إذا لم نطل على المستقبل فإن الاحتفاء بالمئوية يقارب مراسم العزاء.
بالدور فهو الرجل الذى ارتبط اسمه بأوسع عملية بناء ثقافى فى التاريخ المصرى الحديث.
صادف اختياره أهله، فقد كان مهيأً أكثر من غيره، رغم خلفيته العسكرية، لتولى هذا الدور، فهو أحد الموسوعيين الكبار فى الفنون والثقافة.
فى تجربة «يوليو» قضايا وتعقيدات متداخلة بين العسكريين والمثقفين تستحق التوقف عندها بالبحث والدرس، بينها التنشئة العسكرية لـ«جمال عبدالناصر» ورفاقه ودورها لا يمكن استبعاده، أو غض الطرف عنه، فى تكوين شخصياتهم من حيث احترام التسلسل القيادى والتزام قواعد الانضباط.
أساسيات العمل العسكرى تختلف من حيث طبيعتها مع ما دُرج عليه العمل الثقافى من تنوع وتقبل للخلاف فى الرأى كقيمة بذاتها.
تناقض طبيعة العملين أسّس ــ أحيانًا ــ إلى صدامات مكتومة.
وبينها أنهم لم يكونوا على ذات درجة الثقافة والمعرفة والقدرة على التذوق الفنى.
بعضهم طوّر نفسه ثقافيًا وفكريًا بقدر ما قرأ وحاور، وأكسبته خبرة الدولة قدرات إضافية، ونجح فيما أسندت إليه من مهام جسيمة.. وبعضهم الآخر غابت عنه أية نظرة ثقافية، متصورًا أن الضبط والربط وحده يكفى لإدارة الدولة وإنجاز التكليفات، وكان عبئًا على المناصب التى تولاها.
التعميم، حيث يجب التخصيص، خطأ بالغ فى تقدير أوزان الرجال.
أية مراجعة لمذكرات «ثروت عكاشة» تثبت باليقين أن التصورات سبقت الإجراءات والرؤى سبقت الأفعال.
لم تنشأ «الثورة الثقافية» من فراغ، ولا طرأت بالمصادفة.
أهم ما انطوت عليه «الثورة الثقافية» إتاحة حرية النقد والاختلاف. لا إبداع يتأسس على تعليمات بما يكتب أو لا يكتب. كانت تلك مفارقة، حيث سمح فى الإبداع القصصى والمسرحى بما لم يكن مسموحًا به على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون من نقد
اتسعت مساحة القراءة العامة بما هو جدير بالاطلاع عليه من فكر وأدب وإبداع لكتاب مصريين.
ازدهرت حركة الترجمة لإتاحة ما ينشر من فكر حديث فى الغرب أمام القارئ بأرخص الأسعار.
نشأ جيل من المسرحيين العظام مثل «يوسف إدريس» و«سعد الدين وهبة» و«ألفريد فرج» و«محمود دياب» و«ميخائيل رومان» و«نعمان عاشور».
أنشئت أكاديمية الفنون بالهرم وأرسلت بعثات إلى عواصم أوروبية، خاصة موسكو، لتعلم الموسيقى الكلاسيكية وفن الباليه والمسرح.
انتشرت قصور الثقافة فى كل المدن، كأنها تلاحق التوسع فى إنشاء المدارس والمستشفيات العامة.
نهضت حركة الفن التشكيلية وأضيفت كلية جديدة للفنون الجميلة بالعاصمة الثانية الإسكندرية.
وشهدت الأغنية الوطنية عصرها الذهبى، بتوصيف المايسترو «سليم سحاب».
بروح المرحلة جرت ثورة حقيقية ردت الاعتبار إلى الغناء الشعبى على يد «زكريا الحجاوى».
وكان صعود فن الرقص الشعبى فى تجربتى «فرقة رضا» و«الفرقة القومية للفنون الشعبية» علامة على نوع التجديد الثقافى، الذى زاوج بين الفنون الحديثة والفنون الشعبية.
أهم ما انطوت عليه «الثورة الثقافية» إتاحة حرية النقد والاختلاف.
لا إبداع يتأسس على تعليمات بما يكتب أو لا يكتب.
كانت تلك مفارقة، حيث سمح فى الإبداع القصصى والمسرحى بما لم يكن مسموحًا به على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون من نقد.
لم يُمنع حق عن أديب اختلف، ولا صودرت رواية انتقدت.
نشرت رواية «نجيب محفوظ» «أولاد حارتنا» كاملة على صفحات «الأهرام»، رغم الزوابع التى أثارتها.
