كان يفترض بحكومة حسان دياب، قبل أن تستقيل في آب/أغسطس الماضي، وربما منذ اليوم الأول لنيلها الثقة في مجلس النواب في شباط/فبراير الماضي اطلاق مشروع إستبدال الدعم بتعويض نقدي، لكنها تأخرت عشرة أشهر خسر خلالها مصرف لبنان من احتياطه الإلزامي نحو 6 مليارات دولار ذهبت في دولار مدعوم بسعر 1515 ليرة لزوم شراء المحروقات والدواء والطحين وسلة مواد وسلع غذائية.
وإذا أقر مشروع التعويضات، يفترض بالحكومة ادراج مجموع مبالغه في الميزانية العامة للدولة للعام 2021 وصرفها بالليرة. وسيفاقم ذلك عجز الموازنة البالغة نسبته 12 في المائة من الناتج في 2019، فيما لم تعرف أرقام العام 2020، لا سيما في ضوء تراجع تحصيل الإيرادات وفي الوقت نفسه تراجع الإنفاق فضلاً عن التعثر في دفع سندات اليوروبوندز.
ولتجنب طبع العملة في الفراغ، ومنع زيادة الدين العام المتفاقم أصلاً وهو أصل البلاء، يمكن تمويل الدعم النقدي بإيرادات من الضرائب والرسوم، لكن أي ضريبة ستفرض في الوضع الحالي “المنهار” من شأنها الضغط الإضافي على الاقتصاد المتراجع نموه بنسبة 19.2 في المائة وفقاً لتقديرات البنك الدولي للعام 2020، وسيشكل ضغطاً آخر على الناتج الذي فقد نحو ثلثيه في سنة واحدة، وفقاً لأرقام صندوق النقد الدولي. لكن اذا أقرت التعويضات من دون ايرادات ضريبية لتغطيتها ستتفاقم نسبة الدين الى الناتج بخطر مالي شديد لتزيد على 194 في المائة وهي النسبة التي قدرها البنك الدولي للعام 2020.
في المقابل، يمكن ادراج تغطية مبالغ التعويضات في سياق اصلاح ضريبي قد يبدأ من رفع الرسوم الجمركية على استيراد الكماليات والسلع الفاخرة والمنتجات التي يمكن تصنيعها محلياً بكلفة أقل من كلفة استيرادها او توازيها. ويمكن ايضا رفع الرسوم على سلع لا يتوافر تصنيعها محلياً في محاولة لدفع الصناعيين نحو انتاجها محلياً اذا توفرت خطة مدروسة لنشوء صناعات جديدة في البلاد. الى ذلك تضاف فرصة إصلاح النظام الضريبي برمته، والذي أفاد من تسهيلاته و”كرمه” وانخفاض معدلاته أصحاب الثروات في العقدين الماضيين، وهذا الإصلاح المنشود يرفع المعدلات بتصاعدية تدريجية باتجاه تكليف الأعلى دخلاً وأرباحاً من الأفراد والشركات، لتصحيح الخلل التاريخي في توزيع الثروة، وبالتالي تغطية التعويضات النقدية المقترحة للفقراء اليوم وغداً وعلى الأمد الطويل، مثلما يجب أن يشمل الإصلاح الحد الادنى للاجور.
كيف لوزارة اقتصاد ان تنجح في ضبط كبار التجار والطفيليين منهم وهي فشلت في لجم جشعهم ان لم نقل شجعتهم بتواطؤات معينة ضربت أطنابها خلال الأشهر الماضية في لعب بالفواتير وزبائنية في قوائم مقتنصي الدولار المدعوم؟
نقدياً، اذا كان الدعم بالليرة، فان مصرف لبنان سيطبعها، وبالتالي سينتفخ حجم الكتلة النقدية المتداولة في فقاعة هائلة، بعدما زادت تلك الكتلة بنسبة فاقت 350 في المائة في سنة لتبلغ 27 ألف مليار ليرة كما في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي. في الموازاة، قدّر الخبير الاقتصادي الأميركي ستيف هانك من جامعة جون هوبكينز، في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، نسبة التضخم في لبنان بنحو 365 في المائة.
