لم يكن ذلك اكتشافا فكريا وسياسيا متأخرا ينفى التهمة عن حركة طالبان بقدر ما كان تعبيرا عن فشل ذريع انتهت إليه الاستراتيجية الأمريكية بعد عشرين سنة من احتلال أفغانستان باسم «مكافحة الإرهاب».
منذ ولاية «باراك أوباما» مال التفكير الاستراتيجى الأمريكى إلى الانسحاب من أفغانستان والتخلص من صداع الشرق الأوسط بقدر ما هو ممكن لتركيز الاهتمام على الشرق الآسيوى حيث الصراع على المستقبل مع التنين الصينى.
التوجه نفسه تبنته إدارة «دونالد ترامب»، التى فتحت قنوات تفاوض للتفاهم مع حركة «طالبان» عن ترتيبات ما بعد الانسحاب الأمريكى، دون أن تصل إلى اتفاقات أخيرة.
اتساقا مع ذات التوجه أقدمت إدارة «جو بايدن» على الانسحاب، لكنه جرى بصورة عشوائية، وكانت النتائج مزرية.
عقب انهيار سلطة كابول أعاد الخطاب السياسى الأمريكى تعريف حركة «طالبان»، فهى حقيقة على الأرض لابد من التعامل معها، وأنها قد تغيرت.
كانت تلك برجماتية زائدة.
لم تعد موصومة بالإرهاب، وأنها قد تكون مفيدة فى الحرب الدائرة مع تنظيم «الدولة الإسلامية ــ داعش»، «الذى يكرهها بأكثر مما يكرهنا» بتعبير الرئيس الأمريكى نفسه.
لم تكن الإدارة الأمريكية وحدها من تبنت المقاربة الجديدة، حيث ذهب الاتحاد الأوروبى والصين وروسيا وأطراف دولية أخرى إلى ذات المنحى.
لم يكن ممكنا الاعتراف فورا دون قيد أو شرط بحركة «طالبان»، أو تجاوز إرثها السياسى والأيديولوجى العنيف، أو اعتماد تعريف جديد لها كسلطة شرعية فى أفغانستان.
المجلس الأممى لحقوق الإنسان رصد «انتهاكات مروعة» فى مناطق مختلفة من أفغانستان، ومظاهر التمييز ضد المرأة أعلنت عن نفسها بمنعها من العمل والدراسة والظهور على شاشات التلفزيون بذريعة حمايتها من مسلحيها القادمين من كهوف الجبال!
يكاد ينسف ذلك الكلام المراوغ أى رهان غربى على أى تصريحات منسوبة لبعض قيادات «طالبان» عن احترام حقوق المرأة «فى إطار الشريعة والقانون».
لا حقوق الإنسان ولا حقوق المرأة ولا طبيعة نظام الحكم، تعلن إمارة إسلامية الآن أو يتأخر إعلانها بعض الوقت، تتسع الحكومة لمكونات المجتمع الأفغانى السياسية والعرقية لمنع أى اقتتال أهلى محتمل أو لا تتسع، مما يدخل جوهريا فى أولويات السياسات الغربية إلا بقدر ما يمس مصالحها الاستراتيجية فى ذلك البلد الجوهرى وسط آسيا.
هناك من يخشى، وإرث التاريخ ماثل، أن تجد «القاعدة» أمامها فرصة كبيرة لإعادة بناء شبكتها بدعم من «طالبان»، التى قد تحتاج أدوارها فى مواجهة «داعش» بذات قدر احتياجها للطائرات الأمريكية فى قصف تمركزات ذلك التنظيم!
الأولوية شبه المطلقة: ضمان عدم استخدام الأراضى الأفغانية كمركز للجماعات الإرهابية، يستقطب ويدرب ويضرب حيث يقدر على الوصول.
هكذا فإن ما جرى من تفجير إرهابى مزدوج فى محيط مطار كابول بدا بمشاهد الدماء وقدر الترويع وأعداد القتلى من مدنيين عزل وعسكريين ينتمون لـ«المارينز» كصدمة ثانية مدوية تكاد تضاهى صدمة الهزيمة الاستراتيجية التى ضربت الولايات المتحدة بالطريقة التى سقطت بها كابول ومشاهد الفوضى فى المطار طلبا للنجاة من قبضة «طالبان».
كان مثيرا أن الاستخبارات الغربية تلقت معلومات وصفت بأنها على درجة عالية من الموثوقية تتوقع ضربات إرهابية فى محيط مطار كابول، دون أن تنجح القوات الأمريكية فى منعها أو التقليل من أعداد ضحاياها، ولا نجحت حركة «طالبان» بدورها فى إثبات جدارتها الأمنية.
