ثمان عجاف على إغتيال شكري بلعيد.. إلا من قمع وإفقار

ثماني سنوات عجاف مرت على اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد في السادس من شباط/فبراير 2013، أخفقت فيها السلطة القضائية في تونس في الكشف عمن قتله أمام منزله وأمام ناظري طفلتيه، اللتين كبرتا لتقودا مسيرة إحياء ذكرى اغتياله الثامنة من ساحة حقوق الإنسان إلى شارع الحبيب بورقيبة.

في مشهد يذكر بممارسات نظام زين العابدين بن علي القمعي قبيل الثورة التونسية، كان شارع الحبيب بورقيبة الذي ألف المتظاهرين وألفوه لمدة عقد كامل من الزمن مقفرا في الساعات الأولى من أمس (السبت) إلا من مئات أعوان الشرطة بكل اختصاصاتها، التي سدت كل المنافذ المؤدية إليه. بيد أن المحتجين كسروا الطوق الأمني. ورفعوا الشعارات المنددة بتمترس رئيس الحكومة ووزير الداخلية بالنيابة في آن واحد هشام المشيشي خلف عصا البوليس لمنع التظاهرات بالذكرى الثامنة لإستشهاد بلعيد. 

لم يستسغ المحتجون أيا من تبريرات حكومة المشيشي التي ادعت على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية أن الطوق الأمني فرض لغاية تنظيم تحركات الحشود وتأمينهم، سيما وأن البلاد سجلت خلال الأسبوعين المنقضيين ملاحقات أمنية وقضائية للمدونين والصحافيين وللمحتجين والمتظاهرين ضد تدهور الأوضاع الاقتصادية والأزمة السياسية، تعد هي الأشرس والأكبر عددا منذ الثورة، إذ تجاوزت الإيقافات وعمليات الاحتجاز على ذمة التحقيق الألف، وفق تقارير الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وسجلت جرائم تعذيب وسوء معاملة للموقوفين وفق ما أكدته الهيئة الوطنية لمناهضة التعذيب في تقاريرها، ووجهت للموقوفين تهم تتعلق بمحاولات قلب نظام الحكم والاعتداء على الأشخاص والمؤسسات والمس من معنويات  جهاز الأمن. 

وعلى الأرجح، كانت هذه التوقيفات السبب الأول وراء عودة الزخم الاحتجاجي لشارع الحبيب بورقيبة مجددا، بعدما فقدت التحركات الالتفاف الشعبي حولها. ولم تمر ذكرى الاغتيال فاترة كالتي سبقتها، بل تحركت قوى سياسية ونقابية ومدنية للحشد والتعبئة لهذا اليوم، ولم يتخلف عن إحياءه إلا الإئتلاف الحاكم بقيادة “حزب النهضة” المتهم بقبر ملف الاغتيالات قضائيا والوقوف وراء إخفاء أدلة متعلقة به، علاوة عن تحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية في الإغتيال، وفق ما أكدته مجددا هيئة الدفاع في ملف الشهيدين الزعيمين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي خلال المسيرة الاحتجاجية. 

وبصرف النظر عن تلاشي مشروع شكري بلعيد في حزب يساري كبير، بعد تفتت الجبهة الشعبية التي أسسها قبيل اغتياله بأشهر، فإن قياداتها كانت أيضا حاضرة لإحياء الذكرى والتذكير بأهمية كشف الحقيقة في هذا الملف وإبعاده عن أي تدخلات سياسية تهدف لطمس الحقيقة وتعويم القضية. 

ومطلب كشف الحقيقة محطة إلتقاء بين أحزاب اليسار إضافة إلى جانب من المعارضة البرلمانية كحزبي التيار الديمقراطي (حزب اجتماعي) وحركة الشعب (قومي)، ووقعت هذه الأطراف بيان “المائة” منذ يومين حيث دعت للتظاهر والمطالبة بكشف الحقيقة والكف عن الممارسات القمعية. ولم يكن هذا الحضور المكثف للسياسيين ليكون لولا احتدام النزاع مع حزب النهضة داخل البرلمان الذي يترأسه زعيمها راشد الغنوشي وحدّة الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد في ظل النزاع بين رئيس  الجمهورية قيس سعيد، ورئيس الحكومة هشام المشيشي وإئتلافه السياسي الداعم له. 

