سميح صعب22/08/2021
كما كان الغزو الأميركي لأفغانستان عام 2001، نقطة تحول جيوسياسية في جنوب آسيا والعالم، كذلك فإن الإنسحاب الأميركي الفوضوي وعودة طالبان إلى السلطة بسرعة قياسية، سيضع المنطقة على عتبة تحولات استراتيجية تتكشف بمرور الأيام، تماماً مثلما شكل الإنسحاب السوفياتي عام 1989، بداية تغييرات كبرى قادت إلى انتصار أميركا في الحرب الباردة وتفكك الإمبراطورية السوفياتية.
الأسئلة الدائرة الآن على كل لسان في الولايات المتحدة والعالم تتمحور على الآتي: إلى أين يمكن أن تقود المرحلة الجديدة في أفغانستان، وأيضاً ما هي دلالات إقرار أميركا بعد عشرين عاماً بعجزها عن “بناء أمة” قادرة على الديمومة، وهل كان الأمر يستلزم عقدين من الزمن كي يعترف القادة الأميركيون بأن أفغانستان كانت مشروعاً فاشلاً منذ البداية؟ والأهم من كل ذلك، كيف سينعكس الإنسحاب وتداعياته على أميركا نفسها، ومن ثم على صدقيتها لدى الحلفاء؟ هذه أسئلة تبقى مشرعة على المستقبل.
الإنهيار الأفغاني، لم يترك للقادة الأميركيين سوى التعلق بوهم أن طالبان قد تغيرت عما كانت عليه قبل 20 عاماً وأن الحركة بنسخة عام 2021، مجبرة على تغيير تعاملها مع الأقليات ومع النساء وأن لا تقبل باستخدام أفغانستان منطلقاً لشن هجمات في الخارج. والمبعوث الأميركي إلى أفغانستان زالماي خليل زاد يراهن على أن طالبان محكومة بتعديل سلوكها كي تنال اعتراف العالم، وإلا تجازف بالعودة مجدداً كي تكون إمارة منبوذة. لا يخفف هذا من قلق ينتاب واشنطن والعواصم الغربية من احتمال عودة تنظيم “القاعدة” إلى افغانستان، وتعزيز “ولاية خراسان” التابعة لتنظيم “داعش” من وجودها في هذا البلد واتخاذه معقلاً للتدريب على هجمات مماثلة لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. إذن الرهان الأميركي أن تكون طالبان قد تعلمت الدرس، في حين أن طالبان هي الأخرى تراهن على أن الفشل الأميركي قد لقّن أعظم قوة في العالم درساً لا يقل فداحة عن ذاك الذي مرّ به الإتحاد السوفياتي قبل 32 عاماً.
أشد المتحمسين للإنسحاب من أفغانستان، هالهم منظر أفغان دفعهم اليأس إلى التعلق بعجلات طائرة نقل عسكرية من طراز “سي-17” لدى إقلاعها من مطار كابول، ليسقطوا بعدها قتلى. هذا أقسى بكثير من مشهد التشبث بالمروحية الأميركية التي أقلعت من فوق سطح السفارة الأميركية في سايغون عام 1975
الكلام الأميركي عن تغير السلوك الطالباني، لا يعدو كونه تبريراً للفشل في منع طالبان من تحقيق انتصار فاجأ بسرعته حتى الرجل الثاني في الحركة الملا عبد الغني برادار، بينما كان رجاله يتجولون في مكتب الرئيس أشرف غاني في القصر الجمهوري في كابول بعد فرار الأخير إلى الخارج.
مقارنة حاذقة أوردتها مجلة “الإيكونوميست” البريطانية في معرض تعليقها على الإنهيار السريع للحكومة الأفغانية، إذ قالت إن الحكومة التي تركها الإتحاد السوفياتي خلفه بعد انسحابه، صمدت في مواجهة الفصائل المدعومة من أميركا، ثلاثة أعوام، أي أن الإتحاد السوفياتي إنهار قبل حكومة نجيب الله. أما الحكومة التي رعتها الولايات المتحدة لمدة 20 عاماً وأنفقت عليها تريليون دولار، لم تُعمّر حتى موعد انتهاء الإنسحاب الأميركي المقرر في 31 آب/أغسطس الجاري.
حتى أشد المتحمسين للإنسحاب من أفغانستان، هالهم منظر أفغان دفعهم اليأس إلى التعلق بعجلات طائرة نقل عسكرية من طراز “سي-17” لدى إقلاعها من مطار كابول، ليسقطوا بعدها قتلى. هذا أقسى بكثير من مشهد التشبث بالمروحية الأميركية التي أقلعت من فوق سطح السفارة الأميركية في سايغون عام 1975 بعد عشرين عاماً من الإحتلال أيضاً. من الآن فصاعداً لن يكون المؤرخون في حاجة إلى الإستعانة في سردياتهم بـ”لحظة سايغون”، لديهم الآن “لحظة كابول”.
