لكنّ “بيرني” ليس من أولئك الذين ينتهون بمجرّد أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة، سواء بمرض أو بحادث غالباً ما يسجل قضاءً وقدراً. أمثال مادوف غالباً ما تُخلع عنه الصفة البشرية، فيتحولون إلى فكرة لا تموت، ثم يتجسدون إنساناً هنا، وشركة هناك، أو حتى منظومة مالية تتحكم بشؤون بلاد وشعوب.
بهذا المعنى، لا يجوز القول إن مادوف قد مات. هو باقٍ ويتمدد. لا بل هو أقرب إليك أكثر مما تتصوّر. ستتعامل معه يومياً حين تصحو على تبخر أموالك في شركة استثمارية أغرتك عروضها، أو حين تحاول عبثاً استعادة نذر من ودائعك المحجوزة في مصرف لبناني، أو حين تحاول يائساً فهم مكنون قرار اقتصادي أو تعميم مصرفي يحاول تجديد منظومة حاكمة سلبتك كل شيء حتى جلدك.
ليس الربط بين برنارد مادوف والمنظومة الحاكمة في لبنان مجرّد ترف كتابي. هي نفسها الدليل القاطع على أن عقيدة مادوف لا تموت، ويمكنها أن تتناثر، وتبقى حرة طليقة، فيما صاحبها، أو أحد أبرز أقطابها، قابعاً في سجن أميركي ينتظر لحظة رحيله بسبب مرض عضال أصاب كليتيه.
يضاف إلى ما سبق أن لكل عقيدة قذرة سلف غير صالح يستوحي منه الخلف الفكرة ويجتهد في تطويرها وتكييفها مع متغيرات العصر. وعلى هذا الأساس، فإنّ برنارد مادوف والمنظومة الحاكمة في لبنان غرفا من المنبع نفسه. وكان مصدر الهامهما تشارلز بونزي، أحد أشهر المحتالين في التاريخ المعاصر، والذي تمكن من جمع ثروته في غضون بضعة أشهر.
تبدأ قصة بونزي في بوسطن في مطلع عشرينيات القرن الماضي، حين تحوّل ذلك المهاجر الإيطالي إلى مستثمر في أموال السذّج: من خلال شركة أوراق مالية، قدم وعوداً لضحاياه بعائد استثمار يناهز الأربعين في المائة في غضون تسعين يوماً، في وقت كان معدل الفائدة لا يتجاوز الخمسة في المائة سنوياً. ودفع فوائد المستثمرين الأوائل بأموال الوافدين الجدد، فعلق أكثر من 40 ألفاً من صغار المدخرين في فخه، واستثمروا 15 مليون دولار في مشروع بات يطلق عليه اسم “مخطط بونزي” قبل أن ينهار كل شيء مثل بيت من ورق.
مادوف والمنظومة الحاكمة في لبنان غرفا من المنبع نفسه. وكان مصدر الهامهما تشارلز بونزي، أحد أشهر المحتالين في التاريخ المعاصر، والذي تمكن من جمع ثروته في غضون بضعة أشهر.
إذا كان من الصعب إيجاد قاسم شخصي مشترك بين المنظومة الحاكمة في لبنان وبين كل من مادوف وبونزي – بسبب اختلاف النوع البشري – فإنّ ثمة قواسم شخصية كثيرة بين المهاجر الإيطالي ورجل الأعمال اليهودي الأميركي.
كلاهما كان شخصية مغمورة، وقد شقا طريقهما إلى عالم المال في مسيرة متشابهة. تركا الدراسة قبل التخرج. عملا في مهن متواضعة كانت بالسنبة إليهما الدرجة الأولى في سلم الارتقاء إلى السماء السابعة، بعدما أجادا قواعد اللعبة في شركات الأوراق المالية، قبل أن يهوي بهما الاحتيال تحت سابع أرض.
حتى لحظة السقوط، في العام 2008، كان ينظر إلى مادوف بصفته بطلاً ملحمياً يعشقه المغمورون: طفل من شرق كوينز، الحي الذي تقطنه الطبقة العاملة في نيويورك، لا يمتلك والده ما يكفي لتأمين تعليم خاص لأبنائه، فينبري أحدهم (برنارد نفسه) للمواءمة بين الدراسة صباحاً والعمل الجزئي ليلاً، حارساً في مسبح بلدية لونغ آيلاند، أو عاملاً في تركيب مرشّات آلية، مع حرص على عدم تفويت الواجب الديني في الكنيس مع عائلته يوم السبت.
لم يكن “بيرني” المولود في العام 1938 يعرف أحداً في ناطحات السحاب في مانهاتن، لكن الحلم كان حقاً مشروعاً لديه. لقد أراد أن يصبح أحد ساكني تلك الناطحات، وأن يصنع لنفسه مكاناً في وول ستريت.
