الحوادث داهمته على غير ما خطط له وأعلنه من أولويات عندما انفجرت المواجهات فى القدس حول المسجد الأقصى وحى «الشيخ جراح» ووصلت إلى صدامات مسلحة اتسع نطاقها إلى حدود يصعب تجاهل خطورتها وتداعياتها على المصالح الأمريكية نفسها.
لم يكن الصراع العربى الإسرائيلى على رأس أولوياته، ولا من ضمن خططه لاستعادة الوزن القيادى الدولى لبلاده، الذى تدهور على نحو خطير فى سنوات سلفه «دونالد ترامب».
مال توجهه الاستراتيجى إلى التحلل بقدر ما هو ممكن من صداع الشرق الأوسط وأزماته والتوجه إلى الشرق الأقصى حيث الصراع على المستقبل مع الصين القوة الاقتصادية والاستراتيجية، التى تتطلع إلى حيازة مقعد قيادة النظام العالمى الجديد، الذى يوشك أن يولد من تحت أنقاض جائحة «كورونا».
أعلن استكمال انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول الحادى عشر من أيلول/ سبتمبر المقبل فى الذكرى العشرين لحادثة برجى التجارة العالمى، التى أفضت تداعياتها إلى احتلال كابول ثم بغداد وطرح مشروعات إعادة هندسة الإقليم من جديد بالتفكيك والتقسيم في ما سمى «الشرق الأوسط الجديد».
أراد أن يغلق صفحة كاملة من التورط الأمريكى فى حروب بلا نهاية، ساعيا بالوقت نفسه إلى إحياء الاتفاق النووى الإيرانى، الذى انسحب منه سلفه «ترامب» باسم منع إيران من حيازة السلاح النووى، قاصدا بالأساس ترميم العلاقات المتدهورة مع الشركاء الأوروبيين وداخل منظومة حلف «الناتو» فى هذه الأزمة كنقطة انطلاق لبناء تحالف أكثر قوة وثباتا فى مواجهة صعود التنين الصينى، الذى أخذ نفوذه يتسع وصوته يرتفع على غير ما هو معتاد فى الاجتماعات التى تضم البلدين.
لم يكن «بايدن» أول من بادر بالتفكير فى التحلل من صداع الشرق الأوسط. الفكرة خامرت الرئيس الأمريكى الأسبق «باراك أوباما»، الذى عمل بجواره نائبا للرئيس لدورتين.
فى حزيران/ يونيو (2009)، خاطب «أوباما» العالم الإسلامى من على منصة جامعة القاهرة، محاولا ترميم صورة بلاده المتصدعة، التى أفضت إليها سياسات وخيارات ألحقت أبلغ الضرر بحقوقه وقضاياه ووجوده الإنسانى نفسه.
أراد أن يبدو مقنعا بأن هناك صفحة جديدة فى العلاقات العربية ــ الأمريكية تصحح الصور النمطية المتبادلة، تتفهم معاناة العرب والمسلمين.. لكن دون أن يلتزم بتكاليف سياسية جديدة، فلا أحد يقدم العطايا الاستراتيجية على طريقة «بابا نويل» فى احتفالات أعياد الميلاد.
جاء إلى المنطقة بمدخل مختلف ولغة جديدة بحثًا عن مخارج للورطة الأمريكية، التى تسبب فيها سلفه الجمهورى «جورج دبليو بوش» عند احتلال العراق عام (2003) وما ترتب عليه من خلل موازين قوة ونتائج وتداعيات أقرب إلى الهزائم الاستراتيجية.
فى ذلك الخطاب الموجه إلى العالم الإسلامى وصف «أوباما» العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بأنها «غير قابلة للكسر».
كانت تلك العبارة الصريحة تعبيرا عن حقائق السياسة الأمريكية، أراد بها «أوباما» أن يضع حدودًا استراتيجية لما يمكن أن يتبعه من سياسات فى تحسين العلاقات مع العالم الإسلامى، وأن أى رهان على أى صدام محتمل بين الولايات المتحدة وإسرائيل فى عهده يتماهى مع الوهم، أو هو الوهم ذاته. فللاستراتيجيات مصالح تتحكم فيها وأهداف تصوغ حركتها، ولتعديلات الخطاب السياسى حدود لا يتخطاها.
