بعد حوالي الشهرين على انطلاق حملات اللقاحات المُضادّة لفيروس كورونا في معظم دول العالم، وبعد وصول عدد الملقّحين عالمياً الى حوالي 200 مليون نسمة في حوالي 100 دولة، بدأت تتردد أسئلة جديدة بالترافق مع عمليات التلقيح التي تتسابق دول العالم لأجل تسريعها وتوسيعها، بهدف شمولها أكبر شرائح مُجتمعية مُمكنة خشية إستمرار تفشّي المرض وظهور سلالات جديدة من الفيروس.
ويظهر أنّ هذه السلالات الجديدة بدأت في الحقيقة تُقلق الأوساط العلمية بشكل كبير، خاصةً لناحية إستمرارية فعالية اللقاحات مع تفشّيها في اكثر من دولة وبأشكال مُختلفة.
ويبدو ان هذه المشاكل تضع على المحكّ فعالية اللقاحات التي تمّ او يتمّ توزيعها حتى اليوم واللقاحات الأخرى قيد التطوير من قبل الشركات الأخرى الساعية إلى حجز محل لها في السباق العالمي لإحتلال مكانة علمية وإقتصادية وبالتالي جيو-سياسية في هذه الحرب الباردة الدائرة بين اقطاب العالم الأساسيين.
وبالفعل، تجري دراسات معمقة كثيرة حول “الطفرة الجينية” التي أطلق عليها العلماء اسم “E484K”، والتي تحملها نسخا متحورة من الفيروس من سُلالات عديدة (جنوب أفريقية، برازيلية، يابانية، نيجيرية).
لماذا يهتمّ العلماء بهذه الطفرة المُسماة “E484K “؟
لأنها تُغيّر بشكلٍ كبير “البروتين الشوكي” (Spike) الموجود في النتوءات الموجودة في غلاف الفيروس بشكل تاج، وهو ما اعطى كما صار معروفاً اسم الفيروس التاجي على هذا الفيروس. هذه التغييرات تجعل إمكانية وصول الأجسام المناعية المُضادة التي يفرزها الجسم الى الفيروس صعبة ومُعقّدة. وهي تُضلّل إذاً جهاز المناعة وتجعل الفيروس اكثر قابلية على الإلتصاق بالخلايا والدخول اليها. لذلك، هي مصدر قلق للشركات والمختبرات التي تطوّر اللقاحات، او تلك التي بدأت تسويقها منذ فترة. وإذا كانت الشركات التي تعتمد تقنية مرسال الحمض النووي الريبوي (RNA) مثل لقاحات شركتي “فايزر” و”بيونتك” (PfizerـBiontech) وشركة “مودرنا” (Moderna) قد تسرّعت إلى حدّ ما بالإعلان عن ان اللقاحات التي طوّرتها تبقى فعّالة الى حد مقبول مع السلالات المتحوّرة الجديدة، فإن ذلك قد إستند الى تجارب مخبرية على امصال عينات صغيرة جداً من المرضى (20 مريضا في تجربة شركة Pfizer و8 مرضى في تجربة شركة Moderna).
في المُقابل، فإن لقاح شركة (AstraZeneca) قد تلقّى ضربة قوية عندما قام الخبراء بتجربة عليه في جنوب افريقيا حيث تنشر السلالة المتحوّرة المُقلقة بنسبة 90% تقريبا، اذ إنخفضت فعاليته الى 22% وكذلك الأمر بالنسبة للقاح شركة NovaVax، الذي أنخفضت فعاليته الى 50% في جنوب افريقيا ايضاً. ولا معطيات دقيقة حتى اليوم حول اللقاحات الصينية والروسية وكيفية تعاطيها مع السلالات الجديدة وإن كان الكثير من الخبراء يرجحون إنخفاض الفعالية أيضاً.
