“عاش الإسرائيليون والفلسطينيون دون سن الثلاثين معظم حياتهم مع بنيامين نتنياهو كرئيس لوزراء إسرائيل. إنتخب أول مرة عام 1996، وكان يبلغ من العمر آنذاك 46 عاماً. ومنذ ذلك الحين، بقي “الملك بيبي” – كما يسميه مناصروه ومنتقدوه على حد سواء – في هذا المنصب الرفيع، الذي يغادره الآن عن عمر يناهز الـ 71 عاماً.
خمسة عشر عاماً قضاها في السلطة، بينها 12 سنة متتالية حطم فيها عدة أرقام قياسية. فنتنياهو كان أصغر رئيس وزراء لإسرائيل، وأصبح الأطول خدمة في إسرائيل، متجاوزاً بذلك حتى الأب المؤسس لدولة إسرائيل، ديفيد بن غوريون.
مؤيدو نتنياهو المحليون يعتبرونه شخصاً متشدداً لا يهادن في القضايا ذات الشأن الدولي، ويعتبرونه قومياً متشدداً. ويعتقد الكثيرون منهم بأنه سيسعى لإستعادة السلطة في مرحلة ما، على الرغم من أن ثلاث قضايا فساد جنائية يمكن أن تعرقل هذا الجهد.
يتحدث نتنياهو اللغة الإنكليزية بطلاقة وبلهجة أميركية رنَّانة. نال درجة الماجستير من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. كما برز على شاشات التلفزة الأميركية في ثمانينيات القرن الماضي، كوجه دبلوماسي يجادل بشراسة في قضية إسرائيل.
في التسعينيات الماضية، ظهر “الكوماندوز” السابق لأول مرة كشخصية رئيسية في رد فعل الصقور على محادثات السلام المتعثرة بين إسرائيل والفلسطينيين. بعد ذلك جاء اغتيال رئيس الوزراء إسحاق رابين (عام 1995)، والذي كان له الدور الرئيسي في محادثات السلام تلك، ما أدى إلى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة جاءت بنتنياهو وأيديولوجيته المعارضة إلى السلطة في العام 1996.
نتنياهو في أول خطاب له أمام الكونغرس الأميركي، في 10 يوليو/ تموز 1996: في كُتُبِنا العِبْرية التي انتشرت من أورشليم إلى البشرية جمعاء، هناك آية تقول إن الله يُعطي قوة لشعبه. سيبارك الله شعبه بالسلام. هذا هو المصدر الأصلي والملهم للحقيقة التي تقول إن السلام ينبع من القوة
كان تركيزه الدائم هو إبعاد البلاد عن أي موقف أو احتمال تضطر معه إسرائيل لوضع نهاية للحكم العسكري المفروض على ملايين الفلسطينيين – فلطالما زعم بعض خصوم نتنياهو بأن التراجع عن القوة العسكرية ضرورة إذا ما كان لإسرائيل أن تزدهر. لقد تغير الوضع اليوم على ما يبدو إلى حالة إدارة إسرائيلية دائمة للاحتلال الراسخ، وهي الحالة التي طالما كان نتنياهو وغيره من السياسيين الرئيسيين يعتزمون ترسيخها من خلال سياسة الضم المتواصل للأراضي الفلسطينية.
أنشل بفيفر، الصحافي الإسرائيلي ومؤلف سيرة نتنياهو “بيبي Bibi” كتب يقول: “نتنياهو، الذي ورث أفضل الشروط للسلام مع الفلسطينيين، لم يحاول قط اغتنام الفرصة. على العكس، فإن السلام الوحيد الذي كان نتنياهو على استعداد للنظر فيه هو السلام الذي يتيح لإسرائيل ممارسة كل أفعال التنمر على الفلسطينيين بهدف إخضاعهم”.
في أول خطاب له أمام الكونغرس الأميركي، في 10 يوليو/ تموز 1996، أوضح نتنياهو أن إطاره التوجيهي أن تكون مكانة إسرائيل في الشرق الأوسط واحدة من القوى الرئيسية وليس التنازلات. وقال: “في كُتُبِنا العِبْرية التي انتشرت من أورشليم إلى البشرية جمعاء، هناك آية تقول إن الله يُعطي قوة لشعبه. سيبارك الله شعبه بالسلام. هذا هو المصدر الأصلي والملهم للحقيقة التي تقول إن السلام ينبع من القوة”.
بعد ما يقارب الثلاثة عقود، حافظ نتنياهو على أيديولوجيته، مدعياً أنها حطمت أخيراً الافتراض القائل بأن الدولة اليهودية ستبقى معزولة في المنطقة ما لم تخفف سيطرتها على الفلسطينيين.
