مشروع عربي إسلامي أو هيمنة إسرائيلية مطلقة على المنطقة

في ظل تسارع الأحداث وتفاقم الأزمات في الإقليم، تزداد الحاجة إلى قراءة علمية وعملية تتجاوز الخطاب الانفعالي من أجل فهم طبيعة المشروع الإسرائيلي وأبعاده والعوامل التي مكّنته من فرض وقائع ميدانية وسياسية خارج السياق التاريخي.

لم تعد المسألة الفلسطينية قضية حدود أو نزاع على السيادة، بل أصبحت مختبراً لصراع أيديولوجي مفتوح بين من يؤمن بمبدأ العدالة التاريخية والتعدد الإنساني، ومن يسعى لفرض قراءة تلمودية متشددة للوجود والحق والهوية. ومن هنا تبرز وحدة الموقف العربي والإسلامي لا كضرورة وجدانية أو عاطفية، بل كآلية استراتيجية تمثل شرط البقاء أمام مشروع يسعى إلى إعادة هندسة الوعي الجمعي للأمة وإلغاء الحد الأدنى من حضورها السياسي والفكري.

إن وحدة الموقف أبعد من الشعارات السياسية والدينية، بل هي بنية فكرية مركبة تتداخل فيها عناصر الشرعية التاريخية، والمرجعية الفقهية، والمصلحة الاستراتيجية. فهي، بقراءة علمية، تعبّر عن التحام ثلاثة مستويات: الأول هو البعد العقائدي الذي يقوم على وحدة المقصد في الدفاع عن الحق والعدل؛ والثاني هو البعد الحضاري الذي يُترجم هذا المقصد إلى وعي جماعي يربط بين الذاكرة التاريخية ومفهوم العدالة الكونية؛ أما الثالث فهو البعد السياسي التنفيذي الذي يحوّل تلك المبادئ إلى سياسات ومواقف متكاملة. وفي غياب هذا التلازم بين المستويات الثلاثة، تصبح الأمة عرضة للتفكك، وتتحول قضيتها إلى مجرد ملف تفاوضي يخضع للابتزاز والضغوط.

ويكمن البعد البحثي الأعمق في أن وحدة الموقف لم تكن يوماً تدور حول رد فعل على عدوان خارجي، بل كانت على الدوام أداة داخلية لضبط التوازن بين المكونات المتعددة للأمة. فالتاريخ الإسلامي يقدّم نموذجا فريدا في هذا الإطار من خلال تجربة الإمام علي بن أبي طالب، الذي مثّل في زمنه نقطة التحوّل المفهومية بين الشرعية والفتنة، إذ جمع بين السلطة السياسية والوعي المعرفي، وبين الإيمان بالعدل والقدرة على إدارة التناقضات دون أن يسمح لها بتحويل الخلاف إلى قطيعة.

كان الإمام علي في جوهر فعله السياسي مؤسِّساً لفقه إدارة الاختلاف، لا لفقه الإلغاء أو الإقصاء. فحين واجه الخوارج، لم يختزلهم في موقف تكفيري، بل عاملهم بوصفهم تياراً فكرياً مضلّلاً لا عدواً خارجياً. منحهم ثلاثة حقوق تشريعية: حرية العبادة في المساجد، المشاركة في بيت المال، والأمان من القتال ما لم يبدؤوه. وفي المقابل، فرض عليهم ثلاثة التزامات مدنية: عدم إيذاء غير المسلمين، عدم الإخلال بالأمن العام، وعدم قتل النفس البريئة. بذلك أسّس الإمام أول عقد اجتماعي واقعي في الإسلام، جمع بين الحرية والمسؤولية، بين العدالة والأمن، فصاغ معادلة تحمي الجماعة دون أن تسحق المختلف.

هذا النموذج، بمضمونه الفقهي والسياسي، يُظهر قدرة الفكر الإسلامي على إنتاج حلولٍ للفتن الداخلية دون اللجوء إلى منطق الإبادة الفكرية. وهو درس يمكن استعادته اليوم في مواجهة الانقسامات العربية والإسلامية التي تمثل أخطر أدوات الاختراق الإسرائيلي، إذ يدرك العدو أن إضعاف الأمة من الداخل أكثر فاعلية من أي تفوق عسكري خارجي.

من الناحية البحثية، يمكن القول إن آلية الفتنة والانقسام الداخلي التي استغلها الخوارج في القرن الأول الهجري هي ذاتها التي توظفها إسرائيل في القرن الحادي والعشرين، وإن اختلفت الأدوات. فحينما يغيب وعي الجماعة ويضعف نظام المناعة السياسي، يصبح المجتمع أكثر استعداداً لتبني روايات وسرديات بديلة تصنعها الدعاية المعادية. إسرائيل، في جوهر مشروعها، تعمل على إعادة تعريف المفاهيم؛ الأرض، الحق، الدين، والأمن، عبر تحويل النصوص الدينية إلى ذرائع تاريخية تبرر الإقصاء والضمّ والاحتلال. وهنا تتضح ضرورة المواجهة الفكرية والعلمية التي تكشف زيف هذه الروايات، من خلال تفكيك بنيتها التفسيرية والتمييز بين النص الديني والتأويل السياسي.