اذا افترضنا ان قيمة التعوضات النقدية ستراوح بين 400 ألف ليرة ومليون و500 ألف ليرة (من الفرد إلى الأسرة المكونة من 5 أفراد)، فان المبالغ ستتجاوز العشرة آلاف مليار ليرة سنوياً على اعتبار ان التعويضات النقدية ستشمل 550 ألف أسرة على الأقل، وهي سيولة جديدة ستتدفق الى الأسواق فور الحصول عليها فيرتفع التضخم حكماً في أسواق غير مراقبة وفوضى تسعير في غابة أسودها حفنة من تجار سخّروا الدعم الحالي لمصلحتهم، وسيسخرون التعويض النقدي أيضاً لنفس أغراض مراكمة ثرواتهم عبر رفع الأسعار وتعزيز الاحتكارات.
فكيف لوزارة اقتصاد ان تنجح في ضبط كبار التجار والطفيليين منهم وهي فشلت في لجم جشعهم ان لم نقل شجعتهم بتواطؤات معينة ضربت أطنابها خلال الأشهر الماضية في لعب بالفواتير وزبائنية في قوائم مقتنصي الدولار المدعوم، فضلاً عن فشل وزارة الاقتصاد ووزارات اخرى معنية بمنع تهريب سلع مدعومة الى الخارج؟ وهنا أيضاً فرصة إصلاحية إذا ضبطت هوامش أرباح التجار تحت 10 في المائة بدلاً من 20 و30 وحتى 40 في المائة حالياً حسب السلع ومحتكري استيرادها وعمولات شركائهم المدسوسين في الوزارات (خصوصاً الاقتصاد) والمرافئ والجمارك وحتى بعض الطبقة السياسية. ويحتاج ضبط هوامش الأرباح الى ثورة اصلاحية طال انتظارها منذ الاستقلال الى اليوم، وآن أوانها لا محالة، وإلا سيفشل أي نوع من الدعم مهما كان ويترسخ الفقر ويعم البؤس لأجيال مقبلة.
في الجانب النقدي أيضاً، يدق الغاء الدعم المعمول به حالياً مسماراً حاسماً في نعش سعر الصرف القائم على 1515 ليرة للدولار الواحد. وهذا السعر بدأت قطاعات أخرى تتخلى عنه مثل الجامعات الخاصة في أقساطها المرشحة للارتفاع الى صرف دولار بـ 3900 ليرة. فهل المبالغ النقدية ستكفي لشراء سلع وخدمات اساسية ودفع اقساط بـ 3900 ليرة اذا علمنا ان 65 في المائة من الأسر تعلم أبناءها في القطاع الخاص؟ كما أن الغاء الدعم الحالي يجعل سعر 8 آلاف ليرة للدولار أمراً مسلماً به في الاسواق عندما يقلع مصرف لبنان نهائياً عن تسليم دولار مدعوم لتجار سيلجأون الى السوق السوداء لشراء العملة الخضراء الميمونة لزوم الاستيراد. ما يعني ان ضغطاً كبيراً سيحصل في الطلب على الدولار “السوقي” فيرتفع سعره أعلى من 8 آلاف ليرة، وقد يفلت من عقاله الى مستويات تصل الى 15 و20 الف ليرة للدولار الواحد في مسلسل كانت قد شهدته ايران وفنزويلا قبل لبنان. عندئذ سيتحول مبلغ الدعم النقدي الى ورق مونوبولي لا قيمة له ويفشل مشروع التعويض كلياً.
رب ضارة نافعة إذا توافر العقل الصلاحي الشامل، أما الترقيع فسيشوه المشهد ويزيده قتامة على قتامة فينفجر الحراك المطلبي ولكن لا أحد يدري في أي إتجاه وإلى أي نهاية سيصل
في المقابل، يمكن تحويل أزمة الدولار الى فرصة لتوحيد اسعار صرف الليرة كما يطلب صندوق النقد الدولي، ويتوجه بعض من الاحتياطي الالزامي الباقي في مصرف لبنان إضافة الى دولارات طازجة أخرى يعول عليها من الصندوق والدول المانحة لاحقاً للدفاع عن ليرة بأسعار مرنة نسبياً. بمعنى آخر، يمكن التوكيد بان اصلاح الدعم لن ينجح من دون اصلاحات أخرى وردت في نصائح وشروط صندوق النقد والورقة الفرنسية.
