل لبنان دائرة واحدة وخارج القيد الطائفي. هم يخشون ان اتفاق الطائف لم ينه العد، وان لبنان وطن التعددية والديموقراطية يوشك على الأفول.

نظامنا الحالي اخذ الكثير من جمهورية فرنسا الثالثة، وهي اليوم في طريقها الى الجمهورية السادسة. التشبث بهذا النظام كمن قرر أن يُعذّب نفسه. حان الوقت للقول شبعنا تحايلاً وتكاذباً. فلنذهب إلى صلب الموضوع: لا بد من محاولة تغيير النظام إذا كنا ضنينين بوحدة لبنان واستقراره وتنوعه

انهم مقتنعون ان تقلص دورهم ووجودهم وحضورهم يزيد حدة الصراع في لبنان بين  المكونين المسلمين (الشيعي والسني)، الأمر الذي سيؤدي مع الوقت والمزيد من احتدام الصراع بينهما إلى إنهاء لبنان كما عرفه المسيحيون اللبنانيون طوال سني مئويته الأولى. انهم يريدون لبنان وطن التعايش وليس وطن الموارنة او السنة او الشيعة. لبنان الفريد بتكوينه والمميز بوجوده، فليس هناك بلد اخر في العالم يتساوى فيه المسلم والمسيحي بالقوانين والأعراف.

يدرك المسيحي ان الخلاف بين السنة والشيعة يضعف الوجود المسيحي في لبنان، كما في كل بلدان شرق المتوسط، اكثر مما يضعفه الخلاف المسيحي الاسلامي الذي يجب تفادي كأسه المر أيضاً مهما كان الثمن..

ويخاف المسيحي ايضا ان تصبح الحرية والديمقراطية في لبنان شبيهة بتلك التي تمارسها دول عربية شقيقة، فكانت العملية الانتخابية مجرد ديكور لصناعة “دكتاتورية الاكثرية” أو إنتخابات الـ 99%.

لذلك بين الديموغرافيا القاتلة والوقائع القاهرة، يجد المسيحيون أنفسهم محاصرين. هل يمكن تبديد مخاوفهم بقانون انتخابي أم بإصلاحات دستورية جزئية أم بالحياد أم بالتحييد أم بالفدرالية؟

إنه النظام الذي اخترناه منذ الاستقلال حتى يومنا هذا. لقد تغيرت قوانين الانتخابات مرارًا ولم ننعم من بعدها باستقرار حقيقي ودائم. من هنا علينا البحث عن نظام جديد يريح كل المكونات ويعطي كل المكونات اللبنانية الاستقرار والطمأنينة والازدهار.

حتماً لن يعود لبنان إلى عصره الذهبي. لن يعود سويسرا الشرق. لن يتكرر الزمن الذي كنا نردد فيه عبارة “نيال من له مرقد عنزة في لبنان”. لكن من الجدير محاولة العودة الى تلك الاهداف.

إقرأ على موقع 180  "الجهاد" تفرض "وحدة الساحات".. ماذا عن "التحييد"؟   

نظامنا الحالي اخذ الكثير من جمهورية فرنسا الثالثة، وهي اليوم في طريقها الى الجمهورية السادسة. التشبث بهذا النظام كمن قرر أن يُعذّب نفسه. حان الوقت للقول شبعنا تحايلاً وتكاذباً. فلنذهب إلى صلب الموضوع: لا بد من محاولة تغيير النظام إذا كنا ضنينين بوحدة لبنان واستقراره وتنوعه.

ومن حظ لبنان واللبنانيين ورجال السياسة ان اتفاق الطائف رسم لنا خارطة طريق تتألف من ثلاثة بنود رئيسية: اللامركزية الموسعة، مجلس شيوخ ينتخب على اساس طائفي، ومجلس نواب على اسس غير طائفية او مذهبية. اما قوانين الانتخابات فيصبح النقاش حولها ثانويا ان تم الاتفاق على صيغة النظام الجديد. ولذلك من المستحسن ان تكون هذه المسألة بمثابة أولوية أولويات مجلس النواب وأن تقر هذه البنود كرزمة متكاملة.

لا يعفي ذلك لا السادة النواب ولا باقي المؤسسات من مسؤولية القيام باصلاحات إقتصادية ومالية ونقدية مطلوبة لبنانيا. ان الاصلاحات ضرورية من أجل محاولة إستعادة إستقرار لبنان. الإصلاحات ليست مطلبا فرنسيا ولا مطلب صندوق النقد او البنك الدوليين فحسب، هي اولا واخرا مطلب لبناني بامتياز، خاصة وأن تغيير النظام لن يحصل بكبسة زر ولا بين ليلة وضحاها.

Print Friendly, PDF & Email
عبد الله بو حبيب

وزير خارجية لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  روسيا في لبنان: حزب الله.. وموطىء قدم إستثماري