يرزح إتفاق وقف النار الحدودي جنوباً تحت ضغط مزايدات اليمين المتشدد والمعارضة على السواء في كيان الإحتلال، وكلُّ فريق يحاول تسجيل نقاط تخدم رؤيته الإستيطانية أو السياسية وأغراضه الإنتخابية. لكن الجميع يُدرك أن قرار وقف النار مع لبنان كان حاجة أمنية وعسكرية، عبّر عنها بنيامين نتنياهو بالقول إن هناك حاجة إلى إعادة تأهيل الجيش والتسلح، وسبقته قيادة الجيش الإسرائيلي بتقديم توصية بوقف النار من أجل إراحة القوات العسكرية وتجديد مخزون الذخائر. وجاء ذلك بعدما تأكد للمستويين السياسي والعسكري أن الهجوم البري على لبنان إستنفد طاقته وأن إعادة المستوطنين غير ممكنة بدون اتفاق وأن البديل هو الذهاب إلى توسيع الهجوم، ما قد يضع جيش الإحتلال تحت أعباء هائلة، إضافة إلى تعريض الجبهة الداخلية الإسرائيلية لمخاطر جسيمة على غرار ازدياد وتيرة الهجوم على وسط فلسطين المحتلة (تل أبيب وغيرها) في الأيام الأخيرة قبيل وقف النار.
وضمن السجال الإسرائيلي الداخلي المتصاعد، عاد نتنياهو وعلّق بالقول إنه لم يقل “إن ما يجري هو وقف للحرب مع لبنان، بل هو وقف لإطلاق النار وقد يكون قصيراً”، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن الهجوم على لبنان حقّق أهدافه وأن اسرائيل قادرة على استئناف الحرب إذا لزم الأمر. وهذا التصريح يُبقي الأمور مفتوحة على ما سيؤول إليه الوضع على الحدود، في وقت تعيش حكومة الإحتلال وضعاً دقيقاً ناتجاً عن فضائح نتنياهو القضائية وتقديم الكثير من السياسيين ووسائل الإعلام والمستوطنين تقييماً سلبياً لاتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان.
واعتبر بن كاسبيت في صحيفة “معاريف” في تفسيره لقبول وقف النار في لبنان ورفضه في غزة أن وقف النار في لبنان لا يُهدّد استقرار حكومة نتنياهو، بعكس الحال في غزة، على الرغم من المفارقة القائلة بأن “الإنجاز في غزة أكثر وضوحاً والعدو أضعف”، بينما يبدو حزب الله “فاعلاً ويواصل إطلاق الصواريخ”.
ملاحظات حول إتفاق وقف النار
ينبغي أن نلاحظ أن وقف إطلاق النار يختلف في بعض الوجوه عن ذلك الذي تم في أعقاب حرب عام 2006، ومن أبرزها:
أولاً؛ لا يوجد قرار جديد من مجلس الأمن له مستلزمات خاصة، فالإتفاق الجديد إندرج تحت خانة تنفيذ القرار 1701 الذي صدر في آب/أغسطس 2006. ولم تنجح الإدارة الأميركية في تحقيق إضافات جديدة إلى القرار كالاستعانة بقوات متعددة الجنسيات على سبيل المثال لا الحصر، ويعود ذلك في المقام الأول إلى نتائج الميدان البري في الجنوب وعدم تحقيق الهجوم البري الاسرائيلي نتائج بارزة. مع العلم أن الولايات المتحدة عملت في السنوات القليلة الماضية من أجل إضافة بنود إلى ذلك القرار بهدف تعزيز صلاحيات قوات “اليونيفيل” في التفتيش والدَّهْم بصورة مستقلة عن الجيش اللبناني. مع ذلك، سيكون للأميركي دور محوري هذه المرة في تسيير أعمال اللجنة الثلاثية التي ستشرف على تنفيذ وقف إطلاق النار، وهذا يُحرّك الأمور في اتجاهين: توفير الأمن للجانب الإسرائيلي بحكم العلاقة الخاصة بين الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وفي الوقت نفسه، إطالة عمر اتفاق وقف النار إذا لم تطرأ مستجدات تُغيّر المعطيات الحالية. ولا يُمكن الحكم على نتائج ذلك من الآن بانتظار الوقوف على نتائج تطبيق الاتفاق.