المسؤولون الأميركيون تائهون في رحلة البحث عن الأسباب التي أدت إلى هذا الإنهيار السريع لجيش من 350 الف رجل مع غطاء جوي وأسلحة حديثة نسبياً، أمام ميليشيا من 60 ألف رجل مسلحين بقذائف مضادة للدروع من طراز “آر بي جي” وبنادق كلاشينكوف “أي كي-47”. الرئيس جو بايدن الذي كان متشبثاً بقرار الإنسحاب مهما كان الثمن، خلافاً لرأي جنرالاته واستخباراته، أقر بأنه لم يكن يتوقع أن يحدث الإنهيار بهذه السرعة. وكانت أحدث تقارير الإستخبارات والجيش تتوقع صمود كابول لفترة ثلاثة أشهر على الأقل. وكانت هذه فترة سماح كافية لبايدن، كي يخرج في الذكرى العشرين لهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001 ليقول للأميركيين، أنه أنجز وعده الإنتخابي بإنهاء أطول الحروب الأميركية في الخارج.
الإنهيار، أربك بايدن، وهو متهم اليوم أمام الجمهوريين على نحوٍ خاص، وفي مقدمهم الرئيس السابق دونالد ترامب الساعي للترشح عام 2024، والذي قال: “لم يسبق أن تعرضت الولايات المتحدة لمثل هذا الإذلال”. ونائبه السابق مايك بنس وصف المشهد بأنه “ضعف تمخض عنه شر”. وزعيم الأقلية الجمهورية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل وصف سياسة بايدن بأنها “مهينة”. وفي الإجمال وجد الجمهوريون في أفغانستان مادة دسمة لحملة انتخابات منتصف الولاية في خريف العام المقبل.
ديفيد هيرست: “العقلية الحالمة التي يخوض بها الغرب عملياته في غرب آسيا والشرق الأوسط تعكس سيكولوجية الإمبراطورية الغربية الآخذة في التلاشي”
وفي أنحاء أوروبا، كان رد فعل المسؤولين الأوروبيين، وفق مجلة “بوليتيكو” الأميركية “مزيجاً من عدم التصديق والشعور بالخيانة. حتى أولئك الذين رحبوا بانتخاب بايدن معتقدين أن في إمكانه تخفيف التوتر في العلاقة عبر الأطلسي، قالوا إنهم يعتبرون الإنسحاب من أفغانستان بمثابة خطأ على مستوى تاريخي”.
وفي إشارة رمزية مليئة بالدلالات التاريخية، قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان البريطاني توم تيوجيندهات:”أفغانستان هي الخطأ السياسي الأكبر منذ كارثة السويس” (ربما أراد التذكير بنقطة إنهيار الإمبراطورية البريطانية بعد حرب السويس عام 1956). وتساءل زميله رئيس لجنة الدفاع توبياس إيلوود قائلاً: “ماذا حصل لشعار بايدن، أميركا قد عادت”. وكان لافتاً للإنتباه ان تصدر مثل هذه الإنتقادات من بريطانيا البلد المعروف بوقوفه بجانب الولايات المتحدة دائماً. حتى أن وزير الدفاع البريطاني بن والاس توقع عودة تنظيم “القاعدة”.
وعموماً، يتساءل القادة الأوروبيون، بعد أفغانستان، عن مدى صدقية التزام الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم، من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى. وسيدفع هذا التطور إلى تعزيز فكرة الأمن الأوروبي المستقل عن الولايات المتحدة.
رئيس تحرير موقع “ميدل إيست أي” البريطاني ديفيد هيرست، رأى أن “العقلية الحالمة التي يخوض بها الغرب عملياته في غرب آسيا والشرق الأوسط تعكس سيكولوجية الإمبراطورية الغربية الآخذة في التلاشي”.
حتماً، ما جرى في أفغانستان هو نهاية مرحلة وبدء أخرى. والكثير يتوقف على ديناميكية الأحداث في الداخل الأفغاني وقدرة طالبان بعد خروج القوات الأميركية على إقناع القوى الأفغانية الأخرى بسلطتها والتسليم لها بقيادة بلاد قائمة على الولاءات القبلية قبل كل شيء. كما أن الدول المحيطة بأفغانستان ستكون هي الأخرى معنية بالمجريات التي ستكون خاضعة للتأثر بها والتأثير فيها.
الكل يفيق الآن من صدمة الحدث، ويلتزم الحذر في إطلاق المواقف وتحديد الوجهة المقبلة.
قيل عن أفغانستان إنها “مقبرة الإمبراطوريات”. هل تنجو الولايات المتحدة، بعد أفغانستان، من عدوى الإنهيارات أم يصيبها ما أصاب بريطانيا والإتحاد السوفياتي سابقاً؟