لم يكتم وزير الدفاع البريطاني بن والاس مرارته، عندما وصف الإتفاق الذي وقعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب مع حركة طالبان في 29 شباط/فبراير من العام الماضي بأنه إتفاق “خاطىء ومهترىء”. كان والاس يحاول عبثاً البحث عن الأسباب التي جعلت الولايات الأفغانية تتساقط بهذه السرعة في أيدي الحركة الإسلامية المتشددة.
والاس ليس وحده الذاهل. الغرب كله تحت صدمة الإنقلاب الميداني الحاصل في أفغانستان. والرئيس الأميركي جو بايدن أمر بإرسال ثلاثة ألاف جندي إلى هناك، ليس في مهمة إسناد للحكومة الأفغانية برئاسة أشرف غاني، وإنما للتعجيل بإجلاء الرعايا والديبلوماسيين الأميركيين، قبل أن يتكرر مشهد الإجلاء من على سطح السفارة، كما حدث في سايغون عاصمة فيتنام عام 1975. ولم يكن في وسع زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل، إلا تذكيره بهذه اللحظة، بينما تقترب طالبان من العاصمة الأفغانية. لكن بايدن الذي كان تبلغ من مساعديه بالتحولات المتسارعة، قال للصحافيين إنه “غير نادم” على قرار الإنسحاب، وأن أفغانستان لم تعد شأناً أميركياً، وأن مشهد سايغون لن يتكرر، وأن الولايات المتحدة تملك اليوم من الإستخبارات والإمكانات الضرورية، لمنع تكرار هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001.
وبريطانيا التي تملك تجربة أعمق في أفغانستان لا تزال تتذكر أول إجلاء جوي نفذه سلاح الجو الملكي لديبلوماسييها من كابول بين عامي 1928 و1929، هرباً من انتفاضة قبلية. وبن والاس إياه يذهب بعيداً عندما يقول إن “بريطانيا وجدت في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر أن أفغانستان بلد يحكمه أمراء حرب وولايات وقبائل مختلفة، وإذا لم تكن متنبهاً، فإن الأمر ينتهي بحرب أهلية.. وعودة تنظيم القاعدة”.
بايدن يعتقد أنه بعد 31 آب/أغسطس، فإن أفغانستان آيلة كي تصير مشكلة روسية وإيرانية وصينية وباكستانية، أكثر مما هي مشكلة أميركية
بيد أن بايدن يقرأ في كتاب آخر غير كتاب التاريخ. فهو يعتقد أنه بعد 31 آب/أغسطس، فإن أفغانستان آيلة كي تصير مشكلة روسية وإيرانية وصينية وباكستانية، أكثر مما هي مشكلة أميركية. وفي تبرير أخلاقي للإنسحاب، قال الرئيس الأميركي إن بلاده أنفقت في عقدين من الزمن، اكثر من تريليون دولار في أفغانستان من بينها تسليح الجيش الأفغاني وتدريبه، وتالياً على هذا الجيش أن يقاتل ويصمد، وهو يفوق عدداً وعدة حركة طالبان “وهذه حربهم وليست حربنا”.
وإذا كان صحيحاً من الناحية النظرية أن الجيش الأفغاني يتمتع بامكانات أكثر من حركة طالبان، فإن السرعة التي ينهار فيها هذا الجيش، جعلت تقويمات الإستخبارات الغربية تتغير بين يوم وآخر. ومن بعد الإعلان عن احتمال سقوط كابول في غضون ثلاثة أشهر، أعطى أحدث تقويم أن المسألة قد لا تتعدى الشهر الواحد. وهذه مدة لا تقارن بتمكن الحكومة التي تركها وراءهم السوفيات عام 1989، من الصمود ثلاثة أعوام في مواجهة الفصائل الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة وقتذاك.