بصرف النظر عن تلاشي مشروع شكري بلعيد في حزب يساري كبير، بعد تفتت الجبهة الشعبية التي أسسها قبيل اغتياله بأشهر، فإن قياداتها كانت أيضا حاضرة لإحياء ذكراه

وإضافة إلى ذلك، نزلت قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل مجددا للشارع، وكانت حشدت بدورها لهذا الموعد.  ولعب السياق السياسي دوره في دفع النقابة العمالية الأعرق في البلاد، فعلاوة على تعرض قياداتها للتحريض عليها وترذيلها من قبل أحد مكونات الائتلاف الحكومي وإعاقة مبادرة الحوار الوطني التي قدمتها لتجاوز الازمة السياسية، لا يمكن أن تصمت أيضا على ارتفاع وتيرة الملاحقات الأمنية والقضائية والتراجع على أهم مكتسبات الثورة حرية التعبير وفق ما أورده الإتحاد في بيانه الصادر في الرابع من هذا الشهر. 

ويتفق السياسيون والنقابيون على جانب من توصيف الوضع الحالي في تونس، وهو تشابه الظروف والسياقات التي سبقت إغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي، فخطاب العنف والكراهية يتصدر المنابر الاعلامية، والبرلمان تحول لحلبة نزال بين المتطرفين، وعادت مواضيع الهوية لتفرق التونسيين مجددا، ودرجة الاحتقان السياسي والاجتماعي في أوجها. ويخشى التونسيون أن يتكرر ذات السيناريو مرة أخرى. 

“إنكم تعبثون مع الجيل الخطأ”، شعار رفعه محتجون يطلقون على أنفسهم حركة “الجيل الخطأ” وهم على رأس قائمة “المطلوبين” لدى وزارة الداخلية منذ انطلاق شعلة الاحتجاجات الشهر الماضي. ولا يتجاوز سقف الأعمار في هذه المجموعة الخامسة والعشرين من العمر، جلهم متحدرون إما من العائلة السياسية اليسارية أو منظمات حقوق الانسان أوالجمعيات المدنية. ويؤكد المنتمون لهذه الحركة أن الشعار ليس اعتباطيا بقدر ما هو رسالة سياسية واضحة مفادها أن هذا الجيل الذي شب زمن الثورة على الحرية لا يمكن إعادته مجددا إلى مربع القمع أو ترهيبه وإخافته. وهو جيل أيضا متشبث دون مقايضات أو مساومات مع المنظومة الحاكمة بالقضايا الكبرى، على رأسها الحق في معرفة الحقيقة حول الاغتيالات السياسية، وقطع الطريق على أي طرف سياسي يمثل حاضنة للإرهاب عبر التحريض على الأصوات المختلفة واغتيالها معنويا، أو يتماهى معه في الأهداف والغايات. 

وبجوار الجيل الخطأ، برزت حركات مواطنية إحتجاجية أخرى وسجلت حضورها أيضا في هذه الذكرى، لتتقاطع خلال المسيرة الكبرى التي جابت شارع الحبيب بورقيبة والشوارع المحاذية له، الشعارات المطالبة لمعرفة حقيقة الإغتيالات مع شعارات التنديد بالايقافات وهرسلة المدونين وتحسين الوضع المعيشي وارتهان سيادة البلاد الاقتصادية لدى المانحين الدوليين. 

وهتفت حناجر آلاف المحتجين هذا السبت بشعار “شغل حرية كرامة وطنية” مرة أخرى بعد أن كان الشعار الأبرز لتحركات الثورة التونسية ذات 14 جانفي يناير 2011، ما يحيل أن البلاد تدور في حلقة مفرغة نتيجة تعثر مسار الإنتقال الديمقراطي والانهيار الاقتصادي الذي رافق ذلك.

برغم كل مساعي حكومة هشام المشيشي لعسكرة شارع بورقيبة وإغلاق كل منافذه، وجد قرابة الألفي متظاهر تونسي طريقهم إليه. وأحيوا في الشارع الأحب الى قلب الشهيد بلعيد، كما كان يردد دائما، ذكرى إغتياله، فعاد الزخم، ولو المتواضع، إلى الشارع التونسي الذي كان مُحفزاً لكل الشوارع العربية قبل عقد من الزمن.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  سُنّةُ لبنان من "دول الثورة" إلى "دول الثروة".. الآن إلى أين؟
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  ألم يحن الوقت لتعريب الحلول لأزماتنا وحروبنا؟