الإبادة الأرمنية نموذجًا.. قرار بايدن من صنع أردوغان!

كنا في هذا الشرق ولا نزال ننكر ما لا يعجبنا في تاريخنا ونلغيه. نتباهى بإنجازات أسلافنا وهي لا شك كثيرة، وفي الوقت نفسه، نحذف ما ارتكبوه من بشاعات لأننا نخاف من فتح أبواب قد لا تغلق ابداً. 

لأننا احتفلنا بكوارثنا واعتبرناها مآثر كبرى، ولأننا أنكرنا بعضها او تجاهلناها، لا يزال ماضينا يطارد حاضرنا، ولا تزال مآسينا السابقة تعيش بين ظهرانينا وتؤلمنا. نمحي صفحات من تاريخنا، لذلك لا نعرفه حق المعرفة ولم نتعلم من دروسه حتى نأخذ العبر ونتنبأ بالمستقبل. ننسج الاساطير عن ماضينا كي نرسم صوراً خيالية، لكننا في الواقع لا نفعل سوى خداع أنفسنا. ولأننا لم نتعلم من أخطاء الماضي من أجل تصحيحها في المستقبل، لا شيء يمنع من أن يعيد التاريخ نفسه بمأساة جديدة وليس بمهزلة. 

كثيرة هي الارتكابات التي اقترفت في شرقنا، وتعامينا عنها عمداً او عن غير قصد، ومنها ما حلَّ بالأرمن في أواخر عهد الإمبراطورية العثمانية مطلع القرن الماضي، والتي ترفض تركيا الحديثة وريثة الإمبراطورية السابقة، أية محاولة لتصنيفها كابادة جماعية، حتى لا تفتح جروحاً لارتكبات مماثلة حصلت سابقاً او لاحقاً، من شأنها ان تؤثر سلباً على  شعور الفخر بالهوية التركية.

وفيما يؤكد الارمن مقتل مليون ونصف مليون أرمني عام 1915 على أيدي العثمانيين، خلال الحرب العالمية الأولى، بعدما شرع الباب العالي في ترحيل واسع للمدنيين الأرمن من جميع نواحي الإمبراطورية العثمانية نحو جهات عدة منها الصحراء العربية بذريعة الرد على اعلان الارمن نيتهم الحكم الذاتي او تشكيل دولة خاصة شرق الأناضول، اسوة بكثير من الأعراق التي شرعت في التعبير عن طموحاتها الوطنية، ومن ثم تشكيل الأرمن مجموعات قتالية كانت تدعم الجيوش الروسية المعادية للعثمانيين. وخلال العملية قتلت غالبية من هم في سن القتال إلى جانب الأطفال والنساء، كما تعرّض المدنيون الأرمن لهجمات من عصابات وحتى من مدنيين آخرين، ولقي الآلاف كذلك حتفهم نتيجة الجوع والمرض.

وفي المقابل، أقرت تركيا بوقوع مجازر ووقوع ضحايا أرمن، لكنها تقول إن الرقم لا يتجاوز 300 ألف، وإن ذلك وقع في فترة حرب، فضلا عن أنه لا يرقى الى مصطلح “إبادة جماعية” حسب تعبيرها، وتحاكِم على استخدام هذا اللفظ داخلياً بموجب المادة 301 من قانون العقوبات المجرّم لإهانة الهوية التركية، وهي تؤكد أن الأتراك تعرضوا بدورهم لعمليات قتل جماعية من لدن “عصابات أرمينية”، فيما تؤكد وكالة “الأناضول” أن الروس وبعد انسحابهم من الحرب، سلّحوا المقاتلين الأرمن بعتاد قوي، ما أتاح لهؤلاء ارتكاب مجازر ضد المدنيين العثمانيين. 

وجاء الاقرار التركي بعد ما يقرب من نصف قرن من الرقابة والنسيان، تلته عقود من الإنكار الرسميّ. لكن انقرة لا تزال ترفض إطلاق “الإبادة الجماعية” على تلك الأحداث بل تصفها بـ”المأساة” لكلا الطرفين، وتدعو إلى تناول الملف بعيدًا عن الصراع السياسي وحل القضية بمنظور “الذاكرة العادلة” الذي يعني التخلي عن النظرة الأحادية إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي عند كل طرف.

بعثت الولايات المتحدة برسالة مفادها أنها لا تمنح تركيا الأهمية نفسها التي احتفظت بها لعقود من الزمن في نظر جميع الإدارات السابقة. سيستمر التحالف، لكن السياق سيكون مختلفًا وسيكون للقرار الأميركي أثره على الداخل التركي

ومن الأسباب التي تدفع أنقرة إلى إنكار الابادة، انه يسيء إلى تاريخها والى فئات واسعة للغاية من الشعب التركي. وفي هذا الصدد، يقول المؤرخ التركي تانر أكام لصحيفة “نيويورك تايمز” أنه ليس من السهل لأمة أن تصف مؤسسيها بأنهم قتلة ولصوص، وذلك نظراً لكون العديد من قادة الجمهورية التركية الوليدة (ليس منهم المؤسس كمال أتاتورك) كانوا مهندسين فعليين لما إرتكب من مذابح، وعدد منهم اغتنوا من مصادرة أملاك الأرمن.