ونشرت فى وقته وحينه روايات أخرى له انتقدت دون مواربة أوجه خلل عديدة فى النظام الناصرى.
سمح بعرض الشريط السينمائى «شيء من الخوف» عن رواية بالاسم نفسه لـ«ثروت أباظة»، رغم الاعتراضات الرقابية التى تصورت أن «فؤادة» هى مصر و«عتريس» هو «عبدالناصر» وأن الزواج بينهما باطل.
لم يوافق «عبدالناصر» على الاعتراضات الرقابية فـ«نحن لسنا عصابة وإذا كنا كذلك لا نستحق أن نحكم أو نبقى».
على ذلك المنوال اتسعت مساحة النقد وحريات التعبير فى المجال الثقافى.
بطبيعة الحال حدثت مضايقات متكررة من سلطات رقابية، أو أمنية، اشتكى منها مبدعون، أغلبهم موالون للثورة، لكنها وجدت فى النهاية استجابات فى مركز القرار.
كان ذلك تعبيرًا عن الصراع بين انفتاح ثقافى على حرية النقد وخشية أمن من تبعاته.
هل كانت الديمقراطية الثقافية تنفيسًا عن غياب تداول السلطة؟
وهل كانت الديمقراطية الاجتماعية بديلًا عن الديمقراطية السياسية؟
بالتعريف الثورات فعل استثنائى يهدم قديمًا ويبنى جديدًا. لم يكن ممكنًا ـ فى تجربة «يوليو»، أو فى أى تجربة ثورية أخرى ـ إحداث أى تحول جذرى فى بنية المجتمع ما لم تتوافر سلطة قوية تحميه
هناك من يعتقد أن مقايضة جرت فى تجربة «يوليو» بين الحقوق الاجتماعية والحريات السياسية.
حديث المقايضة ينزع عن الثورة عمق توجهاتها الاجتماعية.
الذين يقايضون لا تعنيهم القضايا الكبرى والالتزامات الرئيسية بقدر استهداف البقاء فى السلطة بأية صيغة، أو أية صفقة.
لم يكن الأمر كذلك، فحجم التحول الاجتماعى يتأبى على تلك الافتراضات.
كما أنه ارتبط بالنهضة الثقافية فى مشروع واحد استهدف تغيير وجه الحياة.
بالتعريف الثورات فعل استثنائى يهدم قديمًا ويبنى جديدًا.
لم يكن ممكنًا ـ فى تجربة «يوليو»، أو فى أى تجربة ثورية أخرى ـ إحداث أى تحول جذرى فى بنية المجتمع ما لم تتوافر سلطة قوية تحميه.
الوقوع بالكامل فى فخ التوصيفات الجاهزة نفى بالمطلق لشرعية الثورة ـ أية ثورة، ينزع عنها إرادة التغيير وينزع فى الوقت نفسه عن النظم التى أسقطتها استحقاق السقوط.
اعتمدت «يوليو» على أجهزة الدولة فى إحداث التغيير الواسع الذى طلبته، حيث لم يكن لديها تنظيم شعبى قوى يتولى مسئولية الموقف قبل استلام السلطة ولا تمكنت من بنائه بعدها.
بنفس هذه الأجهزة جرى الانقلاب عليها بقرارات إدارية من الرئيس «أنور السادات» ومن بعده.
فى لحظات الثورة تأكدت فكرة السلطة القوية.
فى لحظات الانقلاب عليها كان إرثها التنظيمى معولًا فى هدمها.
لم تكن مصادفة الحملة على الثقافة والمثقفين وإغلاق المنابر الثقافية مطلع سبعينيات القرن الماضى عند تغيير السياسات.
ولا كانت مصادفة أن المثقفين الذين انتقدوا التجربة من داخلها هم أول من هرعوا للدفاع عنها فى لحظة الانقضاض عليها.
الثقافة والإعلام قضيتان متلازمتان، كلتاهما تحتاج الأخرى لاستكمال أدوارها.
فيما اتسعت حريات النقد والتعبير فى الأولى ضاقت بالثانية.
كانت تلك إحدى مفارقات بنية نظام «يوليو».
والثقافة والديمقراطية قضيتان توأمتان، كلتاهما تنهض بالأخرى.
ساعدت الديمقراطية الثقافية فى ضخ دماء فوارة بقلب مشروع «يوليو»، كما الديمقراطية الاجتماعية، غير أن غياب الديمقراطية السياسية نال من قدرته على حفظ نظامه وتجديد نفسه.
(*) بالتزامن مع “الشروق“