فبعد توقيع اتفاقية تاريخية مع دولة الإمارات العربية المتحدة لبناء علاقات دبلوماسية كاملة في أغسطس/ آب الماضي – وهي الإتفاقية الأولى من بين عدة صفقات مماثلة – كرَّر نتنياهو شعاره القائل: “مرة جديدة يتم إثبات حقيقة بسيطة، وهي: القوة تجذب والضعف يُنَفّرْ. في الشرق الأوسط، القوي ينجو ويعيش، وبالقوة فقط يصنع المرء السلام”.
وكدليل على قوة تلك الرسالة والشعار، نقل نتنياهو معسكر السلام الإسرائيلي في التسعينيات، والذي كان يحتقره بشدة، إلى هامش السياسة الداخلية. خليفة نتنياهو، نفتالي بينيت، هو رئيس الأركان السابق لسلفه، والاثنان متحالفان أيديولوجياً.
ومع ذلك، قبل أسابيع فقط من رحيل نتنياهو، تم التشكيك في منطقه حين اندلعت موجة الاحتجاجات والمواجهات الأخيرة في جميع أنحاء إسرائيل وفلسطين المحتلة، وهي المواجهات التي قال عنها منتقدو نتنياهو بأنها تثبت من جديد بأنه لا يمكن تجاهل الأزمة الفلسطينية أو إدارتها، حتى لأسباب تتعلق بالمصلحة الذاتية.
أشارت زوكر إلى أن رئيسها السابق كان في السلطة “لسنوات عديدة بفضل شخصيته الكاريزمية، وقدراته الدعائية، وفهمه للتسويق السياسي، وإتباعه إستراتيجية مبنية على الخوف تدعمها الحكومة”
على الصعيد المحلي، استطاع نتنياهو، ولفترة طويلة، أن يقنع الناخبين الإسرائيليين بأنهم لم يكونوا أكثر ثراءً أو أماناً من قبل، وهذا ما جعل أنصاره يشيدون به ويعتبرونه “سيد الأمن”. صحيح أنه خسر السلطة على فترات متقطعة منذ انتخابه أول مرة، بما في ذلك الفترة التي حكم فيها زعيم حزب العمل السابق إيهود باراك، ومن ثم أرييل شارون عضو حزب الليكود الذي ينتمي إليه، لكن نتنياهو تمكن دائماً من استعادة السلطة.
وفي هذا الصدد، قالت أوريت غاليلي زوكر، الرئيسة السابقة لفريق الاتصالات السياسية لنتنياهو، إنه سيكون من السابق لأوانه الإيحاء بأن حياة نتنياهو المهنية قد انتهت الآن، مضيفة: “هو لم يقل كلمته الأخيرة بعد. يجب على المرء دائماً أن يضع هذا في الاعتبار عند الحديث عن إرثه”.
وأشارت زوكر إلى أن رئيسها السابق كان في السلطة “لسنوات عديدة بفضل شخصيته الكاريزمية، وقدراته الدعائية، وفهمه للتسويق السياسي، وإتباعه إستراتيجية مبنية على الخوف تدعمها الحكومة”.
نتنياهو، الذي يبدو كـ”دبلوماسي لطيف” عندما يتحدث الإنكليزية، لعب دور “صافرة الكلاب” في العبرية لحشد قاعدته القومية، مستغلاً المخاوف المعادية للعرب بشكل سيئ للفوز في انتخابات عام 2015.
ففي عام 2019، تعرض لانتقادات شديدة وبشكل صريح لكونه عنصرياً، عندما قال إن إسرائيل “ليست دولة لجميع مواطنيها”، في إشارة إلى المواطنين الفلسطينيين الذين يشكلون الأقلية من سكان إسرائيل (ما يقرب من الـ5% فقط). وفي السنوات القليلة الماضية، وفي محاولة لإنقاذ حياته السياسية، عقد نتنياهو صفقات انتخابية مع المتطرفين اليهود من اليمين المتطرف.
منافسو نتنياهو وحلفاؤه السابقون يتهمونه بأنه سعى إلى إثارة الشقاق والإنقسام، وتسبب في تدمير المؤسسات الإسرائيلية، بما في ذلك القضاء، من أجل الحفاظ على منصبه.
وفي هذا الخصوص قال غاليلي زوكر: “يبدو أن نتنياهو قد حفظ مكيافيلي الأمير جيداً؛ تحقيق الهدف مقدس حتى لو كان المسار غير أخلاقي. محبة الجمهور بالنسبة له أقل أهمية من خوفهم منه، والدعاية المستمرة تضمن له البقاء والنجاة”.
إن شعبية نتنياهو في الداخل ورغبته في التمسك بالسلطة شكلتا قلب الأزمة التي ترزح تحتها إسرائيل اليوم، ولقد ارتقى إلى مستوى سمعته كساحر سياسي من خلال إبقاء منافسيه مترددين ومختلفين ويتشاجرون في ما بينهم
خاض نتنياهو ثلاثة حروب مع حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في قطاع غزة. المعركة الأخيرة كانت في الشهر الماضي. وعلى الرغم من أن نتنياهو يُنظر إليه في الداخل على أنه شخص متحفظ خصوصاً عندما يتعلق الأمر بإدارة الصراع، فقد أشرف شخصياً على حرب 2014، حيث أدت الهجمات الإسرائيلية إلى مقتل أكثر من 2200 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، وفقاً لإحصائية للأمم المتحدة. كان ذلك العام هو الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين منذ عام 1967. كذلك أسفرت تلك الحرب عن مقتل 73 شخصاً في الجانب الإسرائيلي، معظمهم من العسكريين.