يكاد بايدن لا يطيق رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، كما هو شائع ومعروف، ويعتبره من موروثات خصمه اللدود «ترامب»، لكنه لا يستطيع تجاهله بحكم هيمنته على مراكز القرار السياسى والعسكرى فى دولة ينظر إليها تقليديا كحليف استراتيجى عضوى ينبغى تحت كل الظروف دعمه ومؤازرته
تابع «بايدن» من واشنطن أصداء ذلك الخطاب الذى تبددت كلماته ورهاناته فى عواصف الانقلابات السياسية والاستراتيجية التى عمت الإقليم.
لم يكن على ذات الموجة، فهو بحكم خبرته السياسية الطويلة على رأس لجنة الشئون الخارجية فى مجلس الشيوخ الأمريكى أكثر قربا من الروح العامة لـ«المؤسسة الأمريكية» من الرئيس نفسه، وأكثر واقعية ودراية بملفات الشرق الأوسط، وأشد ارتباطا باللوبيات اليهودية فى الولايات المتحدة، لكنه تاليا لم يكن مستعدا أن يتبنى الانحيازات نفسها، التى ارتبطت بسلفه «ترامب».
أزمته استحكمت عند اندلاع المواجهات فى غزة والضفة الغربية والمدن العربية والمختلطة داخل الجدار.
يكاد لا يطيق رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو»، كما هو شائع ومعروف، ويعتبره من موروثات خصمه اللدود «ترامب»، لكنه لا يستطيع تجاهله بحكم هيمنته على مراكز القرار السياسى والعسكرى فى دولة ينظر إليها تقليديا كحليف استراتيجى عضوى ينبغى تحت كل الظروف دعمه ومؤازرته.
ولا كان بوسعه تجاهل ضغوط القيادات اليسارية النافذة داخل الحزب الديمقراطى، على رأسهم «بيرنى ساندرز»، الذين لعبوا دورا رئيسيا فى صعوده إلى البيت الأبيض، التى تدعو إلى دور أمريكى حاسم لوقف إطلاق النار وما يتعرض له الفلسطينيون فى غزة من انتهاكات إنسانية جسيمة تناقض دعاوى حقوق الإنسان، التى استندت عليها حملة «بايدن» فى كسب الانتخابات الرئاسية.
بحكم الهوية الدينية فـ«بيرنى ساندرز» يهودى، لكنه لا يكف عن توجيه انتقادات جوهرية للسياسات الإسرائيلية التوسعية على حساب كل ما هو عربى وفلسطينى.
بدت الانتقادات مقنعة لقطاعات واسعة من الرأى العام الأمريكى بقدر ما تبدت فى الصور، التى تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعى، من مآس إنسانية للضحية الفلسطينية.
تحت ضغط الورطة، التى وجد نفسه على غير توقع وانتظار فى قلب دواماتها، مال «بايدن» إلى توفير الحماية لإسرائيل فى مجلس الأمن الدولى لأربع مرات متتالية باستخدام حق النقض، متصادما مع الحلفاء الأوروبيين، الذين عملوا على استصدار قرار بوقف إطلاق النار.
ضغط لذات الهدف فى الكواليس، لكنه تجنب أى صدام محتمل مع «نتنياهو».
أفرط مع أركان إدارته فى استخدام عبارة «أن من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها» دون أن يطرح على نفسه سؤالا بديهيا عما إذا كان من حق الطرف الأضعف استخدام الحق نفسه.
كانت تلك حسابات «المؤسسة الأمريكية»، التى اعتادتها منذ بدايات الصراع العربى الإسرائيلى.
لم يكن بوسعه الخروج عليها ولا أن يضبط بالضغط على إسرائيل.
أجرى (80) اتصالا هاتفيا فى أيام الأزمة الأحد عشر مع «بنيامين نتنياهو» و«محمود عباس»، وقادة آخرين يتصدرهم الرئيس المصرى «عبدالفتاح السيسى»، الذى تكفل بالوساطة الناجحة لوقف إطلاق النار بين الإسرائيليين وفصائل المقاومة فى غزة.
ورطة «بايدن» الحقيقية بدأت بعد وقف إطلاق النار «دون شروط».
هناك كلام دبلوماسى عن إحياء المسار السياسى «حل الدولتين»، وهو ملغم بالمستوطنات والتحرشات المتكررة بالمسجد الأقصى.
وهناك كلام آخر عن مساعدات عاجلة لغزة المحاصرة، وهو على أهميته الإنسانية يقصر عن الدخول فى صلب الأزمة.
ما الحل؟.. لا إجابة عند «بايدن»، فقد داهمته الحوادث بما لم يكن يتوقع أو يتمنى.