هذا الحلم قاده إلى أن يترك دراسة الحقوق في العام 1956، وينصرف، وهو في الثانية والعشرين من العمر، إلى تأسيس شركة صغيرة (Madoff Investment Securities) ببضعة آلاف من الدولارات التي تمكن من ادخارها.
حتى أوائل الستينيات الماضية، كان كل ما يمتلكه مادوف شركة عائلية صغيرة، يعمل فيها شقيقه بيتر. في تلك المرحلة كانت بورصة نيويورك مزدهرة، فجرّب بيرني حظه، من خلال لعبة الوساطة المالية. كان نشاطه حينها بسيطاً، جمع أوامر بيع وشراء الأسهم نيابة عن المصارف والأفراد وإرسالها إلى بورصة نايس النيويوركية. وفي مقابل كل معاملة كان الوسيط/السمسار يحصّل عمولة صغيرة.
خلال فترة قصيرة، بات الأمر يحتاج إلى أكثر من شركة عائلية. لهذا وظف مادوف عشرات الموظفين، لكنه ظل مجرد وسيط متواضع مثل العديد من الشركات الأخرى، التي سعى أصحابها إلى التقاط اللحظة ذاتها.
بعد نجاحاته الأولى، اختار “بيرني” لنفسه منزلًا لطيفاً في لونغ آيلاند، واندمجت العائلة بسرعة في بلدة روسلين التي يسكنها مدراء تنفيذيون ميسورون يعملون في المصارف وشركات الإعلان في مانهاتن. كل أفراد العائلة وسّعوا نشاطهم، وبينهم روث، زوجة مادوف، التي أخذت تنشر كتباً عن افضل وصفات الطبخ حسب الشريعة اليهودية.
لم يعد مادوف ذلك التلميذ العامل الآتي من حارات كوينز. دخل عالم المال من باب الوساطة/السمسرة، لكنه لم يحقق حلمه بعد في أن يصبح ملك وول ستريت. كانت ثمة حاجة لالتقاط لحظة أخرى، سَنحت له في أوائل الثمانينيات، أي في عصر تكنولوجيا المعلومات، التي كان شديد الاهتمام بها منذ وقت مبكر، فبات أول الأوائل من بين وسطاء وول ستريت الذين أدركوا أن أجهزة الكومبيوتر ستحدث ثورة في نشاط البورصات، فخاض غمار التحدي، وبات نشاطه أكثر سرعة وأقل خطأ، والمجالات المتاحة أمامه متحررة من أية قيود.
سنة بعد أخرى، شق برنارد مادوف طريقه إلى قدس أقداس التمويل العالمي – بورصة “ناسداك” التكنولوجية، التي انتخب رئيساً لها في العام 1990، ليضع قدميه بالتالي في نادي نخبة رجال الأعمال. قبل ذلك بسنوات قليلة، خلع “بيرني” بزة الوسيط، واستبدلها ببزة الاستشاري الذي يقدم النصائح في سوق الأوراق المالية لقلة قليلة (غالباً لأفراد الجالية اليهودية) أو لبضعة مستثمرين من الحيتان الكبيرة. أما بالنسبة لباقي المستثمرين من ذوي الخبرات المحدودة في لعبة البورصة، فقد صار مادوف ملاذهم في إدارة محافظ سوق الأوراق المالية الخاصة بهم، ثم كانت النقلة الأكبر حين جذب إليه فريد ويلبون، المستثمر الكبير وصاحب فريق “ميتس” الاسطوري للبيسبول، الذي فتح لمادوف دفاتر عناوين أقرانه، بعدما وضع أموالاً ضخمة تحت تصرفه لإدارتها.
في مطلع الألفية الثالثة، كانت الأسطورة قد بلغت أوجها. صار مادوف رمزاً تتسابق الصحافة الاقتصادية للإضاءة على مسيرته النموذجية والكشف عن بعض من أسرارها الملهمة، واستعراض ممتلكاته العقارية الفاخرة في أبر إيست سايد وبالم بيتش وهامبتونز وسان تروبيه وغيرها، فيما يحاول مصورو صفحات المجتمع التقاط بعضاً من يومياته وأفراد عائلته في نادي اليخوت وأندية الغولف والبيسبول ناهيك عن النشاطات الخيرية (التي كانت بمجملها مخصصة للجالية اليهودية) وحفلات الاستقبال التي غالباً ما كانت تقتصر على نخبة مختارة بعناية فائقة، وهي في معظم الأحيان مخصصة لاصطياد الزبون الثمين!
في ذروة الازمة الاقتصادية العالمية، بدا أن قصر الورق الجميل قد شارف على الانهيار. في 10 كانون الأول/ديسمبر عام 2008، طلب برنارد مادوف من ولديه الحضور لرؤيته، ليكشف لهم سره: بحلول نهاية الشهر، سيكون في حاجة إلى ايجاد سبعة مليارات دولار لإعادتها إلى عملائه، في حين لم يتبق في خزائنه سوى بضع عشرات الملايين من الدولارات!