الخيار الاول المطروح قد يكون في إعطاء “جرعة ثالثة” من اللقاح الذي تناوله المريض من اجل التمكين
ومن هنا، بدأت الشركات المصنعة للقاحات بالتفكير بحلول وخيارات بديلة في حال تأكّد وجود مُقاومة او إنخفاض في نسبة فعالية اللقاحات الحالية او التي ستُسوّق قريباً. ومن الخيارات المطروحة:
١-تلقي الجرعة الثالثة: الخيار الاول المطروح قد يكون في إعطاء “جرعة ثالثة” من اللقاح الذي تناوله المريض من اجل التمكين. وذلك بهدف زيادة كمية “الأجسام المناعية المُضادة” في الجسم. ذلك لأنه وبسبب وجود تغيّرات اساسية في مُكوّنات “البروتينات الشوكية”، قد تجد الأجسام المناعية المضادة التي يفرزها الجسم صعوبات للذهاب والتعرّف والتصدّي والفتك بالسلالة الجديدة من الفيروس. ولذلك فإن إعطاء “جرعة ثالثة” من اللقاح قد يُعزّز من كمية هذه الأجسام ويجعل “نسبتها كافية” من أجل منع الفيروس من التهرّب والإفلات من مُقاومة جهاز المناعة.
وبحسب دراسة مخبرية أوّلية في جامعة Cambridge البريطانية، هناك امل في ان تكون هناك إمكانية للوصول الى “كمية أجسام مُضادة فائضة” عبر الجرعة الثالثة من اجل منع دخول فيروس يحمل الطفرة “E484K”، وبالتالي منع تكاثره وتسبّبه بالأعراض التي نعرفها عن الفيروس.
وفي هذا السياق، ثمة ملاحظة مفادها أن اللقاحات التي تعتمد على تقنية RNA هي اكثر فعالية لجهة تحفيز زيادة إفرازات “الأجسام المناعية المضادة”، ولذلك فإن فكرة اعطاء “جرعة ثالثة للتمكين” قد تكون هي الحلّ الأنسب لتجاوز هذه المشكلة.
حالياً، هناك الكثير من التجارب لمقاربة موضوع “الجرعة الكافية لتأمين الحماية”، اي الجرعة التي ترفع نسبة الأجسام المُضادة وتجعلها قادرة على مُحاصرة الفيروس المتحوّر والقضاء عليه. ولكن كل ذلك يحتاج الى إجراء المزيد من الدراسات العلمية الدقيقة لمعرفة متى يجب إعطاء هذه الجرعة الثالثة من ناحية التوقيت؟ وكم هي كميّتها؟ وهل ستكون حقًا قادرة على تمكين المريض من الوصول الى مرحلة “الحماية الكاملة”؟ ام انها ستكون، كما الجرعتان الاولى والثانية، كافية للحماية من “الأشكال الخطيرة من هذه الإلتهابات”.
تجدر الإشارة إلى ان شركة Moderna أطلقت منذ فترة “دراسة سريرية” تُعطى فيها “جرعة ثالثة” للمرضى الذين تلقّوا الجرعتين الاولى والثانية على مسافة من الجرعات السابقة، وذلك تحت إشراف “معهد الصحة في الولايات المتحدة الاميركية”. وكان الهدف من هذه الدراسة معرفة مدى “اطالة زمن الحماية” عند المرضى الذين يتناولون اللقاح، لكنها قد تكون مُفيدة لمعرفة ما اذا كان ذلك يحمي أيضا ضد السلالات المتحوّرة التي ذكرناها.
