دبلوماسية اللقاحات.. فرصة روسية فريدة

في مقال نشرته صحيفة «كومرسانت» الروسية، يحلل الأستاذ في معهد "سكولكوفو" للعلوم والتكنولوجيا دميتري كوليش الأدوات الجيوسياسية الجديدة في سياق جائحة فيروس «كورونا»، ويركز بشكل خاص على ما يسميه «دبلوماسية اللقاحات».

أصبحت دبلوماسية اللقاحات عاملاً جديداً في الحياة الدولية في عصر «كوفيد-19»، حيث تتمتع كل دولة بسماتها الوطنية الخاصة، ولكنها تنطوي في الوقت ذاته على قضية مشتركة للمجتمع الدولي.

بشكل عام، قد تبدو المؤامرة على هذا النحو: تشعر دولة صغيرة – وفخورة بنفسها في آنٍ معاً – بالقلق من زيادة الإصابات بفيروس «كورونا». 

في هذا الوقت، تقوم دولة كبيرة مجاورة بإنتاج لقاحها الخاص.

عند معرفتهم بالأمر، يتقدم مواطنو الدولة الصغيرة على الفور بطلب إلى حكومتهم للتفاوض مع حكومة الدولة الكبيرة والحصول على اللقاح.

في البداية، ترد حكومتهم بأن هذا اللقاح لم يجتز بعد المرحلة الثالثة من التجارب السريرية، ولم يحصل على موافقة منظمة الصحة العالمية، وبالتالي لا يمكن التطعيم به. 

تحث السلطات المواطنين على عدم القلق، وتوضح لهم أن اللقاحات الأميركية المثبتة أو اللقاحات الصينية الرائعة وشبه المجانية يمكن أن تكون مناسبة لإنقاذ الوضع.

لكن مواطني البلد الصغير يطلبون بإلحاح من حكومتهم استيراد اللقاح المرغوب فيه للغاية من الدولة الكبيرة المجاورة، ويوضحون أن المرحلة الثالثة من الاختبارات وعدم موافقة منظمة الصحة العالمية لا يزعجانهم على الأقل، وذلك لأنهم لا يريدون أن يمرضوا ويعزلوا أنفسهم، أو أن يرهنوا حياتهم بلقاح آخر – أميركي أو صيني – لم يصل بعد.

الوضع الموصوف ليس بناءً تخمينياً، ولكنه دراما حقيقية تحدث اليوم في أجزاء مختلفة من العالم. 

يمكن على سبيل المثال ان نشير الى العلاقة بين الهند وجمهورية جزر المالديف الصغيرة، التي يبدو مواطنوها غير مرئيين تماماً لزوار شواطئها الرائعة وفنادقها ذات النجوم الخمس. 

تقليديا، كانت جزر المالديف، مثل العديد من البلدان الصغيرة الأخرى في شبه القارة الهندية، تدور في فلك السياسة الهندية. ولكن قبل بضع سنوات، بدأ علماء السياسة يتحدثون فجأة عن حقيقة أن الصين استعادت جزر المالديف من الهند. حدث ذلك بعدما قدمت بكين قروضاً ضخمة لجزر المالديف، ووافقت السلطات المحلية، في مقابل ذلك، على بناء قاعدة عسكرية ذات أهمية استراتيجية على أراضيها.

بدت الهند وكأنها تخسر جزر المالديف أو على وشك الخسارة. لكن جائحة «كورونا» أربكت كل الأوراق الصينية. 

خلال الأسبوع الماضي، أعلنت حكومة جزر المالديف أنها تقبل بامتنان هدية من الهند من لقاحاتها الوطنية، وغضت الطرف تماماً عن المرحلة الثالثة غير المكتملة من التجارب السريرية للقاح الهندي وافتقاده إلى شهادة منظمة الصحة العالمية.

حدث وضع مماثل مع دولة صغيرة أخرى في شبه القارة الهندية – نيبال، التي باتت في حالة تقارب غير مسبوقة مع الصين خلال الفترة الماضية.