يذكر ان الدعم النقدي للفقراء معتمد في 63 دولة حول العالم، وهو من شروط أو نصائح صندوق النقد والبنك الدوليين للدول التي تعاني تشوهات في إيصال الدعم الى مستحقيه من الفقراء دون غيرهم، وبدأ تطبيقه في المكسيك والبرازيل منذ العام 1997، ثم امتد العمل به الى دول أخرى في أميركا اللاتينية وآسيا وافريقيا.
على صعيد متصل، ورد في إعلان وزير الاقتصاد عن اقتراحه عبارة “تغطية واسعة” ما يشي بأن التعويضات ستصل الى أكبر عدد ممكن من الأفراد والأسر بما قد يطال في مجموعه اكثر من مليوني لبناني اذا سلمنا بأرقام الفقر التي يقدرها البنك الدولي و”الإسكوا”. لكن كيف يمكن التيقن من ان المستفيدين هم الفقراء فعلاً؟ فالدعم المعمول به حالياً يفيد الجميع تقريباً ويذهب معظمه للأغنياء وللأكثر استهلاكاً للمحروقات خصوصاً التي تمتص أكثر من نصف الدولارات المدعومة بسعر الصرف عند 1515 لليرة للدولار. فأي المعايير ستعتمد لتحديد المحتاجين في ظل غياب نقل عام فعال يجعل السيارة ضرورة؟ فالغاء دعم البنزين سيرفع سعر الصفيحة عدة مرات دفعة واحدة وستأكل الأسعار الجديدة معظم التعويض النقدي خصوصا لدى من يستدعي عمله تنقلاً كثيفاً. كما أن ارتفاع كلفة النقل عموماً سترفع معها أسعار سلع وخدمات تعتمد على المحروقات في السيارات والفانات والمركبات المتوسطة والثقيلة. اما كلفة فاتورة مولد الكهرباء فستتضاعف هي الأخرى لتثقل كاهل الفقراء أكثر حتى لو حصلوا على الدعم النقدي. لذا، يقتضي اصلاح الدعم سياسة نقل جديدة تقوم على النقل الجماعي وهو المشروع المؤجل منذ الغاء الترمواي والقطار في لبنان في ستينيات القرن الماضي، وتقتضي أيضاً وضع تعرفة جديدة للكهرباء يدفعها القادرون وفق شرائح الاستهلاك على ان تبقى التعرفة مدعومة للفقراء.
في ظل غياب النقل العام، ونقص التغذية بالكهرباء، ونقص التغطية الصحية الشاملة وهيمنة الاستشفاء الخاص على المشهد الطبي، ولجوء شرائح واسعة من الأسر الى التعليم الخاص.. يتضح جلياً أن الغذاء جزء يسير من الحاجات الأساسية، ومفهوم الدعم يتجاوز الأساسيات إلى الصحة والتعليم والحياة الكريمة بمفاصلها الأخرى. لذلك، فان عدداً من الدول التي اعتمدت الدعم النقدي وجّهته أيضاً إلى أسر وأفراد عاطلين عن العمل في آلية لاطلاق تمويل مبادرات صغيرة او متناهية الصغر للانتاج البسيط على قاعدة “لا تعطني سمكة بل علمني الصيد”، فلا يبقى الفقراء على قارعة التسول ابدياً بل يتحولون الى منتجين يعيلون أنفسهم.
رب ضارة نافعة إذا توافر العقل الصلاحي الشامل، أما الترقيع فسيشوه المشهد ويزيده قتامة على قتامة فينفجر الحراك المطلبي ولكن لا أحد يدري في أي إتجاه وإلى أي نهاية سيصل؟.
مرفق: البرنامج المقترح من وزارة الاقتصاد والتجارة لاستبدال برنامج الدعم ببرنامج تعويضات نقدية