ثمة خشية من مماطلة إسرائيلية في تنفيذ الانسحاب من الأراضي اللبنانية بهدف فرض تفسيرات لوقف النار تخدم أغراض الاحتلال الأمنية والسياسية، كما تُشبع نزعة الانتقام لدى المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش اضطرابات سياسية وموجة مزايدات تبدأ ولا تنتهي. ويمكن أن يسهم وقف القتال في إشعال البيت الإسرائيلي بالجدال والنزاع من جديد حول حصيلة الحرب
ثانياً؛ يُركز الاتفاق على منطقة جنوب الليطاني إبتداءً، وهذا يجعل هذه المنطقة أولوية. لكن تبقى العين على احتمال أن تزداد وتيرة الإستفزاز الإسرائيلي لتوسيع المطالبات الأمنية في كل أنحاء لبنان، على غرار قول رئيس أركان جيش العدو هرتسي هاليفي إن قواته ستهاجم “أي تحرك لحزب الله في أي مكان من لبنان”.
ثالثاً؛ تأتي الخروق الإسرائيلية في الأيام الأربعة الماضية في سياق محاولة العدو الاسرائيلي تظهير أنه صاحب المبادرة في الميدان، خلافاً لنص قرار وقف النار الذي ينزع من الطرف الإسرائيلي حرية القيام بـ”أية عمليات عسكرية هجومية، بما في ذلك ضد الأهداف المدنية أو العسكرية أو أهداف الدولة الأخرى في الأراضي اللبنانية”. مع ملاحظة أن غارتين جويّتين شنتّهُما طائرات إسرائيلية على أطراف بلدة البيسارية في قضاء صيدا، وهي منطقة تقع شمال الليطاني، أي خارج نطاق المنطقة التي يُحدّدها الاتفاق كبقعة جغرافية تخضع لترتيبات أمنية إبتداءً. وبالتأكيد، يختلف هذا العمل العدائي عن مفهوم حق الدفاع عن النفس الذي يشير إليه الاتفاق، ناهيك بعودة حركة المُسيّرات إلى سماء العاصمة والضاحية الجنوبية منذ ليل أمس الأحد.
رابعاً؛ يتحدث اتفاق وقف النار عن تبليغ الطرفين إلى الآلية الثلاثية التي ترعى تنفيذ الاتفاق (لبنان وإسرائيل وقوة “اليونيفيل” برئاسة الولايات المتحدة) عن أي انتهاكات مزعومة، على أن تتولى الآلية الاجراءات المناسبة للتشاور والتفتيش وجمع المعلومات والمساعدة في ضمان إنفاذ هذه الالتزامات. وبالتالي، لا يوجد حق تلقائي لأي طرف للرد على أي انتهاك مزعوم من دون العودة إلى اللجنة الثلاثية التي صارت خماسية بانضمام الولايات المتحدة وفرنسا إليها..
خامساً؛ يُلزم الإتفاق العدو ببدء انسحاب قواته من المناطق التي احتلها وذلك على مراحل عند بدء وقف “الأعمال العدائية”، بالتوازي مع انتشار القوات المسلحة اللبنانية في المواقع المحددة في منطقة جنوب الليطاني. وبهذا لن تكون هناك منطقة أمنية عازلة كتلك التي كان العدو يطمح إليها على طول الحدود مع فلسطين المحتلة.
سادساً؛ يُشير الاتفاق إلى “تمكين المدنيين على جانبي “الخط الأزرق” من العودة بأمان إلى أراضيهم ومنازلهم”. وبذلك، لن تكون هناك قيود على عودة الأهالي اللبنانيين إلى قراهم التي هُجّروا منها، خلافاً لتصريحات إسرائيلية دعت الى حرمانهم من العودة بزعم أن هذه المنازل تشكل قواعد عمليات للمقاومة. ولوحظ أن العدو أصدر بلاغاً منع بموجبه المواطنين الجنوبيين “حتى إشعار آخر” من الوصول إلى نحو أربعين بلدة ضمن شريط يمتد من شبعا شرقاً الى المنصوري غرباً، بعدما حاول الأهالي تفقد منازلهم وأراضيهم أو القيام بواجب دفن أحبائهم. وترافق الإعلان مع تعليقات إسرائيلية داخلية عبّرت عن السخط بسبب مقاطع “فيديو” تُظهر العديد من اللبنانيين يعودون إلى بلداتهم في المنطقة الحدودية أو القريبة منها، بينما يُعرب الكثير من المستوطنين عن خشيتهم من العودة إلى المستوطنات الشمالية حالياً بسبب عدم حسم نتائج الحرب.
سابعاً؛ لم تتحقق عودة المستوطنين بالحرب، وتوصّل العدو بعد نحو شهرين من القتال البري إلى قناعة بأنه حتى لو استمرت الحرب زمناً إضافياً فلن يعودوا، لذلك وافق على وقف النار بدون شروط مسبقة.