الخيار الثاني هو تطوير “الجيل الثاني” الجديد من اللقاحات لكي يحتوي على مكوّنات من السلالات المتحوّرة
٢- تغيير بعض مُكوّنات اللقاح: الخيار الثاني هو تطوير “الجيل الثاني” الجديد من اللقاحات لكي يحتوي على مكوّنات من السلالات المتحوّرة. ومن الحلول المُقترحة حالياً اخذ “القطعة الجينية” المطلوبة (RNA) التي تصنع البروتين الشوكي من السلالات الجديدة التي ظهرت ووضعها مكان القطعة التي كانت موجودة في الجيل الاول من اللقاحات. وبهذا يصبح اللقاح قادرا على تحفيز صناعة بروتين شوكي من النوع المُحوّر عندما يتمّ حقنه في الجسم. وهذا ما يُؤدّي الى تفعيل جهاز المناعة ضد هذا الفيروس المُحوّر. وبالفعل فإن شركات كثيرة ومنها شركة “مودرنا” (Moderna) مثلاً قالت على لسان مديرها العام انها بحاجة الى ستة اسابيع فقط من اجل إجراء هكذا عملية. اي انها ستأخذ قطعة من الحمض النووي الريبوي المسؤول عن صناعة البروتين المُحوّر ووضعه مكان الحمض النووي في اللقاح السابق وبهذا نحصل على مناعة ضد هذا الفيروس المُحوّر.
في هذا المجال، اعلنت ايضا شركة CureVac انها تسعى لتطوير جيل مُطوّر جداً من اللقاحات بالتعاون مع شركة GSK يكون قادرا على ان يحتوي عدة انواع من ال RNA من السلالات المُتحوّرة. وبهذا تكون قدرة على تطوير “سوبر لقاح” قادر على الحماية من عدّة سلالات مُتحوّرة مُختلفة. وقد اعلنت الشركة انها ستكون قادرة على تطوير هكذا اللقاح خلال هذه السنة او في بداية العام ٢٠٢٢.
اما بالنسبة للقاحات التي تستعمل تقنية “الفيروس الحامل” مثل لقاح شركة AstraZeneca فإنها قادرة ايضاً على إستعمال قطعة من الجينوم (DNA) الموجود في الفيروس المُحوّر وزرعه في داخل الفيروس الحامل Aenovirus. وبهذا تتغلّب على مشكلة عدم فعالية اللقاح ضد الفيروسات المُحوّرة من سلالات مُختلفة. وقد يكون ايضاً احد الحلول المُمكنة والتي يعمل عليها العلماء عملية “دمج اللقاح القديم” الذي يعتمد على مُكونّات من السلالة القديمة في “لقاح من الجيل الثاني” يسمح بتأمين المناعة ضد السلالات الجديدة المُتحوّرة. وتقوم عدّة شركات حاليًا بدراسة إمكانية إستعمال بعض مُكوّنات السلالة الأساسية التي ظهرت في مدينة “ووهان” ومواد جينية من السلالات الجديدة المُتحوّرة ودمجها بهدف تأمين لقاح قابل على ان يعمل على سلالتين او ثلاث او اكثر من السلالات المُتحوّرة التي قد تظهر في المستقبل.
الجدير ذكره أن ثلاث شركات عالمية تعمل حالياً على مشاريع لقاحات وبرامج ابحاث مُتقدّمة وواعدة جداً في مجال “السوبر لقاح هي الآتية:
-الشركة الأولى، فرنسية تدعى Osivax وهي شركة كان هدفها الأساس عند تأسيسها الحصول على “سوبر لقاح للأنفلونزا” (Grippe) بدل اللجوء الى تغيير اللقاح في كل موسم، وقد حصلت مُؤخراً على تمويل كبير بقيمة ٣٠ مليون يورو من اجل تسريع مشروعها الواعد. وقد اعلنت منذ ايام انها في صدد إطلاق دراسة سريرية من المرحلة الثانية على مئات المتطوّعين.
-الشركة الثانية اميركية تدعى Phylex Biosciences وتعمل على لقاح ضد بعض المُكوّنات التي تُعتبر ثابتة في البروتين الشوكي وبذلك تتجاوز مسألة التحوّر في هذا البروتين.
-الشركة الثالثة بلجيكية تدعى myNEO وتقوم بتقييم “مشروع لقاح” ثوري يستهدف “مُكوّنات داخلية” موجودة في داخل الفيروس بهدف الإلتفاف على مكر الفيروس وتحويره للبروتين الشوكي.