ضحايا مادوف سيذكرون تاريخ الحادي عشر من كانون الأول/ديسمبر عام 2008 طيلة حياتهم، ويحفّظونه لأبنائهم جيلاً بعد جيل. في ذلك اليوم، وقف برنارد مادوف، مخاطبا موظّفيه للحظات قبل أن يطرق بابه عناصر مكتب التحقيقات الفدرالي: “أعلن أمامكم إفلاسي، لم أعد املك شيئاً، لقد خسرت 50 مليار دولار مرة واحدة”.
سبب انهيار الإمبراطورية المالية ليس من الصعب فهمه – خصوصاً في لبنان – فالأرباح التي كان يعلن عنها مادوف خلال السنوات السابقة، والتي مكّنته من صنع شهرته وكسب ثقة المستثمرين على المستوى الدولي، لم تكن أرباحا حقيقة، أو نتيجة عمليات استثمار واقعية، بل حصيلة جذبه لإيداعات مالية جديدة. وحين أصبح من غير الممكن العثور على مودعين جدد، بسبب الأزمة المالية العالمية، انهار كل شيء، ولم ينج من آثاره إلا الذين سحبوا ودائعهم مبكراً.
سريعاً تكشفت التداعيات الكارثية للسقوط الحر. في 13 كانون الأول/ديسمبر، تم التعرف إلى الضحية الأولى، ثم راحت قائمة الضحايا تزداد اتساعا يوماً بعد يوم لتتجاوز حدود الولايات المتحدة، ففي أوروبا شملت قائمة الضحايا مصرف “بانكو سانتاندر” الاسباني ومصرف “ميديسي” النمساوي، ومصرف “يو بي بي” السويسري، ومصرف “إتش إس بي سي” البريطاني، ثم كرت السبحة: مصرف “دويتشه بنك”، المخرج ستيفن سبيلببرغ، ومؤسسة المجتمع اليهودي في لوس أنجلس… الخ.
انتهى مصير بعض زبائن مادوف، ففي 22 كانون الأول/ديسمبر عام 2008، انتحر المدير المالي الفرنسي رينيه تيري ماجون دي لا فيلهو في مكتبه في نيويورك بعدما واجه صندوق التحوط الذي يعمل به خسائر بلغت 1.4 مليار دولار؛ وفي 14 شباط/فبراير أطلق الجندي البريطاني السابق وليام فوكستون الذي فقد ذراعه أثناء الخدمة العسكرية الرصاص على نفسه بعد أن خسر مدخرات حياته (مليون دولار) التي استثمرها في صندوقين للتحوط أودعا الأموال بدورهما لدى صندوق مادوف.
ربما تكون العبارة الأكثر تعبيراً عن لحظة السقوط، تلك التي نقلتها عائلة مادوف عنه حين استدعى ابنيه ليبلغهم إن “كل هذا كان مجرد كذبة كبيرة”.
لم يحصل هذا الانهيار صدفة. ثمة عاملان حفّزا هذا السقوط الحر: الأول، أن النظام المالي الدولي كان مسؤولاً إلى حد كبير عما حدث، حين بات من السهل جداً تحوّل الاستثمارات المالية إلى عمليات اختلاس، حيث أصبحت المنتجات المالية معقّدة ومركبة جداً، والذين يشترونها لا يفقهون في عملياتها شيئاً؛ أما الثاني، فيتصل بفشل أو ربما فساد الهيئات الرقابية، حيث اعترفت هيئة الأوراق المالية الأميركية بأنها ارتكبت أخطاء قاتلة حين تقاعست عن إجراء تحقيقات شاملة في البلاغات التي تلقتها، وكانت تشير إلى أخطاء وشبهات متصلة بنشاط مادوف، حين كانت مكاسبه تتناقض مع كل اتجاهات النمو والتراجع في وول ستريت، مع أن عناصر الاحتيال كانت واضحة للغاية، بشهادة هاري ماركوبوليس، وهو خبير أميركي كاد يقع في فخ مادوف، إلا أنه تيقن منذ دراسة أولى أوراقه بوجود شبهات خطيرة، حيث قال “نظرتُ في الوثيقة، ومنذ الدقائق الخمس الأولى أحسست بأن الأمر يتعلق بعملية غش واحتيال”.
في 29 حزيران/يونيو عام 2009 حكم بالسجن لمدة 150 عاماً، وهو الحد الأقصى المنصوص عليه في القانون الأميركي، لتنتهي بذلك قصة رومانسية لمكافح تحول إلى أحد اباطرة وول ستريت، وانتهى به الحال لأن أصبح “أكبر محتال في التاريخ الحديث”… ربما تكون العبارة الأكثر تعبيراً عن لحظة السقوط، تلك التي نقلتها عائلة مادوف عنه حين استدعى ابنيه ليبلغهم إن “كل هذا كان مجرد كذبة كبيرة”.
هل من مادوف لبناني؟