روسيا.. “كارنافالني” ببصمة أميركية

يوم قرر اليكسي نافالني العودة من مستشفى برلين إلى موسكو، بعد تعافيه من التسمم الغامض في آب/أغسطس الماضي، لا بد أنه حسب خطواته جيداً، أو هكذا كان يظنّ: اعتقال مُنتظر فور وصوله إلى روسيا، فيديو "فضائحي وظيفته التحريض على غضب شعبي ضد فلاديمير بوتين.. وغرب لا يخفي تربصه بروسيا وفضائها السوفياتي.

حساب حقل مستشفى برلين لم يطابق بيدر ساحات روسيا. خسر اليكسي نافالني رهانه الشعبي، وبقي رهانه اليتيم على الغرب، الذي استُنفرت ماكيناته الاعلامية للتنديد بـ”القمع الوحشي” للنظام البوتيني “الديكتاتوري”، والتبشير باهتزاز المنظومة الحاكمة في روسيا على وقع تظاهرات، تكاد لم تميزها عن سابقاتها، سوى ما أثارته من إلتباسات حول طبيعة المشاركين وتحديداً لجهة “إستغلال الأطفال والقُصّر في أنشطة سياسية مريبة”، على حد تعبير مواقع إعلامية روسية موالية.
بدأت الحكاية يوم الأحد الماضي، حين استقل نافالني الطائرة من برلين إلى موسكو. حطت الطائرة مساءً في مطار شيرميتيفو، بعدما حوّلت السلطات مسارها حتى لا تهبط في مطار فنوكوفو، حيث تجمع مناصرو المدوّن الروسي المثير للجدل.
على أرض المطار الموسكوفي، وما ان اجتاز نافالني نقطة مراقبة الجوازات، حتى تم القاء القبض عليه، بناءً على امر صادر عن دائرة السجون الفدرالية، بسبب مخالفته شروط وقف تنفيذ حكم صدر بحقه قبل اعوام بتهمة الاختلاس.
في سجن ماتروسكايا تيتشينا، كتب المدوّن الروسي: “ارفض التعسف والتزام الصمت في وجه الأكاذيب”.
بعد بث هذه الرسالة، وُضع نافالني في الحبس الانفرادي، وحُرم من أي حق في التواصل مع العالم الخارجي.
ستعرف العقوبة النهائية على نافالني في أوائل شباط/فبراير المقبل، حين تُعقد جلسات الاستماع التي يمكن أن ترسله إلى السجن لفترة طويلة. ووفقاً للمراقبين، فقد تولى مكتب الأمن الفدرالي الإشراف القضية، ما يشير إلى استجابة صارمة.
على هذا الأساس، كان لا بد من ممارسة الضغط على السلطات الروسية إلى أقصى حد، حيث أطلقت دعوات إلى تظاهرات يوم السبت 23 كانون الثاني/يناير (اليوم) في حوالي ستين مدينة روسية.
هذه الدعوات قابلها المدعي العام الروسي بقرار قضى بحظر التظاهرات وتحذير مواقع التواصل الاجتماعي من مغبة نقل تلك الدعوات إلى القُصّر والأطفال.
في موازاة ذلك، سعى نافالني إلى تفجير “قنبلة من العيار الثقيل” في وجه الكرملين، عنوانها “القصر”، وهي عبارة عن فيلم وثائقي بث يوم التاسع عشر من كانون الثاني/يناير عبر موقع “يوتيوب”، وحصد حتى الآن أكثر من مليون مشاهدة، حول قصر فخم يزعم أن بوتين بناه على ساحل البحر الأسود، بمساحة تصل إلى 39 مرة من امارة موناكو، وبكلفة تتجاوز المليار دولار، وممول من قبل النخبة الاقتصادية المحيطة بالرئيس الروسي.
الحديث عن “القصر” المزعوم ليس جديداً، فقد سبقت الاشارة إلى شيء من هذا القبيل في الصحافة الروسية المعارضة وبعض وسائل الاعلام الخارجية، وقد نفى الكرملين الأمر جملةً وتفصيلاً.
ومع ذلك، يبدو أن نافالني قد سعى إلى اعادة تدوير “الفضيحة” المزعومة، بمعالجة بصرية بتوقيعه الخاص، على النحو الذي يجعل لـ”القصر” دوراً وظيفياً في التحريض على الخروج ضد بوتين “المصاب بجنون العظمة” والمحاط بحاشية من “المافيا”.
برغم الصخب الذي احدثه الفيلم الوثائقي في العالم الافتراضي، إلا أن الأمر بدا مختلفاً للغاية في الواقع الحقيقي، فالاستجابة لدعوات التظاهر في الثالث والعشرين من كانون الثاني/يناير، أمكن قياسها في ساحة بوشكينسكايا في موسكو، بؤرة الاحتجاجات التقليدية منذ الحقبة السوفياتية، بنسبة لا تتجاوز 0.005 في المئة من اجمالي عدد المشاهدات “اليوتيوبية”.