بأية قراءة سياسية لتوقيت ومغزى ذلك العمل الإرهابى، فإنه استهدف اصطياد القوات الأمريكية فى لحظة انسحاب وإجلاء دبلوماسيين ومتعاونين أفغان، كما استهدف بذات الوقت حركة «طالبان» فى هيبتها وقدرتها على إحكام السيطرة الأمنية فى لحظة استلام سلطة.
هكذا طرح «تنظيم الدولة الإسلامية» نفسه لاعبا رئيسيا فى المعادلات الأفغانية المقبلة.
وهكذا وجد البيت الأبيض و«طالبان» نفسيهما فى خندق واحد ضد عدو مشترك.
الأول، يراهن على حليف محلى فى الحرب مع «تنظيم الدولة» دون أن يكون متأكدا من أنه ليس إرهابيا بدوره، أو أنه قطع صلاته مع «تنظيم القاعدة»، الذى وفر له ملاذا آمنا قبل عمليات الحادى عشر من أيلول/سبتمبر (2001)، التى استبقت احتلال أفغانستان.
من اللافت أن «تنظيم القاعدة» لم تصدر عنه أى بيانات، أو إشارات للتطورات الجارية فى أفغانستان بوصول حليفه التاريخى إلى السلطة مجددا.
ربما كان ذلك مقصودا لعدم إحراج الحركة قبل أن تستقر فى السلطة، وربما تكون العلاقات قد تدهورت بين الحليفين السابقين.
هناك من يخشى، وإرث التاريخ ماثل، أن تجد «القاعدة» أمامها فرصة كبيرة لإعادة بناء شبكتها بدعم من «طالبان»، التى قد تحتاج أدوارها فى مواجهة «داعش» بذات قدر احتياجها للطائرات الأمريكية فى قصف تمركزات ذلك التنظيم!
هذه سريالية سياسية لا يمكن استبعادها فى أوضاع الارتباك الحالية.
هناك فرضية أخرى أن الكتلة الأكبر من «القاعدة» انضمت إلى «تنظيم الدولة – إمارة خراسان» – كما جرى فى العراق وسوريا.
حسب ما هو متوافر من معلومات أولية فإن «تنظيم الدولة»، الذى أعلن مسئوليته عن الهجوم الإرهابى المزدوج فى محيط مطار كابول، أعداده تتراوح بين (1500) و(2200) مسلح، وأن كتلته الرئيسية من منشقى «القاعدة» و«طالبان».
نحن أمام ظاهرة واحدة تتعدد تجلياتها التنظيمية، كما حدث بالضبط فى سوريا حين جرى الانشقاق على «القاعدة» بـ«تنظيم الدولة ــ داعش» وعلى الأخير بـ«جبهة النصرة»، التى أخذت تاليا اسم «هيئة تحرير الشام» لمقتضى تسويقها كقوة سياسية فى المعادلات المقبلة بأية تسوية محتملة.
أمام تلك اللوحة من المتناقضات فإن هناك سؤالا يطرح نفسه:
لمن تغلب الكفة داخل «طالبان»، للعناصر الأكثر تشددا، الأقرب بالتكوين الأيديولوجى لـ«القاعدة» و«داعش»، أم للعناصر التى أبدت شيئا من المرونة فى الخطاب العام على شاشات الفضائيات دون أن يكون مؤكدا أن تغييرا جوهريا قد حدث فى بنيتها الأيديولوجية؟
هنا بالضبط أزمة «طالبان»، كما أزمة الرهان على دمجها وإعادة تعريفها من جديد.
من ناحية فإنها تحتاج إلى نوع من الاعتراف الدولى يساعدها فى حلحلة الأزمات الاقتصادية والصحية المزمنة وتأكيد تمركزها فى السلطة ومن ناحية أخرى ليس بوسعها أية مقاربات جوهرية فى ملفى حقوق الإنسان والمرأة وإلا وجدت نفسها فى منازعات داخلية قد تعصف بوحدتها.
«إن طالبان ستحاسب على أفعالها على صعيد مكافحة الإرهاب وحماية حقوق الإنسان وخصوصا حقوق المرأة» – كان ذلك تعهدا من قمة الدول الصناعية السبع يصعب الوثوق فيه، كما خطاب «طالبان» المراوغ، فى اختبار الزمن.