لبنان وروسيا.. “من يُغيّر عادته تقل سعادته”!

يتجادل اللبنانيون مرة حول الإتجاه الإقتصادي شرقاً، ومرة حول استراتيجية تسليح الجيش الوطني من الشرق أو من الغرب، وفي ثالثة حول تنويع خياراتهم السياسية وعما إذا كان قطب الرحى غربياً أو شرقياً، وحيال كل أصناف الجدالات، يبدو أن "السلف" من رجال السياسة اللبنانيين، عاش وطأة وسخونة الجدالات نفسها، ولكنها أفضت في النهاية إلى إنتاج "مقدمات قرار" لعلاقات لبنانية ـ روسية متنوعة.

في ذروة الحرب الباردة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، بين المعسكرين الشرقي والغربي، اتجه اللبنانيون نحو نقاش مستفيض حول السُبل الآيلة إلى خدمة المصالح العُليا للدولة اللبنانية، ومنها السياسة الخارجية وتسليح الجيش، وعلى ما تظهره شواهد وقرائن تلك المرحلة، أن القرار اللبناني كاد يستصوب “الخط الوسط”، بما يعني ذلك الإنفتاح السياسي والإقتصادي على الإتحاد السوفياتي والتزود بالسلاح من الغرب والشرق معاً، وهذا يفتح الحديث لإستعادة ذاكرة الماضي ومحاولات الإنفتاح اللبناني على “الكتلة الشرقية” من زاويتين:

ـ أولاً؛ في السياسة والإقتصاد:

ذكرت صحيفة “الحياة” في 12 ايلول/سبتمبر 1965، أن “لبنان يخطو خطوتين نحو الإتحاد السوفياتي” وفي التفاصيل “أن أديب الفرزلي ـ نائب رئيس مجلس النواب ـ أصدر قراراً بتشكيل وفد نيابي يزور موسكو، وكان الإتحاد السوفياتي قد وجه منذ سنوات دعوة للبرلمان اللبناني لزيارته، وقام سفير الإتحاد السوفياتي بزيارة الرئيس صبري حمادي مرات مراجعاً بشأن الدعوة، وأعضاء الوفد جوزيف سكاف ورينيه معوض وغالب شاهين وعبد العزيز شهاب ورشيد الصلح وفضل الله تلحوق وبهيج القدور وفؤاد البرط، ومن المقرر أن تستغرق زيارة الوفد أسبوعين، يعود بعدها بعض أعضاء الوفد إلى لبنان، بينما يعرج بعضهم الآخر على ألمانيا الشرقية تلبية لدعوة رسمية من حكومتها”.

هذه الخطوة السياسية، يضاف إليها خطوة اقتصادية ـ تجارية، وبحسب “الحياة” أن الإتحاد السوفياتي “سبق وطلب منذ سنوات عقد اتفاق جوي مع لبنان، وهكذا كان، فقد قرر مجلس الطيران ـ اللبناني ـ الأعلى الموافقة على إجراء مفاوضات بين لبنان والإتحاد السوفياتي وهنغاريا، بغية عقد اتفاق مع كل من البلدين على أساس المعاملة بالمثل والتبادل والتكافؤ في المنافع”.

وكما سيبدو لاحقاً، ان طريق الإنفتاح نحو موسكو، قد ارتسمت معالمه مع زيارة الوفد النيابي اللبناني إلى الإتحاد السوفياتي، وعلى ذلك، كتبت صحيفة “الأنوار” في التاسع عشر من أيار/مايو 1969 أن رئيس مجلس النواب صبري حمادي “سيقضي بصحبة وفد نيابي شهراً متنقلا بين عدة بلدان في أوروبا الشرقية، ثم يختتم رحلته بزيارة خاصة إلى الإتحاد السوفياتي لقضاء 15 يوماً متنقلاً بين معظم الجمهوريات السوفياتية”.

ولم تقتصر مساعي “التطبيع النيابي” بين لبنان والدول الإشتراكية على توجيه دعوات من الأخيرة إلى الجانب اللبناني، وفي هذا الإطار، قالت صحيفة “الأنوار” في الثالث من نيسان/إبريل 1973 “وصل إلى بيروت فريدريش إيبرت نائب رئيس مجلس الدولة ونائب رئيس مجلس الشعب في ألمانيا الديموقراطية على رأس وفد برلماني تلبية لدعوة رسمية من الرئيس كامل الأسعد، وتستغرق الزيارة ثلاثة ايام”.

ومن الواضح أن هذا الشكل من اشكال “التطبيع” بين بيروت وموسكو، ما كان لمساحته أن تشهد توسعا، لو لم تتوفر البيئة السياسية الفاعلة على مستويات محلية رفيعة، وسيلاحظ في الشواهد التالية، أن وفودا لبنانية ومن مختلف الإتجاهات، راحت تزور العاصمة الروسية بين حين وآخر، ومن أمثلة ذلك ما أشارت إليه صحيفة “الرأسمال” التي كان يرأس تحريرها باسيل دقاق وهو من أعمدة صحيفة “الحياة” في مرحلة ما قبل اغتيال مؤسسها كامل مروة، إذ أوردت في الواحد والعشرين من تموز/يوليو 1970 أنه “ما كاد رئيس مجلس النواب صبري حمادي يعود إلى بيروت من موسكو، حتى بدأ وزير الإقتصاد سليمان فرنجية زيارته لموسكو من أجل توثيق العلاقات الإقتصادية بين البلدين”.