بعيداً عن “بروباغاندا” أقطاب حملة نافالني، الذين زعموا خروج 250 الف متظاهر إلى ساحات التظاهر الموسكوفية، تفاوتت التقديرات بشأن حجم المشاركة في التظاهرات الداعمة لنافالني بين وكالات الانباء الاجنبية والمؤسسات الروسية المستقلة (20 إلى 35 ألفاً)، وبين تلك التي تناقلتها وسائل الاعلام الروسية (4 آلاف).
في المدن الروسية الأخرى، لم يكن الأمر اكثر اثارة: بضعة آلاف من المتظاهرين في سانت بطرسبورغ، 300 في فلاديفوستوك، 250 في خاباروفسك، 100 في كومسومولسك أون أمور، 70 في ماغادان، 50 في بتروبافلوفسك كامتشاتسكي، 30 في يوجنو ساخالينسك.. الخ.
كذلك، فشلت محاولات جرّ أجهزة الأمن الروسية إلى اشتباكات عنيفة، ولا سيما في موسكو، وذلك على الرغم من إصابة العشرات من الشرطيين في العاصمة وحدها، ومع ذلك فإنّ عدد الموقوفين كان كبيراً جداً، إذ تجاوز الألفين، وإن كان الكثير منهم، بما في ذلك يوليا نافالني، زوجة المدوّن الروسي، قد تم اطلاق سراحهم مع انتهاء “الكارنفال” الذي اصطلح بعض مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في روسيا على تسميته بـ”الكارنافالني”.
لاحظ المراقبون فشلاً آخر تمثل في محاولات غير مجدية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لإشراك القاصرين في التجمعات الجماهيرية، وهو ما قوبل بحملة مضادة اتخذت شعار #ДетиВнеПолитики (الأطفال خارج السياسة).
يعتقد نيكيتا دانيوك، النائب الأول لمدير معهد RUDN للبحوث الاستراتيجية أن منظمي التظاهرات كانوا يهدفون إلى إخراج أكبر عدد ممكن من القُصَّر إلى الشوارع، لافتاُ إلى أنه “تم اختبار هذه الآلية، وهي فعالة للغاية، بالرغم من أنها مثيرة للاشمئزاز للغاية، ومثيرة للسخرية أيضاً من وجهة نظر الحسابات السياسية”.
في العموم، يبدو أن فشل نافالني لم يكن متوقعاً فحسب، بل “كان منطقياً” أيضاً. وفق ما كتب مدير مركز التحليل السياسي بافل دانيلين، عبر حسابه على فيسبوك، فإنّ مؤيدي المدوّن الروسي يتناقصون، ولولا قصة تسميمه المزعوم، لكانت التظاهرات “صفرية”.
حتى قصة التسمم لم تؤد إلى زيادة كبيرة في الشعبية، بحسب ما يشير أندريه مانويْلو، عضو المجلس العلمي التابع لمجلس الأمن الروسي، الذي يلاحظ أن عدد المستجيبين لدعوات التظاهر في موسكو قد أصبح صغيراً جداً، موضحاً أنه “من حيث العدد، جاء عدد أقل من الأشخاص مقارنة بعام 2019”.
ويبدو أن السبب الرئيسي في ذلك يعود إلى ان غالبية الروس تنظر إلى نافالني بطريقة سلبية، على النحو الذي تظهره استطلاعات الرأي، التي يرى فيها غالبية المستطلعين أن المدوّن الروسي شخصية نرجسية اقرب إلى عميل استخبارتي منه إلى شخصية معارضة.
على سبيل المثال، أظهر استطلاع اجراه معهد “ليفادا” المستقل في كانون الأول/ديسمبرالماضي أن أن 49 في المئة من الروس يعتبرون تسميم أليكسي نافالني بمثابة “استفزاز” من قبل اجهزة استخبارات أجنبية.
ولعلّ التدخل المباشر للسفارة الاميركية في موسكو في الاحتجاجات الأخيرة، والتي وصلت إلى حد تحديد مواعيد التجمعات ومساراتها عبر الحساب الرسمي للسفارة على موقع “تويتر”، قد يؤدي إلى تكريس هذه الصورة على اليكسي نافالني، ومن شأنه أن يفاقم التوتر بين روسيا والولايات المتحدة في بداية عهد جو بايدن، وهو ما تبدى في ما قالته المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا من أن “الزملاء الأميركيين سيضطرون إلى شرح موقفهم في ميدان سمولينسكايا”، في إشارة إلى مقر وزارة الخارجية الروسية.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  من بطرس الأكبر إلى بوتين.. للبلاط "مهرجه"!
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أمن أوروبا في مهب العاصفة البوتينية.. ماذا بعد أوكرانيا؟