وفي حالة نيبال، أثبتت دبلوماسية اللقاحات الهندية فعاليتها ايضاً.

في المقابل، لم تقدم الهند اللقاحات لجارتها اللدودة باكستان، غير أن اللقاحين الصيني (سينوفارم) والروسي (سبوتنيك في) دخلا هناك على الفور.

يُظهر مثال «هندوستان» أن اللقاحات أصبحت بسرعة أداة جديدة للدبلوماسية العالمية.

قبل جائحة فيروس «كورونا»، كانت أدوات الدبلوماسية عبارة عن قروض مربحة، وإعفاءات جمركية، وتبادل علمي وثقافي. والآن تمت إضافة اللقاحات إلى هذه الأدوات، وأخذت روسيا زمام المبادرة بشكل غير متوقع، حيث اتضح أن لقاح «سبوتنيك» هو الأفضل مقارنة بالآخرين، وعليه فإن تأثيره لن يكون سريرياً فقط، وانما دبلوماسياً أيضاً، لا بل أن هذا التأثير الدبلوماسي قد يكون أقوى بكثير مما كان يتوقعه أي شخص.

كيف تختلف دبلوماسية اللقاح عن الأدوات الدبلوماسية الأخرى؟

أولاً، له تأثير أقوى بما لا يقاس على العقول.

أصبحت الدولة الكبيرة التي تزود بلداً صغيراً باللقاح شريكاً أكثر أهمية بكثير من البلدان الأخرى التي كانت تبدو مهمة جداً قبل الوباء.

هذه هي القوة الناعمة ذاتها بكل عظمتها.

ثانياً، تؤثر دبلوماسية اللقاحات على الطبقة القوية لـ”المليار الذهبي” الحديث (المليار الـذهبي مصطلح سوفياتي للإشارة إلى الدول الصناعية الغنية أو دول العالم الأول): من الأطباء الذين اعتادوا على جني أموال جيدة من الأبحاث السريرية إلى مصنعي الأدوية الذين اعتادوا بيع منتجاتهم بأسعار مرتفعة. سيضطر هؤلاء إلى تقديم المنتج مجاناً إذا لم يمر بتجارب سريرية. الآلاف من الناس يفقدون دخلهم المعتاد. من سيقبل بذلك؟

دعونا نتخيل أن دولة كبيرة تحتاج إلى طرد منافسها الجيوسياسي من دولة صغيرة. سيكون من المفيد جداً تزويد هـذه الدولة الصغيرة ليس بالقروض والحصص فقط، بل أيضاً بلقاح مجاني.

من هنا تنمو الخصائص الوطنية لدبلوماسية اللقاحات، حيث تمتلك روسيا فرصة فريدة من نوعها.

إذا أخذت المنافسين الجيوسياسيين لـ«سبوتنيك» الروسي، أي «فايزر» و«موديرنا» الأميركيين، ستكتشف أنهما ليسا مصممين لكي يعطيا لأي شخص مجاناً.

من المعروف أن «فايزر» و«موديرنا» ينتميان الى فئة الأعمال الشاقة مع الكثير من المساهمين والقروض والالتزامات. لذلك لن تكون أميركا قادرة على أن تصبح لاعباً بارزاً في دبلوماسية اللقاحات.

لنأخذ الآن الصين.

قد يكون ضغط بسيط من قبل القيادة الصينية على الصيادلة الصينيين كافياً للبدء في إغراق العالم باللقاحات المجانية.

ومع ذلك، حين كان الصينيون أول من سجل لقاحاً ضد «كورونا» في تموز/ يوليو الماضي، بعد تجربة صغيرة على مائة مريض، فوجئوا برد فعل غير سار. اتضح أن العديد من الدول غير مستعدة لأخذ اللقاح، حتى بشكل مجاني، وذلك كي لا تصبح صديقة لقاح للصين التي اكتسبت سمعة سيئة خلال الجائحة الوبائية. 

