عشية حرب حزيران/يونيو عام 1967 كانت “إسرائيل” قد أكملت تجهيز مسرح العمليات بجوانبه كافة، الاستخبارية والعسكرية والنفسية والإعلامية والأهم من كل ذلك الحصول على “ضوء أخضر براق” (بحسب تعبير الكاتب رونين بيرغمان) من الإدارة الأميركية ممثلة بوزير الدفاع روبيرت ماكنامارا خلال إستقباله في واشنطن رئيس جهاز “الموساد” مائير اميت. وما كان ينقص إطلاق العملية العسكرية هو إيجاد الذريعة، ولم تخل جعبة الاستخبارات “الاسرائيلية” من هذا الموضوع، إذ إستطاعت أن تخرق الوعي الإجتماعي العام عبر تكثيف الحديث عن عمليات الفدائيين طوال شهر أيار/مايو وتكبير الخطر الوجودي الذي تمثله هذه العمليات على دولة الكيان (على الرغم من كل أشكال النكران السابقة التي مارستها والتي وصلت الى حد منع ذكر حركة “فتح” في الإعلام كمحرك ومنفذ رئيس لهذه العمليات) وذلك مقابل تكثيف الحديث عن الخطر العربي المتمثل بقيادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر وطروحاته الراديكالية.
وهكذا في الساعة 7:45 من صباح الخامس من حزيران/يونيو 1967 انطلقت حرب الأيام الستة بحملة قصف جوي مكثف نفذتها الطائرات الحربية “الإسرائيلية” على عشرات المطارات العسكرية في كل من مصر وسوريا والاردن مستندة الى المعلومات الإستخبارية الدقيقة التي كان وفرها لها جواسيس جهازي “الموساد” و”أمان” على مدى سنوات طويلة من التحضير للحرب، بحسب وصف بيرغمان، وفي خلال ساعات معدودة تمكنت المقاتلات “الإسرائيلية” تقريبا من تدمير كل طائرة حربية لدى مصر وسوريا والاردن، ومع انتهاء الحرب في العاشر من حزيران/يونيو كانت القوات “الإسرائيلية” قد تمكنت من زيادة مساحة الكيان “الإسرائيلي” بنسبة 300 في المئة عبر احتلالها لكل من الضفة الغربية والقدس ومرتفعات الجولان وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء، يقول رونين بيرغمان.
الحل بالنسبة لـ”يهودا اربل” قائد “الشين بيت” في القدس والضفة الغربية يكمن في قتل ياسر عرفات لا سيما بعد ان تمكن الاخير من الاطاحة باحمد الشقيري الذي عينه قادة الدول العربية رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية
يقول رونين بيرغمان انه في الوقت الذي كان “مائير اميت” يرى في الانتصار فرصة للسلام مع العرب فقد رأى ياسر عرفات (ابو عمار) ومعه خليل الوزير (ابو جهاد) انه بالامكان استغلال الهزيمة العربية وان الفشل المذل لقادة الدول العربية سيفسح في المجال امام الراي العام العربي لتقدم قادة شبابيين جدد شجعان وغير فاسدين، وكان رأي ابو جهاد ان هذه الهزيمة ستفتح الباب امام اطلاق حرب عصابات واسعة ضد قوات الاحتلال على مختلف الجبهات. وبعد عشرة ايام من انتهاء الحرب، يقول بيرغمان، اعلن كل من عرفات وابو جهاد من بيروت مواصلة الكفاح ولكن فقط من داخل الاراضي المحتلة، وتحقيقا لاعلانهما هذا فقد اجتاحت المناطق المحتلة موجة من هجمات الفدائيين قطاع غزة والضفة الغربية مطاولة في اهدافها منشآت مدنية كالمنازل ودور السينما والمصانع، ومع ذلك لم يتجرأ احد من قادة اجهزة الاستخبارات ان يطرح امكانية التفاوض مع قادة حركة “فتح” لا بل على العكس فان الحل بالنسبة لـ”يهودا اربل” قائد “الشين بيت” في القدس والضفة الغربية يكمن في قتل ياسر عرفات لا سيما بعد ان تمكن الاخير من الاطاحة باحمد الشقيري الذي عينه قادة الدول العربية رئيسا لمنظمة التحرير الفلسطينية عندما انشأوها في العام 1964. ومع وصول عرفات الى هذا الموقع الأول، صار ليس فقط قائدا لحركة “فتح” بل لكل فصائل المقاومة الفلسطينية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير وعين ابو جهاد منسقا لكل النشاطات العسكرية للمنظمة. ودأب عرفات منذ ذلك الحين على ارتداء الكوفية الفلسطينية بطريقة تظهر وكأنها خارطة فلسطين وليتحول بذلك الى رمز النضال الفلسطيني.
