المؤتمر الدولى الثانى لدعم بيروت والشعب اللبنانى الذى انعقد مطلع هذا الشهر فى باريس والذى نظّمته فرنسا بالتنسيق مع الأمم المتحدة، حمل رسالة واضحة وحازمة للطبقة السياسية اللبنانية: المساعدات الموعودة للإنقاذ تستدعى أساسا تنفيذ «الوعد اللبنانى» بتشكيل «حكومة مهمة» وإطلاق عملية الإصلاحات الهيكلية المطلوبة والأكثر من ضرورية. لجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (الاسكوا) حذّرت فى دراسة حول الفقر فى لبنان، فى آب/ أغسطس الماضى، من أن نسبة الفقراء فاقت نصف سكان لبنان وأن العدد آخذ فى الازدياد. كما حذّرت أيضا من تآكل الطبقة المتوسطة. وفى تقرير مشترك لمنظمة الأغذية والزراعة ولبرنامج الأغذية العالمى، فى تشرين الثاني/ نوفمبر، جاء لبنان ضمن عشرين دولة تعانى من ارتفاع كبير فى معدلات انعدام الأمن الغذائى، الأمر الذى يجعل الناس أكثر عرضة للجوع الشديد، وهو ما يستدعى إجراءات عاجلة.
برغم ذلك كله، ما زال لبنان أسير اللعبة السياسية التقليدية، التى تمارسها وتجيدها دائما الطبقة السياسية والتى ترتكز على نظام من فدرالية الطوائفية السياسية، أيا كانت العناوين التى تتغطى بها الآن بغية استنهاض وتعبئة كل مكون سياسى للجماعة التى يمثلها أو يدّعى تمثيلها: تقاسم «جبنة السلطة» أو ما بقى منها باسم هذه الجماعة أو تلك من جهة والرهان شبه الدائم من جهة أخرى على حدوث تغيّر فى موازين القوى فى المنطقة للاستفادة من انتصار هذا الحليف أو ذاك الصديق فى «لعبة الأمم» الشرق أوسطية وتوظيف هذا الانتصار داخليا كما كانت العادة فى السابق. كما أننا صرنا نسمع ونرى الكثير عمّا تخوفنا منه فى هذه المرحلة وهو أن تتحوّل أزمة تشكيل الحكومة إلى أزمة حكم ثم إلى أزمة نظام من خلال الدعوة لفتح هذا الملف الذى يبقى ضروريا للمراجعة بغية إحداث التطوير اللازم لتعزيز اللحمة الوطنية ولمعالجة مسببات التوترات المختلفة والدائمة والمولّدة للأزمات. لكن فتح هذا الملف يجب أن يكون فى ظروف مختلفة فلا نبحث فى المسار الذى يجب أن يتّخذه المركب فيما هو يغرق بجميع ركّابه وبدون أى استثناء.
المطلوب اليوم قبل الغد عقد جلسة حوار وطنى عملى تبتعد عن الشعارات والعناوين الفضفاضة التى عادة ما تستعمل للتهرب من التزامات واضحة يجب الاتفاق عليها بغية تنفيذها
المطلوب اليوم قبل الغد عقد جلسة حوار وطنى عملى تبتعد عن الشعارات والعناوين الفضفاضة التى عادة ما تستعمل للتهرب من التزامات واضحة يجب الاتفاق عليها بغية تنفيذها. جلسة حوار تشارك فيها جميع المكونات السياسية، فموضوع اليوم أكبر من ثنائية موالاة ومعارضة ومشاركة أو مقاطعة لحكومة تتشكّل هذا إذا ما شكّلت. جلسة من هذا النوع يجب أن تكون بدعوة ورعاية ومواكبة خارجية: فرنسا والأمم المتحدة مثلا كما جرى مع مؤتمر باريس وآخرين إذا شاءوا يمكن أن يتولّوا هذه المهمة. لننسى أولوية لعبة تشكيل الحكومة بعض الوقت ولا نكون بذلك نضيّع الوقت بل نسارع عبر هذا الحوار فى وضع أسس الحكومة المفروض تشكيلها وتحديد مهامها. يكون ذلك من خلال الاتفاق على خطة الإصلاح بشموليتها وعناصرها وتفاصيلها وعلى خريطة الطريق للتنفيذ وعلى جدول زمنى محدّد. تشكّل ثلاثية الأهداف هذه برنامج «حكومة المهمة» التى يجب أن تعطى الصلاحيات المطلوبة لتحقيق أهداف الإنقاذ هذه وإطلاق عملية إعادة البناء الشاملة للبنان: حكومة فريق عمل متجانس ومتكامل لتنفيذ هذه الخطة. إنها البديل الواقعى الوحيد ولو غير السهل لاستمرار الأزمة ومعها مزيد من الانهيار والذهاب نحو المجهول/ المعلوم فى ظل استمرار الشلل السياسى ضمن لعبة تشكيل حكومة والاستمرار مع حكومة تصريف الأعمال، أو تشكيل حكومة شبيهة بالمستقيلة من حيث نظام المحاصصة الذى يؤدى إلى الجمود والشلل أيا كانت العناوين والوعود البرّاقة التى ستحملها الحكومة التى ستتشكّل. مجدّدا المطلوب هدنة سياسية للاتفاق على الإنقاذ لأنه دون ذلك لن يبقى شىء يتقاتلون عليه وباسمه لاحقا.
(*) ينشر بالتزامن مع “الشروق“