بعد مدينة ووهان، وبالنظر إلى السمعة الغامضة للأعمال التجارية الصينية في العالم، فإن الكثيرين ببساطة لا يؤمنون ببكين.

في البداية، بدت نيجيريا ومصر وكينيا وجنوب إفريقيا وتايلاند بمثابة انتصارات لدبلوماسية اللقاحات الصينية. ثم توقف الأمر عند هذا الحد. سمحت الأرجنتين والبرازيل وتركيا وروسيا على مضض بمرحلة ثالثة من التجارب السريرية للقاحات الصينية، لكنها لم تقم بعمليات شراء كبيرة.

إثر ذلك، جاء وقت روسيا.

لا يسعنا إلا أن نشيد بمطوري الأدوية في معاهد «غاماليا» و«فيكتور» و«تشوماكوف»، الذين بدأوا على الفور في تطوير لقاحاتهم.

في بداية الصيف الماضي، أدركت الحكومة الروسية أن الصينيين كانوا على وشك تسجيل لقاحهم بناءً على بيانات سريرية صغيرة غير مسبوقة، وسألت وزارة الصحة الروسية عما إذا كان بإمكان روسيا القيام بالشيء نفسه. في البداية كانت إجابة وزارة الصحة بالنفي: فقط المرحلة الثالثة من الاختبار مطلوبة للتسجيل ولا شيء غير ذلك. بعد ذلك، سألت الحكومة الروسية العلماء عن سبب قيام الصينيين بتسجيل لقاحهم، بينما تعارض وزارة الصحة ذلك. أجاب العلماء بأن وزارة الصحة يجب أن تكون لديها بعض الدوافع الإدارية للحفاظ على النظام الحالي للتجارب السريرية.

وهنا اتخذت الحكومة الروسية قراراً صعباً: عدم تأجيل الأمر وتسجيل اللقاحات الروسية مثل اللقاحات الصينية.

كان المنطق وراء هذا القرار هو أن عدداً كبيراً من الدول يفضل الموافقة على لقاح روسي على لقاح صيني.

بمجرد أن سجلت الحكومة الروسية «سبوتنيك» بناءً على كمية صغيرة جداً من البيانات في 11 آب/ أغسطس، انطلقت الدعاية الغربية المضادة. لماذا؟ لقد أدركت الحكومات الغربية أنه إذا أثبت «سبوتنيك» فعاليته، فستحدث فجوة كبيرة في هيمنة الرعاية الصحية الغربية.

لذلك، بدأت حملة واسعة النطاق ضد «سبوتنيك». لم يناقش أحد مزايا وعيوب منصة «ادينوفيروس» التابعة لمعهد «غاماليا»، واندمجت أصوات الخبراء ووسائل الإعلام في الغرب في جوقة واحدة!

اليوم، تم تسجيل لقاح «سبوتنيك» في أول دولة في الاتحاد الأوروبي – المجر. يتم إنتاجه في العديد من البلدان. وفقًا لمركز أبحاث معهد «ديوك»، تحتل طلبات شراء «سبوتنيك» المرتبة الثالثة خارج دول «المليار الذهبي» ويكتسب اللقاح زخماً سريعاً.

وهكذا، في غضون عام أو عامين، ستصبح روسيا فجأة قوة لقاح رئيسية مع العديد من الشراكات. ستتبع اللقاحات الأدوية والطب الرقمي.

أصبح كل هذا ممكناً بسبب حقيقة أن العلماء والأطباء والحكومة في روسيا جلسوا على نفس الطاولة ووجدوا أخيراً لغة مشتركة، وتوصلوا إلى اتفاق. من المفترض أن يحدث ذلك الآن أكثر فأكثر بسبب الخصائص الوطنية لدبلوماسية اللقاح الناشئة.

المصدر: «كومرسانت»
الرسوم البيانية: وكالة «سبوتنيك» الروسية

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": تكلفة الصفقة الإسرائيلية السعودية "باهظة جداً" أميركياً
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  "الفخ الأوكراني".. بوتين لم يعد سعيداً من إسرائيل