تبدو ما يصفها البعض بالقدرية السياسية، بمثابة سمة استقرت مع الزمان فى الثقافة السياسية لأهل السلطة وجماعاتهم فى لبنان. وبانتظار ذلك تصبح المناكفات الداخلية باسم حقوق الطوائف بشكل كبير هى المهيمنة فى اللعبة الدائرة. ولو أدت هذه إلى شلل سياسى ذى تداعيات كبيرة على لبنان أمام التحديات الداخلية والخارجية الخطيرة وذات التكلفة الكبيرة، إذا استمرت اللعبة ذاتها، إلى حين تفاهم أهل الحل والربط فى الخارج.
يحذر البعض من مخاطر التدويل (استقدام العنصر الخارجى)، تدويل مسببات الأزمة والحلول، فيما هو يمارسها ويتهم خصم اليوم من القيام بالشىء ذاته. فمجمل سياساتنا الداخلية بخلافاتها وتفاهماتها وصراعاتها تحت عناوين متعددة، تعكس وتحمل درجات مختلفة من التدويل (رهانا وتماشيا واعتمادا على الصديق أو الحليف الخارجى). المشكلة فى لبنان ليس وجود علاقات تحالف أو تقارب أو تناغم مع هذا الطرف الخارجى أو ذاك فى قضية أو قضايا معينة، وهو سمة طبيعية فى العلاقات الدولية، ولكن فى درجة وأحيانا شمولية هذا الارتباط. ولا بد من التذكير دوما أن مجمل خلافاتنا وحروبنا الداخلية كانت بسبب تماه كبير مع «الصديق» الخارجى فى الاصطفافات اللبنانية، وأن اتفاق «الخارج» كان المدخل للسلم الأهلى أو لتجميد خلاف أو نزاع.
يتقاتلون حول ضرورة تغيير النظام ولو بعناوين ملطفة أو التمسك بما جاء به «اتفاق الطائف» وصار الدستور الحالى والخلاف حول تفسيره. ويراهنون على انتصار هذا الصديق أو الحليف الخارجى أو ذاك وتوظيف ذلك فى الصراع السياسى الداخلى فيما صار الانفجار ومعه الانهيار «على الباب»
تغير اللاعبون وعناوين اللعبة وبقيت اللعبة هى ذاتها. المشكلة أو المأساة اليوم أن الأزمة الاقتصادية بتداعياتها الاجتماعية الكارثية وغيرها والتى تهدد بالانهيار الشامل للبنان وتحوله كليا إلى «دولة فاشلة» لم تعد تسمح بلعبة عض الأصابع وشراء الوقت. اللعبة التى قامت دائما على الرهان على اتجاه الرياح الخارجية. الرياح التى تعصف بالمركب اللبنانى وتسرع بغرق هذا المركب إذا لم يتم الإسراع فى عملية إنقاذه من طرف الممسكين بدفة القيادة والمتقاتلين حولها من خلال تشكيل «حكومة مهمة». الهدف الذى يجرى الصراع حوله منذ عام تقريبا. حكومة تكون بمثابة فريق عمل متجانس لتنفيذ إصلاح شامل على أساس خطة عمل واضحة وإطار زمنى محدد.
هدف إنقاذى ضرورى تحول إلى عنوان جذاب دون أى مضمون. عنوان بمثابة غطاء شفاف، لا يخفى طبيعة اللعبة الدائرة: لعبة تقاسم «جبنة» الحكومة بعناوين تكنوقراطية وبمضامين تقوم على الولاءات السياسية التقليدية لزعماء فدرالية المذهبيات السياسية الحاكمة بالفعل فى لبنان. حكومة يريدونها أن تقوم على منطق المحاصصة الحامل فى طياته دائما لمخاطر الوقوع فى الشلل السياسى عشية الدخول فى مسار التحضير لاستحقاقات انتخابية قادمة من نيابية ورئاسية، حتى لو أن مهام هذه الحكومة يفترض أن ينتهى مع الانتخابات النيابية فى منتصف السنة القادمة. ولكن طبيعة التطورات الحاصلة داخليا وإقليميا تسمح بعدم إسقاط سيناريو استمرار الحكومة فيما لو شكلت إلى نهاية العهد (ويقول البعض حتى لو أجريت الانتخابات النيابية فى موعدها قد تبقى كحكومة مستقيلة). كما أن البعض الآخر ما زال لا يستبعد استمرار الحكومة الحالية المستقيلة إلى نهاية العهد أيضا.
باختصار يتقاتلون حول ضرورة تغيير النظام ولو بعناوين ملطفة أو التمسك بما جاء به «اتفاق الطائف» وصار الدستور الحالى والخلاف حول تفسيره. ويراهنون على انتصار هذا الصديق أو الحليف الخارجى أو ذاك وتوظيف ذلك فى الصراع السياسى الداخلى فيما صار الانفجار ومعه الانهيار «على الباب». ونعود لنذكر أن المطلوب التوصل إلى الحد الأدنى من التفاهم الخارجى بين الأطراف المؤثرة والفاعلة فى «مسرح الصراع» اللبنانى لإعادة بناء الاستقرار كشرط أساسى ولو غير كاف لإطلاق عملية الإصلاح الضرورى والشامل للبنان؛ لبناء الدولة وإرساء ما يعرف بمنطق الدولة على حساب منطق فدرالية المذهبيات السياسية الحاملة والمولدة للأزمات بشكل مستمر. وهذه تبقى أساسا مسئولية اللبنانيين بجميع أطيافهم وانتماءاتهم. أمر يستدعى وضع الخلافات «الهوياتية» الكبرى التى يعيشها البعض وكذلك السياسية العميقة مؤقتا على «الرف». تحد ليس بالسهل النجاح فى مواجهته ولكنه ليس بالمستحيل طالما أن الانهيار الكلى هو البديل. تساؤل لا يمكن تحمل ترف الانتظار للحصول على الجواب المعروف والمطلوب اليوم قبل الغد.
(*) بالتزامن مع “الشروق“