لا زلت أتذكر كلام جدي ووصفه جغرافيا المدينة المنورة في المملكة. كان جدي يسترجع أيام طفولته ومعايشته حقبة أليمة طبعت بصمتها في وجدان أهل المدينة وذاكرتهم؛ حادثة التهجير الجماعي المعروفة بـ”سفر برلك”، يصف المدينة المنورة قائلاً “إنها عاصمة قبيلة حرب. من عند مسجد الغمامة، شمالها سالمي وجنوبها مسروحي”. يستطرد مُشرّحاً التوزيع الجغرافي لعمارتي قبيلة حرب وتأثير هذا الانتشار القبلي في قرار الوالي العثماني آنذاك فخري باشا. يقول إن المدينة بباديتها وحاضرتها “مثل الأواني المستطرقة. إن خلعت نخلة في بلاد (مزرعة) أحدهم تجد سنداً من باديتها والعكس صحيح”. دورة اجتماعية متكاملة “غابت أو غُيبت عن الوالي العثماني للمدينة المنورة فخري باشا وحضرت عند الفارس ابن سعود عبد العزيز. ذلك أن ابن سعود كان يعرف أهمية الجغرافيا السياسية”، على حد وصف جدي.
أتساءل لما لم يهمس أحدهم في أذن والي المدينة فخري باشا بأنه يستحيل غض النظر عن التركيبة السكانية لأهل المدينة المنورة؟ ثم ما هذا الإغفال الغشيم من قبل الوالي للخريطة الاجتماعية لمدينة تعتبر مفتاحاً لدخول منطقتي القصيم وحائل المركزيتين في سلطة الدولة العثمانية؟ هل تناسى فخري باشا الفرق بين الخريطة الاجتماعية وبين الخريطة السياسية وهو الذي تولى الولاية فترة كافية لحسن التدبر والتصرف؟
أتذكر قصة أخرى رديفة رواها لي صديق عندما لبيت دعوته لزيارة ضيعته (قريته) في منطقة إقليم الخروب (الشوف) في جبل لبنان الجنوبي. يومها كان لبنان يغلي على صفيح سياسي ـ أمني ساخن على مسافة سنوات قليلة من جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري (2005م)، وكان موسم انتخابات العام 2009م قد أصبح على الأبواب. في خريطة المحاور السياسية، كان صديقي ينتمي الى فريق 14 أذار الذي كان نتاج لحظة 8 آذار (فريق سوريا في لبنان). أما في الخريطة الاجتماعية فهو ينحدر من قرية معقودة الولاء الانتخابي لزعيم جبل لبنان الجنوبي رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي وليد جنبلاط. هذا الولاء اكتسبه جنبلاط حين دافع عن قرى الإقليم إبان محاولة القوات اللبنانية اجتياح المنطقة في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي. يشرح صديقي كيف حمل البندقية “الإشتراكية” أيضاً وهو طفل مع والده وشباب القرية في مواجهة جنود الجيش الإسرائيلي في العام 1982م: “كان صدى مجزرتي صبرا وشاتيلا ما يزال مسموعا داخل كل بيت في ضيعتنا. إلا أن (هنا علت البسمة على وجهه) المساندة الصاروخية الجنبلاطية “من فوق” (من بيت الدين) دحرت هؤلاء المجرمين. بعد هذا الحدث التاريخي أصبحت القرية تدين بالولاء لوليد بك جنبلاط مدى العمر”، مُكملاً أنه “لو قيل لنا أن وليد جنبلاط هو من قتل رفيق الحريري.. ثق أننا في يوم الانتخابات سنصوّت لوليد جنبلاط”!
