قمة “الخطوط الحمراء”.. بوتين يغادر جنيف منتصراً

غالباً ما يُنظر إلى مدينة جنيف باعتبارها مسرحاً للقاءات حاسمة بين الأميركيين والروس. في العام 1955، سافر إليها دوايت أيزنهاور ونيكيتا خروتشوف للمشاركة في قمة "الأربعة الكبار" (الاتحاد السوفياتي، الولايات المتحدة، فرنسا، وبريطانيا). وفي أواخر العام 1985، في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، التقى فيها رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية السابق.

بالأمس، استعادت المدينة السويسرية وظيفتها لدى الدولتين النوويتين الكبريين، حيث التقى فلاديمير بوتين وجو بايدن للمرّة الأولى وجهاً لوجه، منذ انتخاب الأخير رئيساً للولايات المتحدة.
قسوة جدول الأعمال تناقضت مع هدوء المناظر الطبيعية الخلابة، التي كان من المفترض أن تخفف بعض التوترات في الاجتماع الحافل بالتعقيدات داخل قصرـ فيلا لا غرانج الذي يعود إلى القرن الثامن عشر.
حول هذا المكان المثالي لعقد مثل هذه القمة، نشرت سويسرا أكثر من 4000 من أفراد الشرطة والجيش ضمن دائرة واسعة، لكن الإجراءات الأمنية الأكثر تشدداً كانت في محيط الفيلا، التي حَظي فيها بوتين وترامب باستقبال حار من مضيفهما، الرئيس السويسري جاي بارميلين.
داخل فيلا لا غرانج التي تقيم على تل أخضر يطل على بحيرة جنيف، أعد المسؤولون السويسريون كل شيء لتوفير أجواء مريحة للضيفين: بناء على طلب الأميركيين، تم ضبط درجة حرارة غرقة الاجتماع، ذات الأرضيات الخشبية والسجاد والستائر الذهبية السميكة، على 18 درجة مئوية، بينما كان مقياس حرارة الطقس في جنيف يصل إلى 30 درجة، في حين كان بالإمكان قياس حرارة ملفّات المحادثة بعشرة أو مئة ضعف درجة حرارة فصل الصيف في المدينة السويسرية.
مع ذلك، كانت ثمة ثغرة ربما لم يتنبّه إليها المنظمون: مكتبة ضخمة في قاعة الاستقبال، كانت ملاذاً لكلا الرئيسين لكي يلقيا نظراتهم على كتبها، بدلاً من النظر إلى بعضهما البعض أثناء التقاط الصور التذكارية قبيل بدء المحادثات.

جوهر المؤتمر الصحافي لبوتين تمثل في “الخطوط الحمراء” التي وضعها أمام نظيره الأميركي، والتي ينذر تجاوزها بتقويض التقدم الدبلوماسي الذي تحقق رمزياً من خلال قرار عودة السفيرين واستكمال البحث في تجديد معاهدة “ستارت”