هذا الوضع المتحرك بسرعة قياسية، لا يعطي فرصة للمسؤولين في الغرب سوى التفكير بإجلاء رعاياهم والمتعاونين معهم من الأفغان، بالسرعة الكافية كي لا يقعوا في قبضة طالبان، بينما حكومة كابول التي لم تستفق بعد من صدمة الإنسحاب الأميركي، لم تجد مناصاً من اللجوء إلى الزعماء القبليين المحليين للقتال ضد طالبان، على غرار الزعيم الاوزبكي عبد الرشيد دوستم، الذي عاد أخيراً من تركيا، وكلّفه أشرف غاني الدفاع عن ما تبقى من أراضٍ في الشمال. وغداً قد يعود الزعيم الطاجيكي عبدالله عبدالله إذا أتيحت له الفرصة، لإحياء “تحالف الشمال”، وتعود أفغانستان إلى عهدة “أمراء الحرب”. وثمة حديث عن الإستعانة بأحد زعماء “التحالف” محمد عطا نور ونجل الزعيم الطاجيكي احمد مسعود شاه الذي إغتيل قبل يومين من هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. وهذا ما يهيء الظروف لعودة الحرب الأهلية على أسس عرقية ومذهبية.
نجحت أميركا في مهمة واحدة وهي تفكيك أفغانستان والعراق والإمعان في تدميرهما. واكتشفت متأخرة أن هذين البلدين ليسا ألمانيا ولا اليابان. والآن، يقول بايدن إن التاريخ يستدعي أميركا للذهاب إلى الصين!
وتبدو محادثات الدوحة بين ممثلين للولايات المتحدة وروسيا والصين وباكستان مع وفد من طالبان، أشبه بمضيعة للوقت لأن التقدم الميداني للحركة على الارض لم يتوقف لحظة خلال إنعقاد جولات المحادثات العقيمة. وبدت التهديدات الغربية بالتعامل مع أفغانستان كدولة “منبوذة” في حال سيطرت طالبان على السلطة بالقوة، غير مجدية أو ربما فات أوانها أو تثير سخرية قادة الحركة الذين يرون أن كابول أقرب لديهم من حبل الوريد ولن يفوتوا الفرصة المتاحة.
يعود الأميركيون من أفغانستان مهزومين وجل همهم ألا تحتفل طالبان بذكرى عشرين عاماً على هجمات 11 أيلول فوق أنقاض سفارتهم الخالية أو المحترقة في كابول.
يوم قرر الرئيس الأميركي سابقاً جورج دبليو بوش غزو أفغانستان بعد أيام من تدمير مركزي برج التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن وتحطم طائرة ركاب فوق بنسلفانيا، قال إن التاريخ “يستدعي” الولايات المتحدة كي تتخذ قرار جعل العالم أكثر أمناً.
وانتهى الغزو بحد ذاته في غضون أسابيع، وتمت إطاحة طالبان لأنها رفضت تسليم زعيم “القاعدة” أسامة بن لادن. و”سهولة” غزو أفغانستان أغرت بوش بالذهاب إلى العراق على رغم أنه لم تكن لصدام حسين علاقة بهجمات 11 أيلول، فكانت كذبة أسلحة الدمار الشامل. وغرقت أميركا في حربين في وقت واحد، مما جعلها تفشل في مهمة “بناء الأمم” في أفغانستان والعراق معاً. من كان في إمكانه إقناع وزير الدفاع دونالد رامسفيلد حينذاك بأن افغانستان والعراق ليسا ألمانيا ولا اليابان، حيث يكرر المسؤولون الأميركيون مقولة أن الفضل يعود إلى الولايات المتحدة في إنشاء نظامين ديموقراطيين في هذين البلدين عقب الحرب العالمية الثانية.
نجحت أميركا في مهمة واحدة وهي تفكيك أفغانستان والعراق والإمعان في تدميرهما. واكتشفت متأخرة أن هذين البلدين ليسا ألمانيا ولا اليابان.
والآن، يقول بايدن إن التاريخ يستدعي أميركا للذهاب إلى الصين!
لننتظر ونرَ.