لست متأكداً إن كان التاريخ يعيد نفسه أم لا. هذه مسألة لم أستطع حسمها الى اليوم. لكن ما أستطيع الجزم به أن الأخطاء السياسية تكرر نفسها أحياناً. طالما أن هناك رغبات جامحة لدى بعض السياسيين تجعلهم يشعرون بأن التاريخ يمكن صناعته وصياغته على أيديهم
أتساءل مرة أخرى، لما لم يهمس أحدهم في أذن السفير الأمريكي في لبنان أنذاك جيفري فيلتمان بأنه لا يمكنه غض النظر عن الخريطة الاجتماعية للبنان؟ هل اعتقد هو ورفيقه السفير الفرنسي برنار إيمييه أن النظر الى خريطة المحاور السياسية تعفيهما من التشابك الاجتماعي الكثيف للبنان؟ هل شُبّه لهما أن لبنان السياسي أقوى من لبنان الطائفي وماذا عن لبنان الإجتماعي؟
تتراكم الروايات الشفهية والمكتوبة وكلها تحكي عن عالم عربي أضاع خريطته لا بل أضاع دوله. روايات تروى داخل البيوت لم يتسن لها ان تظهر، وما أن تبحث عنها حتى تستدرك كيف أن الأقدار ترسم حدوداً لطموحات البشر. وكيف أن الإنسان هو من يترجم هذه الحدود في شكل رواية، وهو ما نجده في رواية “عالم بلا خرائط” التي تضافر في كتابتها روائيان عربيان كبيران هما جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف. في نصهما الروائي الجميل، عكس جبرا ومنيف الكثير من السخرية والسخط والرغبة الجامحة التي سادت العالم العربي في القرن الماضي من خلال مدينتهم المتخيلة عمورية. المدينة التي تولد فيها أسئلة أكثر من الأجوبة. في هذه الرواية أودع كل منهما نصيبه من تجارب وأفكار وأحلام وخيبات. مجهود عبقري للثنائي الروائي أخرجا من خلاله حكاية تعبّر عن المنسوب الثقافي لجيل بأكمله. معادلة مراوغة الى اليوم، فالأرض لم تجد من يرسم خريطة لها في وجدان الناس التوّاقة إلى وطن موعود ودولة عادلة، وهو غالباً ما نراه متجسداً في خطوط التماس التقليدية في بلاد الشام والعراق تحديداً. خطوط ما تلبث ان تشتعل عند أول تحوّل في المصالح الدولية والإقليمية.. بلغ العقل الاستعماري الغربي حد الانفصام التام عن تركيبة المنطقة التاريخية والجغرافية باعترافه بدولة الاحتلال الإسرائيلي التي نشأت مع قرار التقسيم في العام 1948م.
ما أكثر الروايات العربية التي اتخذت عناوين تدغدغ الهواجس. الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش قال يوماً ” ليس الوطن أرضاً.. ولكنه الأرض والحق معاً.. الحق معك، والأرض معهم”. كان عدد من المثقفين العرب يتحدثون في أحد مقاهي بيروت عن علاقتهم بأوطانهم. قال اللبناني بينهم إنه مهما حصل في لبنان من إنهيارات سيبقى مشدوداً إلى سحر بلده. قال المثقف العراقي السبعيني إنه عاد إلى العراق في العام 2003م، لكنه لم يشعر يوماً بالإنتماء سوى إلى المنفى. سئل ماذا تقصد بالمنفى، أجاب الحرية هي وطني. بقي جواب المثقف الخليجي عالقاً. قال للحاضرين متسائلاً هل هناك وطن من دون إستقرار؟
لست متأكداً إن كان التاريخ يعيد نفسه أم لا. هذه مسألة لم أستطع حسمها الى اليوم. لكن ما أستطيع الجزم به أن الأخطاء السياسية تكرر نفسها أحياناً. طالما أن هناك رغبات جامحة لدى بعض السياسيين تجعلهم يشعرون بأن التاريخ يمكن صناعته وصياغته على أيديهم. كما لو أن الإنسان هو الفعل والتاريخ مفعول به. عندها يصبح الضمير غائب.. والخريطة بدل فاقد.