غالباً ما حملت الاجتماعات الثنائية بين الأعداء القدامى في الحرب الباردة جرعات من التوتر، ولكن حين يتعلق الأمر برئيسين مثل فلاديمير بوتين وجو بايدن، فالجرعات تصبح مكثّفة وربما سامّة، فالرجلان يعرفان بعضهما البعض عن ظهر قلب، والانتقادات المتبادلة بينهما وصلت إلى درجة استخدام الصفات الشخصية، لتضفي مزيداً من التعقيد على العلاقات الثنائية التي تمرّ بأسوأ لحظاتها منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، وسط تصعيد للعقوبات وطرد متبادل للدبلوماسيين.
على هذا الأساس، فإن القمة الروسية – الأميركية، التي بدأت مع آمال كبيرة وهواجس كبيرة، وبجدول أعمال، بدت أقرب إلى حقل ألغام، قبل ان تنتهي، في غضون أربع ساعات، بنتائج متواضعة، وهي بذلك لم تشذ على التوقعات المسبقة.
وبالرغم من أن بوتين وبايدن تبادلا الكلمات الودية وفتحا كوّة في جدار التوتر القائم بينهما، لا سيما من خلال تفاهمين أساسيين، أولهما الموافقة على عودة سفيريهما إلى موسكو وواشنطن، وثانيهما اعطاء الضوء الأخضر للمضي قدماً في تمديد اتفاقية “ستارت” النووية، إلا أنهما من الاجتماع الذي طال انتظاره باختلافات عميقة حول حقوق الإنسان والهجمات الإلكترونية.
حتى البيان الختامي لقمة جنيف حمل في صياغته بعضاً من ذكريات عصر الستار الحديدي: “حتى في أوقات التوتر، يمكن إحراز تقدم في الأهداف المشتركة لضمان الاستقرار في سياق استراتيجي، والحد من مخاطر النزاعات المسلحة والتهديد بحرب نووية”.
صحيح أن بايدن وصف القمة الروسية – الأميركية بأنها كانت “عملية”؛ وصحيح أيضاً ان بوتين قد وصفها بأنها “بناءة” و”خالية من العداء”؛ إلا أن التوترات كانت ملموسة، أقله في ما تبدى في المؤتمرين الصحافيين المنفصلين اللذين عقدهما الرئيسان بعد المحادثات، حيث أصرّ كلاهما على تحديد “الخطوط الحمراء” للطرف الآخر، بعيداً عن العبارات الدبلوماسية المنمّقة للبيانات الختامية.
بوتين، الذي تحدّث أولاً، اتهم الولايات المتحدة بدعم المنظمات المعارضة، في إطار السعي لتقويض ركائز الدولة الروسية، ورد على الاتهامات الأميركية بشأن حقوق الإنسان، من خلال التذكير بالسجل الأسود للولايات المتحدة، ابتداءً من الإشارة إلى الجرائم التي ارتكبتها قواتها في العراق وافغانستان، وصولاً إلى التشكيك بالديموقراطية الأميركية، سواء في يتصل بالعنصرية ضد السود، أو ما بموقعة اقتحام مبنى الكونغرس.
جوهر المؤتمر الصحافي لبوتين تمثل في “الخطوط الحمراء” التي وضعها أمام نظيره الأميركي، والتي ينذر تجاوزها بتقويض التقدم الدبلوماسي الذي تحقق رمزياً من خلال قرار عودة السفيرين واستكمال البحث في تجديد معاهدة “ستارت”.
الخط الأحمر الأول الذي حدده بوتين هو رفض أي تدخل في السياسة الداخلية لروسيا، وقد أوضح الرئيس الروسي ذلك بشكل قاطع، حين أشار إلى أن قضايا مثل “حقوق الانسان” و”التضييق على المعارضين” ليست مطروحة على جدول أعمال التسوية فحسب، بل أن مجرّد الحديث عنها مرفوض جملة وتفصيلاً.
الخط الأحمر الثاني يتعلق باحتمالات فرض عقوبات جديدة على روسيا، على غرار ما حدث بعد قمة ترامب وبوتين في هلسكني عام 2018، أو حتى بعد المكالمة الهاتفية الأولى بين بوتين وبايدن قبل أشهر.
أما بايدن فركز في خطوطه الحمراء على الهجمات الإلكترونية التي تنسبها أجهزته الاستخباراتية إلى قراصنة روس، حيث حذر، بنبرة مؤسسية صارمة، الكرملين من أنه سيرد على أية تهديدات أو هجمات مستقبلية، قائلاً “أعتقد أن آخر شيء تريده روسيا هو حرب باردة جديدة”.

ذهب بوتين إلى جنيف وحصل على ما يريده بالضبط، وغادر مع نصر دبلوماسي كبير

في العموم، لا يمكن النظر إلى قمة جنيف إلا بمنظار واقعي، يتمثل في أن تطوير مسار الحوار بين واشنطن وموسكو، وفي ظل ما تشهده العلاقات بين البلدين من توترات تلامس حدود الحرب الباردة، سيحتاج إلى خطوات إضافية، يتسم إيقاعها بحذرٍ شديد.
ومع ذلك، فإنّ مجرّد لقاء بوتين وبايدن وجهاً لوجه، يعني أن بعضاً من الجليد قد ذاب، أقلّه في الجانب الشخصي بين الرجلين، وأن الملفات الشائكة في العلاقات الثنائية، وامتداداتها على الأجندة الدولية، ما زالت تحول دون بناء جسور الثقة المتبادلة، وهو ما جعل سقف التوقعات في الكرملين منخفضاً منذ اللحظة الأولى التي اقترح فيها الرئيس الأميركي عقد القمة مع نظيره الروسي.
برغم ما سبق، فإنّ بوتين، وكعادته، نجح في اقتناص فرصة اللقاء مع الرئيس الأميركي لحصد ما أمكن من مكاسب، وهو ما أقرّت به وسائل الإعلام الأميركية في معرض تقييمها لنتائج قمة جنيف.

