تدعو إنتفاضة فلسطين للتأمل فى الفجوة التى تفصل الحكومات العربية، وخصوصا تلك التى قبلت بالسير على هذا الطريق، وبين مشاعر شعوبها.
تأتى هذه الانتفاضة البطلة فى وجه محاولات المزيد من تهويد القدس بالسيطرة الفجة على هذا الحى فى القدس العربية من جانب جماعات من المستوطنين تؤيدهم بلا شك الحكومة الإسرائيلية المستقيلة بدعوى أنه كان مملوكا لليهود فى القرن التاسع عشر، لذلك يسعون إلى طرد العائلات الفلسطينية منه، تحت حماية أو تواطؤ قوات الشرطة الإسرائيلية.
أمام هذا العدوان الإسرائيلى المتجدد على الوجود الفلسطينى ذاته تجد منظمات المقاومة الفلسطينية نفسها منقسمة، ليس إزاء هذا الوضع الذى أدانته كلها، ولكنها تجد نفسها وقد عادت إلى الوراء بعد تقدم محدود على مسار التوافق بينها بعد أن كانت قد تلاقت على أن تكون الانتخابات هى سبيلها لتشكيل قيادة فلسطينية موحدة تستند إلى الاختيار الحر للشعب الفلسطينى، وتقود نضاله فى ظرف دقيق تخلت فيه الحكومات العربية عمليا عن مساندة قضيته وسلمت بطى صفحة مقاطعة سلطات الاحتلال ليس فقط بإقامة علاقات دبلوماسية معها، ولكن بمد هذه العلاقات إلى المجالات الأمنية والاقتصادية وبالتجاهل التام لمبدأ مفاوضة الأراضى بالسلام، والذى شكل أساس الموقف العربى من إسرائيل منذ مؤتمر القمة العربى فى بيروت فى سنة ٢٠٠٢.
اتخذ الرئيس الفلسطينى محمود عباس قرار الدعوة لتأجيل هذه الانتخابات دون التشاور مع الفصائل الفلسطينية الأخرى، ودون حتى أن يجد إجماعا على هذا التوجه من داخل منظمة فتح داعمه الرئيسى داخل حركات المقاومة الفلسطينية، وهو قرار اعترضت عليه جميع الفصائل الفلسطينية، وقيادات فتح التى كانت قد قررت المشاركة فى هذه الانتخابات بقائمة مستقلة، ولم تجد حجة عباس من صعوبة إجراء الانتخابات فى القدس بسبب عدم موافقة الحكومة الإسرائيلية صدى كبيرا لدى تلك الفصائل الأخرى التى شددت على أن تكون مقاومة عرقلة السلطات الإسرائيلية لانتخابات القدس فرصة جدية للتعبير عن رفض الفلسطينيين والفلسطينيات لادعاء السلطات الإسرائيلية بأن القدس هى العاصمة الموحدة لإسرائيل.
ومع ذلك لا تعنى أزمة المنظمات الفلسطينية انتهاء المقاومة الفلسطينية الشعبية لإسرائيل، فقد تعلم الشعب الفلسطينى أنه هو الذى يملك المبادرة على صعيد المواجهة مع إسرائيل، وهو ما أظهرته مسيرة المقاومة الفلسطينية منذ إنشاء إسرائيل فى سنة ١٩٤٨، كان الشعب الفلسطينى يتعلم من إخفاقات المقاومة، وينقلها إلى طور جديد عندما يفشل من يرفعون رايتها فى مواصلة دورهم، أو عندما تفقد إحدى وسائلها فعاليتها. كان هذا هو الحال عندما ترك للحكومات العربية أن تتولى المسئولية عن قضيته منذ ١٩٤٨، وحتى هزيمة يونيو ١٩٦٧، فظهرت المقاومة المسلحة من داخل دول المواجهة مثل سوريا ثم الأردن ولبنان حتى أعوام ١٩٦٧، ١٩٧٠، ١٩٨٢ على التوالى، فعوض الشعب الفلسطينى عن ذلك بالمقاومة من داخل الأراضى المحتلة منذ ذلك الحين، وهى مقاومة تعددت وسائلها، ولكن غلبت عليها الانتفاضات السلمية وخصوصا فى ١٩٨٧، وفى ٢٠٠٠، مع استمرار المقاومة المسلحة فى غزة، وهو ما أجبر الإسرائيليين أولا على القبول بوجود سلطة فلسطينية فى الضفة الغربية وغزة بموجب اتفاقيات أوسلو فى ١٩٩٣، ثم الجلاء عن غزة فى سنة ٢٠٠٥، ومع بناء إسرائيل لحاجز الفصل العنصرى بين المساحات التى تقع قانونا تحت السلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية لم تتوقف مقاومة الشعب الفلسطينى بأى وسيلة تصل إلى يديه من السلاح إلى رمى الحجارة فى الضفة الغربية أو إطلاق البالونات أو الصواريخ من غزة، وتشير انتفاضة الشيخ جراح إلى حلقة جديدة من المقاومة الباسلة للشعب الفلسطينى التى لا يمكن أن تتوقف قبل أن يحصل على حقوقه المشروعة على الرغم من كل أوهام الغطرسة الإسرائيلية التى تتصور إمكانية إذعان هذا الشعب لسطوة آلتها الأمنية.