لقد بُني المشروع الصهيوني على خلط منهجي بين اللاهوت والسياسة، وعلى ترويج قراءة مغلقة للتوراة تُسقط الأسطورة على الواقع وتحوّل الوعد إلى أداة استعمارية. أما وحدة الموقف العربي والإسلامي، فإنها تمثّل نقيض هذا المنهج لأنها تقوم على مبدأ التوحيد لا الاستعلاء، وعلى فكرة الأمة الجامعة لا الشعب المختار، وعلى الاعتراف المتبادل لا الإلغاء. وعليه، فإن الموقف الموحد لا يواجه إسرائيل فقط، بل يواجه بنيتها الأيديولوجية التي تجعل من العدوان هوية ومن الاحتلال فضيلة.

وتتعمق هنا القيمة البحثية لفكر الإمام علي، إذ لم يكن توحيده للأمة عملية سياسية فحسب، بل كان مشروعا معرفيا أخلاقيا يعيد تعريف مفهوم الشرعية على أساس العدل. فالشرعية لديه ليست في القوة ولا في العصبية، بل في مدى خدمة المصلحة العامة. هذه الفلسفة تضع الأساس لأي وحدة عربية وإسلامية حديثة، لأن الحفاظ على الموقف الواحد لا يمكن أن يتم بغير شرعية العدالة. من دونها يتحول التوافق إلى قيد، والوحدة إلى غطاء للهيمنة.

ومن الزاوية الاستراتيجية، يمكن القول إن وحدة الموقف تمثل نظام الدفاع الذاتي للأمة، تماما كما كانت سياسات الإمام علي تمثل نظام المناعة للدولة الإسلامية الأولى. فكما أن الجسد لا ينجو من المرض إذا اختل توازنه الداخلي، كذلك لا يمكن للأمة أن تصمد في وجه العدوان ما لم تُقم توازنا بين مكوناتها السياسية والمذهبية والثقافية. هذا المفهوم يمكن ترجمته اليوم إلى استراتيجية دفاعية تعتمد التكامل بين القوة العسكرية، الشرعية القانونية، العمق الثقافي، والإجماع الشعبي.

إقرأ على موقع 180  فلسطين مركز الشرعية.. هكذا يحكم العلم

إن الوحدة المنشودة ليست تطابقاً في الرؤى، بل تنسيقٌ في الأهداف والمواقف، بحيث تتشكل جبهة معرفية وسياسية قادرة على تعطيل مفاعيل الدعاية الإسرائيلية وتثبيت المرجعية القانونية والتاريخية للقضية الفلسطينية. ويقتضي ذلك بناء منظومة عربية وإسلامية موحّدة للبحث العلمي، تُعنى بدراسة الفكر الديني المقارن، وتفكيك الخطاب الصهيوني، وإنتاج سردية مضادة تستند إلى قيم العدالة والحق الطبيعي للشعوب في تقرير مصيرها. فالصراع لم يعد فقط على الأرض، بل على الذاكرة والوعي والرواية.

وفي المستوى العملي، فإن ترجمة الوحدة الفكرية إلى فعل مؤسساتي تتطلب وضع خطة استراتيجية موحدة تربط بين المحور القانوني (محاكم، لجان تحقيق دولية إلخ..)، والمحور الإعلامي (إعلام ناطق بالعربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية إلخ..)، والمحور الأكاديمي (مراكز بحثية مشتركة تُنتج معرفة أصيلة عن الصراع). كما يجب اعتماد نهج الحزم المتوازن في مواجهة الانحرافات الداخلية؛ أي رفض التحريض الطائفي، ومساءلة من يتجاوز الإجماع العربي والإسلامي في التطبيع أو التخلي عن الثوابت، تماما كما فعل الإمام علي حين جمع بين التسامح مع الخلاف الفكري، والحزم أمام العدوان على الجماعة.

في البعد القيمي، فإن الحلم الواقعي الذي يجمع بين المثالية والبراغماتية هو جوهر القوة الأخلاقية للأمة. فالوحدة ليست فقط شرط بقاء، بل هي معيار صدقية الرسالة التي تحملها الأمة في دفاعها عن العدالة وكرامة الإنسان. استلهام تجربة الإمام علي في هذا الإطار ليس استحضاراً للتاريخ فحسب، بل هو إعادة توظيف لروح فكرية ترى في العدل قاعدة القوة، وفي الرحمة أداة الردع، وفي وحدة الجماعة خط الدفاع الأول عن وجودها.

هكذا تتجلى وحدة الموقف العربي والإسلامي كـ”صمام أمان الأمة” في مواجهة مشروع يسعى إلى تزييف التاريخ وتفكيك الجغرافيا وإفراغ الوعي. فكما حفظ الإمام علي دولة الإسلام من الانقسام الأول، يمكن للموقف العربي والإسلامي الموحد اليوم أن يحفظ المنطقة من فتنة جديدة يُراد لها أن تكون مفتاحا لتكريس هيمنة إسرائيلية دائمة. إنها معركة الوعي قبل أن تكون معركة حدود، ومعركة البقاء قبل أن تكون صراع نفوذ.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  جورج بليك.. جاسوس ينتمي إلى الزمن السوفياتي