وفي السياق ذاته، عرضت صحيفة “الأنوار” في عددها الصادر بتاريخ الخامس من آب/أغسطس 1971 وقائع زيارة وفد لبناني رفيع إلى الإتحاد السوفياتي، وقالت “سافر أمس إلى موسكو تلبية لدعوة رسمية، الرئيس رشيد كرامي وكمال جنبلاط وريمون إده وهاشم الحسيني على متن طائرة سوفياتية خاصة”، ولم تكتف “الأنوار” ولو عن طريق الملاطفة مع العميد ريمون إده ووصفته بـ”العميد الأحمر” بل ذهبت إلى نشر مضمون “المزاح” الذي جرى بين إده والسفير السوفياتي سرفار عظيموف الذي جاء مودعاً الوفد اللبناني في مطار بيروت، إذ قال إده للدبلوماسي الروسي “أهلا عظيموف”، فأجابه الأخير بالعربية “أهلاً ريمونوف”.

وبالتزامن مع هذا المسارالسياسي و”الإنفتاحي” بين لبنان وروسيا، ثمة مسار اقتصادي ـ تجاري كانت بدأت معالمه تظهر بجلاء، ومن عناوينه وتفاصيله ما يلي:

ـ في الخامس والعشرين من أيار/مايو 1969 تحدثت صحيفة “الأنوار” عن عرض “قدمه الإتحاد السوفياتي لتزويد لبنان بصواريخ وقذائف لمقاومة حبات البرد التي تتساقط على المزروعات”.

ـ في الرابع من نيسان/ابريل 1970 كتبت “الأنوار” عن جولات التفاوض اللبناني ـ السوفياتي حول الإتفاقات التجارية وقالت “استؤنفت قبل ظهر أمس في وزارة الخارجية المباحثات بين لبنان والإتحاد السوفياتي بشأن عقد اتفاق تجاري جديد بين البلدين، وكانت الجولة الأولى قد جرت في آذار/مارس الماضي، والإجتماع المقبل في 10 نيسان/ابريل الجاري”.

ـ في الثامن من آب/اغسطس 1971، كتب رؤوف ابو زكي في “النهار” فقال “وصفت مجلة التجارة الخارجية السوفياتية معرض المنتجات اللبنانية الذي يقام حاليا في موسكو بأنه الحدث المهم الثاني في العلاقات بين بيروت وموسكو، وإذا استثنينا التفاح والبرتقال والحامض، فإن المعروضات الأخرى من المنتجات الصناعية اللبنانية، يمكن أن تلقى رواجاً في الأسواق السوفياتية، وهي: اصناف صناعة المأكولات، الألبسة الخارجية والداخلية، النسيج، البرادات، مكيفات الهواء، الصناعات الزجاجية، الأواني المطبخية، كل أصناف المصنوعات الجلدية، السجاد، التبغ والتنباك، صناعات البلاستيك، الدهانات، أبواب الألومنيوم، قطع غيارالسيارات، الأسمدة الكيميائية، مساحيق التنظيف، وبالإجمال فإن عدد المعروضات هو 150 صنفاً من إنتاج 50 مؤسسة صناعية لبنانية”.

إقرأ على موقع 180  في لبنان.. الصيت تركي والنفوذ فرنسي!

ـ في الثامن والعشرين من آب/أغسطس 1970، أشارت صحيفة “نداء الوطن” إلى اجتماع عقده “مدير العناية الطبية في وزارة الصحة ـ اللبنانية ـ فوزي المعلولي، مع عدد من المسؤولين اللبنانيين والسوفيات، وناقش الطلب الذي قدمته السفارة السوفياتية في بيروت إلى وزير الصحة بغية إدخال أدوية إلى لبنان من الإتحاد السوفياتي، وبعدما استوضح الجانب السوفياتي الشروط الواجب توافرها، تم الإتفاق على إرسال نماذج  من هذه الأدوية كي تدرسها اللجنة الفنية في وزراة الصحة اللبنانية”.

ـ في الرابع من أيلول/سبتمبر 1971، أفردت مجلة “أنباء موسكو” حيزا واسعا لزيارة وفد من بلدية بيروت إلى موسكو، وأوضحت “ان مجلس بلدية بيروت يدرس إمكانات بناء المترو، ولذلك اطلع بشكل مفصل على مترو موسكو، وقال رئيس الوفد اللبناني بعد مشاهدة الآلات التي تُستعمل لتنظيف المدينة، أنه يمكن استغلال نفس الآلات في بيروت”.