إقرأ على موقع 180  الشمال السوري... إلى الحرب در

وهناك شبه إجماع بين المحللين الروس والأميركيين على أن قمة جنيف، وبصرف النظر عن مخرجاتها المتواضعة، قد أتت لصالح بوتين أكثر منه لصالح بايدن، لا بل أنّ ثمة من يعتقد بأن الرئيس الروسي كان أكثر حزماً في مقاربته للعلاقات الروسية – الأميركية، مقارنةً بالرئيس الأميركي الذي بدا مربكاً، وأن رفضه عقد مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الروسي عكس ضعفاً، أو على الأقل رهاباً من احتمال حدوث “كارثة علاقات عامة”.
وبحسب قناة “سي إن إن” الأميركية، فإنّ القمة قدّمت لبوتين فرصة لوقف تدهور العلاقات بين موسكو وواشنطن، لأن الولايات المتحدة ستتردد الآن في فرض عقوبات اقتصادية جديدة. واضافت في إطار تقييمها للقمة الروسية-الأميركية: لقد ذهب بوتين إلى جنيف وحصل على ما يريده بالضبط، وغادر مع نصر دبلوماسي كبير.
وعلى المنوال ذاته، لاحظت قناة “فوكس نيوز” أن “بوتين سخر من أميركا، ودافع عن موقفه من قضية المعارض الروسي اليكسي نافالني، من خلال الإشارة إلى الاعتقالات التي طالت المشاركين في اقتحام مبنى الكابيتول وحملة حياة السود مهمة”.

سلوك بايدن في قمة جنيف كان سيئاً للغاية بنظر بعض المحللين الأميركيين، فبحسب موقع “ذا هيل” فإنّ “الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة بدا ضعيفاً، وفي نهاية مؤتمره الصحافي، أصبح دفاعياً وغاضباً، لا سيما حين تحدث عن طريقة مناقشته للعلاقات الشائكة مع بوتين

أما بالنسبة إلى مجلة “تايم” فإنّ “القمة منحت بوتين المسرح العالمي الذي كان ينتظره، بالنظر إلى رغبته الطويلة الأمد في ضمان أخذ روسيا على محمل الجد باعتبارها المنافس الرئيسي للولايات المتحدة”.
ما سبق، جعل تقييم سلوك بايدن في قمة جنيف سيئاً للغاية بنظر بعض المحللين الأميركيين، فبحسب موقع “ذا هيل” فإنّ “الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة بدا ضعيفاً، وفي نهاية مؤتمره الصحافي، أصبح دفاعياً وغاضباً، لا سيما حين تحدث عن طريقة مناقشته للعلاقات الشائكة مع بوتين، الذي عقد مؤتمره الصحافي تقريباً بضعف مدة المؤتمر الصحافي لباين، ما أعطى انطباعاً بانتصار سهل آخر للزعيم الروسي، وكل هذا أمام العالم أجمع”.
صحيفة “نيويورك بوست” شاركت وجهة نظر مماثلة، إذ كتبت “لقد رفض بايدن عقد مؤتمر صحافي مشترك مع بوتين لتجنب كارثة في العلاقات العامة. لكن الفائز في ذلك اليوم كان حاكم موسكو” مضيفة “دعونا نواجه الأمر، لم يكن هذا يوماً جيداً لبايدن أو لأمريكا. كان بوتين يسخر بشكل أساسي من نظيره ومن الولايات المتحدة، بينما بدا بايدن ضعيفاً وشارد الذهن”، لتخلص إلى القول “ربما كانت أميركا أقوى لو لم تكن هناك قمة على الإطلاق”.
أما وسائل الإعلام الأوروبية فقد لفتت بدورها الانتباه إلى تفاصيل ذات مضامين بالغة الرمزية في قمة جنيف، أهمها ملاحظتان رصدتهما “ذي فيلت” الألمانية:
أولاً، عندما اقترب فلاديمير بوتين من الصحافيين بعد انتهاء القمة، أظهر ثلاثة وجوه على الأقل: في بعض الأحيان كان لطيفاً، وأحيانا ماكراً، وأحياناً أخرى قاسياً.
ثانياً، النظارات التي قدمها بايدن هديّة لبوتين تشهد على غموض العلاقات الروسية الأمريكية. هذه النظارات المصنوعة في ولاية ماساتشوستس، يضعها طيارون من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وهي تعد بمثابة “علامة تجارية” لجو بايدن، تماماً كما كانت ربطة العنق الحمراء “علامة تجارية” لدونالد ترامب. لذلك، اختار الرئيس الأميركي أن يقدّم لنظيره الروسي “نظارات بايدن التابعة للحلف الأطلسي”، وهو ما يمكن تسميته، بحسب “ذا فيلت” بادرة القوة.. أو ببساطة: وقاحة لا تليق برجل يسعى لتطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو.

Print Friendly, PDF & Email
وسام متى

صحافي لبناني متخصص في الشؤون الدولية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  الوقت يضيق أمام بايدن.. لجم نتنياهو أو الفوضى الإقليمية