ناصيف حتي30/03/2021
حالة انفصام شديدة هو أفضل ما يمكن أن يوصف به وضع لبنان الذى يعيش مأساة وأزمة.
المأساة يعيشها المجتمع اللبنانى بجميع مكوناته وأطيافه وتتمثل بالانهيار المجتمعى الحاصل الحامل لجميع أنواع الانفجارات من الاقتصادى إلى الاجتماعى إلى السياسى إلى الأمنى مع الكلفة الباهظة التى يدفع ثمنها المواطن اللبنانى وحالة البؤس والمهانة وانسداد الأفق التى تحكم حياته اليومية.
أما الأزمة فتعكس صراعا سياسيا لبنانيا يتداخل فيه العامل الداخلى بالعامل الخارجى وهذا ليس بجديد فى تاريخ لبنان: صراع يحمل عنوان تشكيل حكومة إنقاذ أو «حكومة مهمة»، حسب المبادرة الفرنسية، والتى صارت أحد عناوين المبارزة الحاصلة. حكومة من هذا النوع، والجميع متفق على التسمية فقط لا غير، كما تدل جميع المواقف خاصة بأشكال إيحائية ولو صارت مباشرة عند البعض مؤخرا.
الصراع حول تشكيل الحكومة التى قد تكون الحكومة الأخيرة فى عهد الرئيس ميشال عون، باعتبار أنه من غير المستبعد عدم حصول انتخابات نيابية العام القادم كما يرجح البعض. يزيد ذلك الاحتمال من حدة الصراع حول تركيبة الحكومة والمحاصصة التى ستحكم تشكيلها مهما تم لتغطية هذا الأمر بأشكال مختلفة لا يمكن أن تخفى الحقيقة، خاصة أمام السيناريوهات المختلفة التى تطرح حول الاستحقاق الرئاسى القادم. فى السياق ذاته، نشهد معركة داخلية حول الصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة (رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة)، ونشهد معركة إعادة فتح ملف «اتفاق الطائف» ورغبة البعض بالعودة إلى ما قبل الاتفاق، باعتبار أنه عكس توازنا داخليا ـ خارجيا تغير كليا الآن وقد بدأت معركة الحديث عن إعادة فتح هذا الملف تحت عناوين مختلفة، فيما يتمسك آخرون به كما هو..
الموضوع أكبر من صراع حول عدد الحقائب والفيتوات المتبادلة وحجم النفوذ فيما البلد ينهار
لقد صار المطلوب الانطلاق من اتفاق الطائف والبناء عليه لتطويره والذهاب نحو الدولة المدنية كخلاص للبنان من «لعبة الكراسى الموسيقية» بين الطائفيات والمذهبيات السياسية. كل من هذه الأخيرة يستفيد من لحظة توازن قوى داخلى خارجى لمصلحته توازن لا يدوم ولا يسمح ببناء وطن.
وعلى صعيد آخر يأتى تأليف الحكومة فى خضم اشتداد المعركة فى الإقليم الشرق أوسطى مع مجىء إدارة بايدن إلى السلطة ولعبة المفاوضات غير المباشرة وعلى الأرض بين واشنطن وحلفائها من جهة وطهران وحلفائها من جهة أخرى للإمساك بأكبر عدد من أوراق اللعبة (ولبنان من ضمن هذه الأوراق). الانتظار لحسم اللعبة لمصلحة طرف على حساب طرف آخر أو التفاهم حول تقاسم النفوذ فى الإقليم يزيد من تعقيد الأمور: الموضوع أكبر من صراع حول عدد الحقائب والفيتوات المتبادلة وحجم النفوذ فيما البلد ينهار.
وللتذكير هنالك أكثر من ٥٥ بالمائة من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، حسب الاسكوا، وأكثر من مليونين من العاطلين عن العمل إلى جانب السقوط الهائل للعملة الوطنية أمام الدولار فى بلد يعيش على الاستيراد.
ولا بد فى هذا السياق من التذكير ببعض الحقائق اللبنانية فى ظل الخلاف القائم حول التدويل من عدمه. إن مجمل خلافاتنا كانت أو تغذت على قضايا خارجية وتمت لبننة الخلافات دون أن يعنى ذلك غياب خلافات داخلية وأن مجمل التسويات حول هذه الخلافات الداخلية تمت أساسا فى الخارج. فالخلاف كما هو حاصل هو فى حقيقة الأمر حول أى تدويل (أو أى دور خارجى) وليس حول مبدأ التدويل من عدمه.
بعد إنقاذ لبنان من السقوط والانهيار، يمكن البحث فى تطوير النظام والبناء على «الطائف»
فى ظل الأزمة الوجودية التى تهدد اليوم مصير الوطن واحتمال حصول انهيار كلى علينا قبل البحث فى تجديد أو تغيير النظام، والإصلاح الشامل للنظام اللبنانى للخروج من واقع نظام فيدرالية المذهبيات السياسية: النظام الهش الذى يجذب دائما جميع أشكال وأنواع التدخلات أيا كانت العناوين والشعارات البراقة لهذه التدخلات، علينا العمل على بلورة مشروع الإصلاح الاقتصادى لوقف هذا الانهيار. المطلوب قبل تشكيل الحكومة، وقد مرت أشهر على ذلك، تنظيم طاولة مستديرة، وقد طالبنا بذلك من قبل، وقيل حينذاك أنه مضيعة للوقت وكم من الوقت ضاع، طاولة تضم ممثلى القوى السياسية الرئيسية التى اجتمعت مع الرئيس الفرنسى وقالت إنها التزمت بالإصلاح مع ممثلى قطاعات من المجتمع المدنى لتنطلق كما قد يرغب البعض من ورقة الإصلاح الفرنسية ويبنى عليها البرنامج الإصلاحى الشامل والمطلوب بجميع عناصره للإنقاذ الوطنى مع خريطة طريق واضحة للتنفيذ وجدول زمنى، مع التزام جميع القوى المشاركة بدعم ومواكبة وتسهيل تنفيذ هذا البرنامج الذى يحظى بإجماع وطنى ومواكبة دولية. يجب أن تنظم هذه الطاولة المستديرة فى إطار زمنى محدد بشكل مسبق ومحدود جدا، برعاية وضمانة خارجية، لتكن فرنسية مع الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، لمواكبة تنفيذ الحكومة التى ستشكل لاحقا أيا كان عدد اعضائها، لهذا البرنامج.
بعد إنقاذ لبنان من السقوط والانهيار، يمكن البحث فى تطوير النظام والبناء على «الطائف». فالاستمرار فى القتال حول من يكون القبطان الفعلى للمركب اللبنانى وحول شط الأمان كما يراه أو يتمناه كل طرف أمر غير واقعى، دون برنامج «الرحلة» الذى أشرنا إليه، إذ يغرق المركب بالجميع وهم يتقاتلون على القبطان وشاطئ الأمان. فهل من يسمع قبل فوات الأوان؟
(*) بالتزامن مع “الشروق“