هشاشة اتفاقيات التطبيع الجديدة
وتظهر هذه الانتفاضة كذلك هشاشة المنطق الذى استندت إليه اتفاقيات التطبيع الأخيرة بين أربع من الحكومات العربية وإسرائيل. حاول بعض أنصار هذه الاتفاقيات من مثقفى السلطة العرب وصف هذا التحول بأنه هو «الفكر الجديد» الذى يجب أن تسترشد به كل الدول العربية. زيّن أصحاب هذه الاتفاقيات مسعاهم بأنه سيسهم فى تحقيق السلام بين إسرائيل والشعب الفلسطينى. وردت عليهم إسرائيل بإنكار ذلك قولا وفعلا. فصرح بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل الذى يكاد نجمه يخبو فى سماء السياسة الإسرائيلية بأن تلك الاتفاقيات تقوم على مبدأ مبادلة السلام بالسلام وليس السلام بالأرض، وكان الرد العملى من جانب إسرائيل هو التوسع فى إقامة المستوطنات وخصوصا حول القدس، وأخيرا بسرقة مساكن الفلسطينيين علنا وجهارا تحت حماية قوات الأمن الإسرائيلية.
أدان محمد عبدالوهاب الظلم الذى وقع على هذا الشعب بكلمات على محمود طه «أخى جاوز الظالمون المدى»، وشدت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب فى سنة ١٩٦٨ بكلمات نزار قبانى تحية للكفاح المسلح الفلسطينى فى أغنية «عندى الآن بندقية»، وتألمت فيروز وعبدالحليم حافظ لما جرى فى زهرة المدائن وعلى الأرض التى خطى عليها السيد المسيح، وتغنى فى تونس لطفى بوشناق للانتفاضات الفلسطينية
الدافع الحقيقى لإبرام هذه الاتفاقيات هو من جانب دولتى الإمارات والبحرين والاتصالات شبه العلنية من جانب السلطات السعودية هو توهم تشكيل جبهة موحدة مع إسرائيل فى مواجهة إيران، وهو الحصول على مكاسب خاصة بدولتى المغرب والسودان من قبل الإدارة الأمريكية السابقة مثل اعتراف الولايات المتحدة بتبعية إقليم الصحراء الغربية للمغرب، وإسقاط العقوبات الاقتصادية على السودان. أى من هذه الدول لم يكن فى حرب مع إسرائيل، ولم يكن أى منها طرفا مباشرا فى مواجهة مسلحة معها، ومن ثم فالقول بأن تلك الاتفاقات هى خطوة على طريق تحقيق المطالب الفلسطينية هو ادعاء لا يصدقه سوى السذج. ومع تغير الإدارة الأمريكية بإدارة تسعى للتفاهم مع إيران حول برنامجها النووى، وأعربت بالفعل عن استعدادها لرفع معظم العقوبات الاقتصادية عليها، دون أن يقترن ذلك باشتراط وقف إيران توسعها الإقليمى، أو تطوير أسلحتها الصاروخية كما تتمنى دول الخليج وإسرائيل، اكتشفت حكومات الخليج خطأ هذه السياسة السابقة، بل ويزداد بطلان التعويل على إسرائيل لهزيمة مشروع إيران الإقليمى عندما تصبح إسرائيل ذاتها، ومؤسساتها النووية والعسكرية هدفا لهجمات صاروخية وإلكترونية من جانب أنصار إيران فى دول محيطة بها إلى الحد الذى دعا قيادة المخابرات الإسرائيلية أن تطلب من الإدارة الأمريكية أن تضع على قائمة أعمالها مقاومة تطوير إيران لأسلحتها التقليدية، بل وتفكير هذه الدوائر فى وقف أنشطة إسرائيل العسكرية الخفية المعادية لإيران لتجنب رد إيران عليها. يدرك العرب الذين تصوروا أن إسرائيل يمكن أن تكون درعهم فى مواجهة إيران أنهم قد ارتكنوا «على حائط مائل» كما يقول المثل الشعبى المصرى. ولذلك ذكرت بعض التقارير اتصالات سرية بين السعودية وإيران، وأدانت الحكومتان السعودية والإماراتية ما يجرى من جانب المستوطنين فى القدس العربية.
الرأى العام العربى لا يؤيد اتفاقيات التطبيع
ولكن ما هو موقف الشعوب العربية مما يجرى فى القدس وفى فلسطين عموما، وهل أدت اتفاقيات التطبيع بين ست من الحكومات العربية وإسرائيل إلى تغير فى اتجاهات هذه الشعوب نحو إسرائيل؟.