كذلك أشرك نتنياهو إسرائيل في حرب باردة متصاعدة في الشرق الأوسط بين المملكة العربية السعودية وإيران، وأعلن انحيازه في هذه الحرب من خلال الهجمات شبه المنتظمة وشبه المتواصلة لجيشه ضد القوات الإيرانية المتمركزة في سوريا.
قد تكون الهدية الأكبر التي تلقاها نتنياهو في حياته المهنية هي انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، والذي كان له الفضل في تحقيق سلسلة من مطالبه الرئيسية والتي اعتُبرت بمثابة معاقبة للفلسطينيين.
لكن خلال تلك السنوات الأربع من ولاية ترامب، أصبح نتنياهو مطارداً بشكل متزايد من قبل القضاء بتهم تتعلق بالفساد. وفي عام 2019، حطم رقماً قياسياً جديداً عندما أصبح أول زعيم إسرائيلي يواجه محاكمة جنائية وهو ما يزال في الخدمة وأثناء توليه منصبه. ومن الإتهامات الموجهة إليه أنه تلقى هدايا ثمينة من أصحاب المليارات وتبادل الامتيازات مع أباطرة وسائل الإعلام والاتصالات.
وعلى عكس سلفه، إيهود أولمرت، الذي استقال فور بدء توجيه إتهامات مماثلة له، رفض نتنياهو ترك السلطة. فهو متهم بثلاث قضايا منفصلة، بما في ذلك تهم تلقي الرشوة والاحتيال. وإذا ما تمت إدانته نهائياً فسيواجه عقوبة السجن لأكثر من عشر سنوات. لكن نتنياهو تعهد بالتصدي لكل هذه الاتهامات التي يصر على نكرانها.
قبل عامين، بدا أن نتنياهو قد نجح في الحصول على فترة ولاية أخرى في منصبه. لكن الخلافات التي نشبت بين الأحزاب اليهودية الأرثوذكسية المتطرفة وبين وزير الدفاع السابق والعلماني القوي أفيغدور ليبرمان أضاعت تلك الفرصة.
أنشل بفيفر: في اليوم التالي لمغادرة بنيامين نتنياهو، لن يكون إرثه النهائي أمة أكثر أماناً، بل مجتمعاً إسرائيلياً ممزقاً للغاية، يعيش خلف الجدران
وفي النهاية، لم يتمكن رئيس الوزراء من الجمع بين الطرفين وانهار تحالفه اليميني. هذه الخلافات أدت إلى مأزق سياسي طويل، فقد أجريت ثلاثة انتخابات مبكرة: في أيلول/ سبتمبر 2019، وآذار/ مارس 2020، وآذار/ مارس 2021، عندما لم يتمكن السياسيون الإسرائيليون المنقسمون بشكل متزايد من تشكيل حكومات مستقرة.
إن شعبية نتنياهو في الداخل ورغبته في التمسك بالسلطة شكلتا قلب الأزمة التي ترزح تحتها إسرائيل اليوم، ولقد ارتقى إلى مستوى سمعته كساحر سياسي من خلال إبقاء منافسيه مترددين ومختلفين ويتشاجرون في ما بينهم.
ولكن في محاولاته للسيطرة الكاملة، عمد نتنياهو إلى عزل العديد من شركائه من اليمين، بمن فيهم رئيس الوزراء الجديد بينيت. في نهاية مايو/ أيار الماضي، انتهزت المعارضة الفرصة أخيراً وانضمت إلى حلفاء نتنياهو السابقين المحبطين للقضاء على عدوهم المشترك.
في الفصل الأخير من كتاب سيرة نتنياهو “بيبي Bibi”، الذي نشره عام 2018، يأخذ الكاتب أنشل بفيفر بعين الاعتبار ما سيتركه نتنياهو عندما يترك منصبه. وقد كتب يقول: “ربما يكون زعيم إسرائيل القادم أقل أماناً، وسيكون إرث نتنياهو المحزن هو تمهيد الطريق لإسرائيل أقل تسامحاً وأكثر خطورة بكثير. ومع ذلك، نأمل أن يشرع الزعيم الجديد في العملية الضرورية للتعافي والبناء من جديد – لأنه في اليوم التالي لمغادرة بنيامين نتنياهو، لن يكون إرثه النهائي أمة أكثر أماناً، بل مجتمعاً إسرائيلياً ممزقاً للغاية، يعيش خلف الجدران”.
(*) النص الأصلي بالإنكليزية كما نشرته “الغارديان“