ـ ثانياً؛ في تسليح الجيش اللبناني:

لعل زيارة وزير الدفاع اللبناني الياس المر إلى العاصمة الروسية موسكو في كانون الأول/ديسمبر 2008، وإعلانه من هناك عزم الدولة الروسية على تقديم 10 طائرات مقاتلة من نوع “ميغ 29″ ما زالت عالقة في أذهان اللبنانيين، لكن شيئاً من هذا لم يحدث لأسباب لبنانية، حيث ارتأت بيروت لاحقاً استبدال الـ”ميغ” بالمروحيات، ولم يتحقق هذا الأمر أيضا لإعتبارات ملتبسة، لتستقر الخلاصة على ذخائر روسية لقوى الأمن الداخلي.

لكن، وقبل العام 2008 بعقود، اتجهت أنظار اللبنانيين نحو ضرورة تنويع خياراتهم التسليحية، فشكلت موسكو أحد هذه الخيارات، ومما تحفظه ذاكرة تلك المرحلة الوقائع التالية:

في السادس من آب/أغسطس 1971، صدرت صحيفة “النهار” بالعنوان التالي “فرنجية: سنتسلح ولا تهمنا هوية السلاح”، ونقلت عن الرئيس سليمان فرنجية قوله “خصصنا للجيش مبلغ 200 مليون ليرة وهذا المبلغ يجب أن يرتفع إلى 500 مليون دولار”، وكتب رؤوف أبو زكي (“النهار” 7 ـ 8 ـ1971) تقريره الثاني من العاصمة الروسية موسكو فقال “إن السوفيات يتريثون في شراء المزيد من المنتجات اللبنانية بإنتظار انتهاء المحادثات الجارية حول بيع لبنان كميات من الأسلحة السوفياتية”.

وبموازاة المفاوضات بين بيروت وموسكو حول شراء لبنان أسلحة سوفياتية، كانت ابواب المفاوضات مفتوحة مع دول غربية أيضا، ولعل جولة عاجلة في محفوظات الصحافة اللبنانية تعطي فكرة واضحة عن اتجاه الخيارات المتعلقة بتنويع مشتريات السلاح من الغرب والشرق:

ـ تحدثت صحيفة “الحياة” في الخامس من آب/اغسطس 1971 عن أنباء بشأن “صفقة أسلحة بريطانية للبنان تضم 8 طائرات”، وأكد وزير الدفاع اللبناني الياس سابا ان “المفاوضات ما زالت جارية بين بريطانيا وغيرها”، وقالت ” الأنوار” في التاريخ نفسه إن “لندن وبيروت تعلنان عن مفاوضات لتزويد الجيش اللبناني بالأسلحة”.

ـ نشرت صحيفة “الحياة” في السابع من آب/أغسطس 1971 مقالة معربة عن صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية بعنوان “بريطانيا تنافس فرنسا وروسيا على تزويد لبنان بالأسلحة”.

ـ كتبت صحيفة “نداء الوطن” في السادس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر إن “صفقة الأسلحة الروسية تدخل مراحلها الأخيرة” وأوضحت أن “الياس سابا وزير المالية ووزير الدفاع بالوكالة، استقبل خلال أربعة أيام البعثة العسكرية السوفياتية الموجودة في لبنان للتفاوض بشأن صفقة أسلحة سوفياتية للجيش بحضور السفير السوفياتي عظيموف”.

وتحت عنوان “رماية لبنانية بمدافع سوفياتية” أبرزت صحيفة “الأنوار” في التاسع والعشرين من أيلول/سبتمبر 1972 في صفحتها الأولى عمليات “اختبار فعالية الأسلحة الجديدة من ثقيلة وخفيفة في حقل الطيبة في البقاع، وقد شملت أنواع الأسلحة التي استُعملت في هذه الرماية، مصفحات وناقلات جند فرنسية، سلاح الدفاع الجوي المضاد للطائرات من صنع يوغوسلافي، سلاح مدفعية الميدان من صنع سوفياتي، بنادق “إم 16″ و”فال” من صنع أميركي وبلجيكي”.

ماذا جرى بعذ كل ذلك؟

ما جرى أن لبنان دخل في اشتعالات الإنقسام المرير بعد اغتيال إسرائيل القادة الفلسطينيين الثلاثة في نيسان/ابريل 1973 في محلة فردان، وما تلاه في أيار/مايو من العام نفسه من اشتباكات بين الجيش اللبناني وفصائل فلسطينية، ليعقب ذلك أزمة حكومية حادة استمرت بشكل أو بآخر حتى اندلاع الحرب الأهلية البغيضة في نيسان/ابريل 1975.

أخيراً؛ صورة من الذاكرة:

نشرت صحيفة “الحياة” في آب/اغسطس 1970 رسما كاريكاتوريا لملحم عماد، يقول فيه السفير السوفياتي في بيروت سرفار عظيموف للرئيس سليمان فرنجية، وهما في رحلة صيد: “اطلقْ النار باليد اليسرى”، فأجابه فرنجية: “من يغير عادته تقل سعادته”.

ليس المطلوب تغيير العادات، المطلوب، بل الواجب تحديد المصالح.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  ميقاتي ومِحَن السياسة في "جمهورية الوحل"