ليست هناك مؤشرات حول موقف العرب مما يجرى فى الوقت الحاضر فى القدس، ولكن ربما يمكن توقع اتجاهاتهم على ضوء موقف صناع الرأى والوجدان فيهم فى الماضى القريب، وبعض استطلاعات الرأى التى قامت بها مراكز موثوق بها فى السنوات الأخيرة.
بعد قيام إسرائيل وقفت الفنانات والفنانون والأدباء العرب إلى جانب الشعب الفلسطينى، أدان محمد عبدالوهاب الظلم الذى وقع على هذا الشعب بكلمات على محمود طه «أخى جاوز الظالمون المدى»، وشدت أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب فى سنة ١٩٦٨ بكلمات نزار قبانى تحية للكفاح المسلح الفلسطينى فى أغنية «عندى الآن بندقية»، وتألمت فيروز وعبدالحليم حافظ لما جرى فى زهرة المدائن وعلى الأرض التى خطى عليها السيد المسيح، وتغنى فى تونس لطفى بوشناق للانتفاضات الفلسطينية، واستنكر طاهر بن جلون فى المغرب مذبحة صابرا وشاتيلا، وبكت على ضحايا هذه المذبحة فرقة ناس الغيوان من أبناء وبنات وطنه، وحكى يسرى نصر الله فى باب البحر قصة المقاومة الفلسطينية، بل إن فاتن حمامة سيدة الشاشة الأولى قبل ذلك حكت مع عمر الشريف القصة الفلسطينية فى فيلم أرض السلام الذى أخرجه كمال الشيخ، واستمر مارسيل خليفة يغنى للمقاوم الفلسطينى مرفوع الهامة. وهذا بعض من كثير.
يتجاوب الشعب العربى مع صنّاع الرأى من فناناته وفنانيه وشعرائه وأدبائه، وهو ما تكشفه استطلاعات الرأى التى أدارتها مراكز علمية أمريكية. فعلى سبيل المثال اكتشف برنامج البارومتر العربى الذى تديره جامعة برنستون بالولايات المتحدة أنه من بين عينة تم التواصل معها بالهاتف فى سنة ٢٠٢٠ فى ست دول عربية هى الجزائر والأردن ولبنان وليبيا والمغرب وتونس، أن نسبة المؤيدين والمؤيدات لاتفاقات التطبيع بين إسرائيل وعدد من الدول العربية منخفضة للغاية لم تتجاوز ٩٪ فى المغرب، وكانت أدناها فى ليبيا حيث وصلت إلى ٩٪. شذت لبنان عن هذه القاعدة حيث ارتفعت هذه النسبة إلى ٢٠٪، ولم تتفاوت هذه النسبة بين المشاركات والمشاركين فى هذا الاستطلاع بحسب خصائصهم العمرية أو التعليمية، ولكن فى لبنان توافقت مع الاختلافات الطائفية.
وفى بحث سابق أجراه نفس البرنامج بالمقابلة على عينة من اثنتى عشرة دولة عربية فى ٢٠١٨ ــ ٢٠١٩ هى مصر، والأردن والعراق والكويت واليمن والسودان بالإضافة إلى الدول الست السابقة لم يوافق سوى ثلث المشاركين والمشاركات على أن تنسيق السياسات الخارجية بين الدول العربية وإسرائيل هو فى صالح الدول العربية. وانتهى خبراء وخبيرات هذا البرنامج إلى أن الرأى العام العربى لا يوافق عموما مع بعض الحكومات التى أبرمت اتفاقات مع إسرائيل، ففى غياب حل عادل للصراع الفلسطينى الإسرائيلى، لا تؤيد الشعوب العربية سلاما مع إسرائيل. كما وصل مشروع مؤشر الرأى العربى الذى يديره برنامج مؤسسة بروكينجز فى الدوحة إلى نتائج متشابهة وذلك من خلال مقابلات فى ثلاث عشرة من الدول العربية منها ثلاث فى الخليج هى المملكة العربية السعودية والكويت وقطر، وأربع فى المغرب العربى هى موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس، وثلاث فى المشرق هى الأردن ولبنان والعراق، فضلا عن كل من مصر والسودان، انتهى القائمون والقائمات على هذا المؤشر، وهو أكبر استطلاع للرأى فى الوطن العربى يتم بأسلوب المقابلة وبعينة ممثلة، إلى أن ثلاثة أرباع العينة تؤمن بأن فلسطين هى للفلسطينيين والفلسطينيات، ويعترض تسعة أعشارهم تقريبا (٨٧٪) على تطبيع العلاقات مع إسرائيل إن لم يرتبط بسلام عادل يستجيب لحقوق الشعب الفلسطينى.
ليت الحكومات العربية تستجيب لفنانيها وفناناتها وأدبائها ضمير شعوبها، وليتها تستجيب للغالبية الساحقة من شعوبها، وليت القيادات الفلسطينية ترتفع لمستوى بطولة شعبها ونبل تضحياته وتتوحد وراءه.
(*) نقلاً عن “الشروق“