وينقل بيرغمان عن “ايهود اربل” قوله في مذكراته “ان قتل ياسر عرفات هو شرط لا غنى عنه لايجاد حل للمشكلة الفلسطينية” وقد ضغط “اربل” لتشكيل لجنة استخبارية ثلاثية لتحقيق هذا الهدف، ومن جهته، فقد اصدر منشورا بعنوان مطلوب (على طريقة افلام الكاوبوي) وتحتها رسم بخط اليد لعرفات مع شرح تفصيلي لمواصفاته يقول “قصير القامة، بين 155 و160 سم، اسمر البشرة، بدين ويتوسط رأسه بقعة جرداء، فيما باقي شعره يتخلله البعض من الشيب، حليق الشارب وذابل العينين مع حركة دائمة الى الخلف والى الامام”. ويقول بيرغمان، لقد حاولت القوات الاسرائيلية قتل عرفات عدة مرات خلال حرب الايام الستة وبعدها مباشرة، فبعد الحرب بايام عديدة، حدّد احد المخبرين لدى “الشين بيت” مكان وجود عرفات في المدينة القديمة في القدس ليس بعيدا عن بوابة يافا، فارسلت مباشرة قوة من الجنود للنيل منه حيا او ميتا ولكنه تمكن من الفرار قبل وصول القوة اليه بوقت قصير، وبعدها بيومين وبناء على معلومة من احد المخبرين داهم الجنود منزلا في قرية بيت حانين الواقعة شرقي القدس فلم يجدوا سوى رغيف خبز لم يقضم منه سوى بضع قضمات الى جانب صحن سلطة مع طحينة. وبعدها بيوم واحد تمكن عرفات من عبور احد الجسور على نهر الاردن متنكرا بزي امرأة قدمت نفسها بوصفها زوجة من كان يرافقها وهو أحد مرافقي عرفات!
ويقول بيرغمان ان هجمات الفدائيين تصاعدت بعد ذلك بوتيرة عالية واصبحت تتسبب بالكثير من الاصابات وايقاع الكثير من القتلى مضيفا انه بين انتهاء حرب الايام الستة وآذار/مارس عام 1968 (حوالي عشرة اشهر) قتل في هذه الهجمات 65 جنديا و50 مدنيا فيما جرح 249 جنديا و295 مدنيا، وقد كانت كل هذه الهجمات تنطلق من مقر قيادة حركة “فتح” في منطقة “الكرامة” جنوب وادي الاردن وكان ذلك يتسبب باشتباكات بين الجيشين الاردني و”الاسرائيلي” ويتسبب ايضا بتوتر شديد على طول الحدود مع الاردن ما يجعل الحياة على الجانب “الاسرائيلي” مستحيلة. وقد دفع هذا الامر قادة الجيش “الاسرائيلي” لان يطلبوا من رئيس الحكومة “اشكول” الموافقة على عملية عسكرية واسعة لكنه كان مترددا في ذلك. وهنا ينقل بيرغمان عن رئيس وحدة “قيصرية” زفي اهاروني قوله “لقد كان الموساد محبطا جراء هذه الهجمات التي تسببت بالشعور بالعجز لذلك قلت لفريقي فكروا من خارج السياق، فكروا بطريقة ما لقتل عرفات”.