ثامناً؛ وفق منطوق نص الإتفاق، لا يوجد ما يمنع أنشطة حزب الله في منطقة جنوبي الليطاني، ما خلا الأنشطة العسكرية. وبهذا، سيبقى حزب الله جزءاً من الواقع الإجتماعي بمختلف تجلياته في هذه المنطقة، وبالتالي لم تتحقق مطالبات العدو بإنهاء وجوده فيها أو بانسحاب الحزب إلى شمالي الليطاني.
هل يتجدد القتال؟
يُطرح سؤال مشروع عما اذا كانت إطالة الفترة الانتقالية لوقف إطلاق النار إلى شهرين تهدف إلى معاودة العمليات الحربية مستقبلاً. ومع عدم استبعاد احتمال من هذا القبيل، فإن هذه الفترة الطويلة نسبياً تخدم العدو في نواحٍ عدة:
1- الإعتبار الأمني: مراقبة الوضع على الأرض بهدف تحديد مدى نجاح اتفاق وقف النار. وهذا الإعتبار يُسوّقه العدو لجمهوره الداخلي الذي يُشكّك في نتائج الحرب.
2- هناك إعتبار أمني آخر: إبتزاز لبنان لفرض توجّهات أمنية مشددة تُحدّد للجيش اللبناني وقوات “اليونيفيل” ما يجب القيام به في المنطقة التي سينتشران فيها.
3- إعتبار معنوي: إستيعاب الإنتقادات الداخلية التي قد تُظهر جيش الاحتلال على أنه فرّ من جنوبي لبنان، من دون توفير الظروف الملائمة لعودة المستوطنين.
4- إعتبار سياسي داخلي: سيحاول نتنياهو تسليط الأنظار على النواحي الأمنية للقول إنها لم تستقرّ بعد، لأجل التغلب على طلب الاستماع إلى إفادته في قضية تزوير وثائق رسمية من قبل معاونيه. وهو دفع بمبررات أمنية لرفضه تقديم إفادته أو تأجيلها أمام المحكمة الإسرائيلية العليا، مستعيداً عملية استهداف منزله في قيسارية بمُسيّرة أطلقتها المقاومة من لبنان.
5- إعتبار سياسي خارجي: إرضاء الإدارة الأميركية الحالية في وقف النار، وتقديم “هدية” لإدارة دونالد ترامب المقبلة في إنجاز الإنسحاب من المناطق اللبنانية المحتلة وإعلان وقف الحرب رسمياً، ولا سيما أن الرئيس الأميركي المنتخب كان قد أبلغ وزير الشؤون الإستراتيجية في حكومة نتنياهو رون ديرمر بوجوب الإسراع في إنهاء الحرب بين إسرائيل ولبنان. ويسعى نتنياهو لإصلاح علاقته الشخصية بالرئيس الأميركي المنتخب، بعدما اعتراها بعض الفتور، على أثر مسارعة الأول الى تقديم التهنئة للرئيس بايدن في انتخابات 2020، في وقت كان ترامب يُشكّك بنزاهة الانتخابات، وهو الأمر الذي دفع الأخير لانتقاد نتنياهو علناً حينذاك.
مع ذلك، تبقى ثمة خشية من مماطلة إسرائيلية في تنفيذ الانسحاب من الأراضي اللبنانية بهدف فرض تفسيرات لوقف النار تخدم أغراض الاحتلال الأمنية والسياسية، كما تُشبع نزعة الانتقام لدى المجتمع الإسرائيلي الذي يعيش اضطرابات سياسية وموجة مزايدات تبدأ ولا تنتهي. ويمكن أن يسهم وقف القتال في إشعال البيت الإسرائيلي بالجدال والنزاع من جديد حول حصيلة الحرب، وهذا يتطلب رصد نتائجه وانعكاساته مع الوقت.
من جهة ثانية، هناك تغيّر أمْلته التطورات في جبهتي لبنان وغزة، بعدما تحول لبنان الى ساحة قتال رئيسة توشك أن تمتد الى أنحاء اخرى من المنطقة. وقد وَفَت المقاومة في لبنان لغزة بالإسناد العسكري ودفعت ثمناً غالياً لقاء ذلك من قيادتها الى عناصرها والمجتمع الحاضن لها. وقد يكون مَخرج وقف النار على هذه الجبهة مُحركاً إيجابياً لتحفيز الإتصالات من أجل إنهاء الإبادة الجارية في غزة. وهذا ما لوحظ في العديد من المواقف الدولية والعربية في الأيام الماضية. أما ما يجري على أرض سوريا من تطورات ميدانية متسارعة وعلاقته بما جرى في لبنان وبما ينتظر المنطقة في المرحلة المقبلة، فله بحث آخر.