وتخشى انقرة ان تزيد هذه القضية صب الزيت على نار العلاقة المتوترة اصلا مع أرمينيا، لا سيما بعد انقطاع كل قنوات التواصل بين الدولتين الجارتين اثر الدعم الكبير الذي قدمه الأتراك للأذريين في اقليم ناغورنو قره باخ وادى الى هزيمة موجعة للارمن. 

كما تخشى تركيا من أن تتحول القضية الارمنية الى بازار قضائي في المحاكم الدولية يطالب انقرة بتعويضات مالية ومعنوية باهظة. وبالفعل فان بعض الأرمن من أصول تركية يرفعون دعاوى قضائية ضد تركيا في المحاكم الأميركية منذ مدة ويطالبون بتعويضات تقدر بعشرات ومئات ملايين الدولارات. ومن المخاوف أن يدفع الإعتراف التركي بالإبادة الجماعية إلى تحريك ملف الأشوريين/ السريان، وكذلك ملف ما يعرف بـ”الإبادة الجماعية لليونانيين”، الملف العالق تاريخيًا بين تركيا واليونان حيث تطالب أثينا أنقرة بالاعتراف بما جرى وتصنيف ذلك إبادة جماعية، بينما تتهم أنقرة بدورها أثينا بارتكاب مذابح وإبادة جماعية في تلك الفترة كما جرى لألبان منطقة شاميريا.

بيد أن ارتباط الإبادة الأرمنية بالراهن التركي يبرز أيضا في الاطار المحلي، حيث الخشية من أن تشكل اثارة هذه المسالة على نطاق دولي، مدخلا الى القضية الكردية التي لا تقل خطورة الان على وحدة الأراضي التركية. وكانت السلطنة العثمانية قد زجت بالاكراد في عمليات طرد الارمن وتهجيرهم من خلال “الكتائب الحميدية” التي انشأتها منهم في مقابل وعود واغراءات.. الحكومات التركية المتعاقبة منذ سقوط السلطنة وبناء الدولة الكمالية ثم الدولة الاردوغانية، لم تحقق أيًا من هذه الوعود وفشلت في جعل الأكراد يشعرون بالمساواة والشراكة في الوطن، ما فتح باب الانتفاضات المتتالية والتي لا تزال مشتعلة داخل الحدود التركية وحولها.  

لهذه الاسباب مجتمعة، كافحت انقرة للحيلولة دون اضفاء شرعية دولية على المطالب الارمنية، مستخدمة من اجل ذلك كل أوراق الضغط والقوة والاغراءات التي تملكها. وعلى رغم ان 30 دولة بينها فرنسا والمانيا وروسيا ولبنان وسوريا افلتت من هذه الضغوط واقرت في برلماناتها بأن ما جرى للارمن هو “ابادة جماعية”، فان انقرة نجحت طوال العقود السابقة في تحييد أكبر دولة في العالم، واكبر قوة سياسية وعسكرية مؤثرة، أي الولايات المتحدة، عن دائرة توجيه الإقرار المباشر بالابادة الجماعية.. الى ان كانت المفاجأة الكبرى من الرئيس جو بايدن، الذي كسر المحظور الاميركي  بعدم إغضاب ثاني كبريات دول حلف الناتو، تركيا. 

ولم يكن بايدن ليلجأ الى هذا الاقرار لولا ادراكه بانه يحظى بدعم قوي في الكونغرس وفي المجتمع الأميركي، كما يدرك أن حكومة رجب طيب إردوغان باتت تحتاج لاميركا أكثر مما تحتاج إليها اميركا. 

صحيح أن العلاقات التركية – الروسية تطورت، ولكن ليس في استطاعتها اخراج اروغان من مأزقه المتعدد الأوجه، ولا تسمح له بالقول لواشنطن او للحلف الاطلسي: وداعاً.

وهكذا ليس مستغربا ان يتهم خصوم اردوغان في الداخل رئيسهم بأنه هو الذي مهد لبايدن اتخاذ قراره التاريخي بكسر الصمت الأميركي الطويل حول الإبادة الجماعية للأرمن.

بهذا الإجراء، بعثت الولايات المتحدة برسالة مفادها أنها لا تمنح تركيا الأهمية نفسها التي احتفظت بها لعقود من الزمن في نظر جميع الإدارات السابقة. سيستمر التحالف، لكن السياق سيكون مختلفًا، وسيكون للقرار الأميركي أثره على الداخل التركي.

 

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180   تركيا أردوغان أقرب للنفس الأطلسي
أمين قمورية

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان تُناور إستباقياً.. من يَدفعْ كلفة الإنهيار؟