بيرغمان: “بعد معركة الكرامة لم يعد احد يستطيع ان يشكك بوجود الامة الفلسطينية حتى لو واصلت اسرائيل نكرانها لهذا الواقع على مدى سنوات تلت، كما لم يعد احد يستطيع ان يشكك بان ياسر عرفات اصبح القائد الذي لا تشوب قيادته شائبة”
وهكذا فقد واتت “الموساد” فكرة قتل عرفات في كانون الثاني/يناير عام 1968 عبر عملية مركبة تضمنت شحن سيارة كبيرة من اوروبا الى بيروت حيث تحمّل بكمية كبيرة من المتفجرات وينقلها احد عملاء وحدة “قيصرية” برا الى دمشق متنكرا بصفة رجل اعمال حيث يركن السيارة على مقربة من مقر اقامة عرفات ليصار الى تفجيرها في الوقت المناسب. وقد حمل هذه الخطة رئيس “الموساد” مائير اميت الى رئيس الحكومة ليفي اشكول لكن الاخير لم يوافق عليها ورفضها رفضا قاطعا بذريعة ان من شأن هذه العملية ان تؤدي الى رد مشابه ومبرر ضد قادة سياسيين “اسرائيليين” لان عرفات بالاضافة لكونه “ارهابيا” بنظر اشكول فهو استطاع ان يتحول الى مسؤول سياسي، وهذا بحسب بيرغمان يعتبر نجاحا كبيرا لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
سرعان ما تبدد رفض اشكول تنفيذ عملية تهدف إلى قتل عرفات وذلك عندما إنفجر في 18 اذار/مارس 1968 لغم ارضي تحت حافلة نقل مدرسية وتسبب بقتل شخصين وجرح عشرة اطفال، فاقر اشكول ردا على هذا الهجوم القيام بعملية عسكرية واسعة في منطقة “الكرامة” وحولها ضد كل مقرات المنظمات الفلسطينية ومن ضمنها قيادة عرفات.
في اجتماع للحكومة المصغرة تحضيرا للهجوم على منطقة “الكرامة” عشية الهجوم، قال حاييم بارليف رئيس اركان الجيش “الاسرائيلي” انها ستكون عملية نظيفة لن يسقط فيها اي ضحايا في الجانب “الاسرائيلي”، وقد كلفت قوة خاصة من نخبة وحدات الكوماندوس في الجيش “الاسرائيلي” اسمها “سايريت متكال” بالقيام بعملية انزال بالهليكوبتر في 21 اذار/مارس في منطقة صحراوية متقدمة على مقربة من قاعدة “فتح” المركزية في منطقة “الكرامة” مع امر بسيط وواضح “شنوا هجومكم في وضح النهار وافرضوا سيطرتكم على المنطقة واعزلوا واقتلوا كل الارهابيين فيها”، يقول بيرغمان.
ولكن رياح التنفيذ جرت بما لا يشتهي المخططون، فقد كان نهر الاردن غزيرا في تلك الفترة ومحاطا بالاعشاب العالية والكثة على ضفتيه ما صعب امكانية تحرك القوات المجوقلة الداعمة لقوة الكوماندوس المهاجمة كما انه ونتيجة ضعف التنسيق بين القوى المهاجمة، رمت الطائرات الحربية قبل الوقت المفترض لها منشورات تدعو المدنيين الى الخروج من المنطقة ما افقد القوى المهاجمة عنصر المفاجأة وانذر المقاتلين الفلسيطينيين بوقوع الهجوم واعطاهم الوقت الكافي لتحضير انفسهم للمواجهة التي خاضوها بشراسة مشهودة. ومجددا تمكن عرفات من الفرار، متنكرا مرة اخرى بثوب امرأة، على دراجة نارية بعيدا عن المنطقة، يقول بيرغمان.
ويضيف الكاتب انه على الرغم من الفارق الكبير في عدد الضحايا في المعركة (قتل 33 جنديا اسرائيليا و61 جنديا اردنيا ومئة مقاتل فلسطيني بحسب بيرغمان)، فقد تمكن الفلسطينيون من الصمود والمواجهة وجها لوجه مع قوات الجيش “الاسرائيلي” اقوى جيش في منطقة الشرق الاوسط. وهذا يظهر من هو المنتصر الفعلي في المعركة. وقد صنعت هذه المعركة من الفدائيين اسطورة حيث “زعم الفلسطينيون انهم تمكنوا من اصابة وزير الدفاع الاسرائيلي موشيه دايان” وجعلت الاف الفلسيطينيون يطلبون الانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. ويقول مؤلف الكتاب “بعد معركة الكرامة لم يعد احد يستطيع ان يشكك بوجود الامة الفلسطينية حتى لو واصلت اسرائيل نكرانها لهذا الواقع على مدى سنوات تلت، كما لم يعد احد يستطيع ان يشكك بان ياسر عرفات اصبح القائد الذي لا تشوب قيادته شائبة”، على حد تعبير بيرغمان.