تشير التقديرات المتحفظة بشأن قيمة التكلفة المادية التى تحملتها الخزانة الأمريكية خلال الـ20 عاما الماضية إلى مبلغ تريليون دولار، فى حين تؤكد «نيويورك تايمز» أن المبلغ لا يقل عن 2 تريليون دولار، بيد أن مشروع «تكاليف الحرب» (Cost of War) فى جامعة براون قدر التكلفة بما لا يقل 2.27 تريليون دولار، أو ما يقرب من 241 مليون دولار يوميا. نعم! أنفقت الإدارات الأمريكية الجمهورية والديمقراطية المتتالية 241 مليون دولار يوميا على حرب خاسرة لا تخدم مصالح أمريكية استراتيجية مباشرة، باستثناء تحييد تنظيم القاعدة المسئول عن هجمات 11 أيلول/سبتمبر، وهو ما تم بالفعل فى أول 3 أشهر من القتال.
لا يمكن تشكيل صورة متكاملة لفهم ما جرى ويجرى فى أفغانستان من دون التطرق لطبيعة «المجمع الصناعى العسكرى» ذى النفوذ الطاغى الخفى على الكثير من السياسات الخارجية الأمريكية. فبعد فترتى حكم امتدتا من عام 1953 إلى 1961، حذر الرئيس دوايت أيزنهاور فى خطابه الوداعى من «النفوذ الذى لا مبرر له، سواء كان بطلب أو بغير طلب من المجمع الصناعى العسكرى»، وقصد بذلك التحالف بين المؤسسة العسكرية الضخمة ممثلة فى وزارة الدفاع (البنتاجون) وكبريات شركات الصناعات العسكرية.
ويتمتع هذا التحالف بنفوذ واسع على الحزبين الديموقراطى والجمهورى، ويمرر الكونجرس سنويا وبصورة روتينية وبدون تأثر بهوية الحزب صاحب الأغلبية فى مجلسيه ــ النواب والشيوخ ــ ميزانيات الدفاع من دون نقاشات أو تحفظات ذات قيمة، وتعد الميزانية العسكرية إحدى القضايا النادرة التى يتنافس فيها الحزبان على إرضاء البنتاجون.
يعمل حاليا وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس مستشارا لشركة «جنرال ديناميكيس» أحد أكبر مصنعى السلاح الأمريكى، التى يعد البنتاجون عميلها رقم واحد كذلك، مقابل راتب سنوى يبلغ 900 ألف دولار
يُذكر أن الميزانية العسكرية الأمريكية، التى تقترب قيمتها من 800 مليار دولار سنويا، تتخطى إجمالى ميزانيات الدفاع لأكبر 10 دول تالية من حيث الإنفاق العسكرى، وهى الصين والسعودية وروسيا والهند وبريطانيا وفرنسا واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية والبرازيل.
وتحكم الحسابات الانتخابية لأعضاء الكونجرس مواقفهم من المخصصات العسكرية، أو الإبقاء على قواعد عسكرية وعتاد لا حاجة لهما، ويضغط أعضاء الكونجرس للإبقاء على خطوط إنتاج المدرعات والدبابات والطائرات التى لم تعد هناك حاجة عملية لدى القوات الأمريكية لاقتناء المزيد منها.
***
من ناحية أخرى، تقوم ماكينة معقدة من شركات «اللوبى» بالضغط على أعضاء الكونجرس للحفاظ على حجم ميزانية الدفاع أو زيادتها. وإضافة إلى شركات السلاح الكبرى ــ التى تسعى لمضاعفة تعاقداتها مع الحكومة الأمريكية ــ تضم واشنطن مراكز بحثية مختلفة تدعم تضخم الميزانية العسكرية وتدافع عن ذلك من خلال دراسات وبحوث، وشهادات خبرائها فى الكونجرس ووسائل الإعلام. فبدل الحديث عن انخفاض معدل التهديد للولايات المتحدة مع احتفاظها بأقوى جيوش العالم وأكبر ميزانية عسكرية وتقدمها التكنولوجى عسكريا بلا منافسة، يتم التركيز على زيادة التهديدات، وارتفاع حجم المنافسة الاستراتيجية من الصين وروسيا، ومخاطر إيران وكوريا الشمالية، إضافة إلى التهديدات الإرهابية.
***
تدرك الدوائر الفكرية الأمريكية منذ سنوات طويلة أنه لا يوجد حل عسكرى فى أفغانستان، ومع ذلك ظلت القوات الأمريكية هناك من دون وجود هدف محدد لإنجازه.
وتتجنب النخبة الأمريكية، حتى مع صور الانهيار والمعاناة والفوضى المرتبطة بعملية الإجلاء من كابول، طرح أسئلة جادة حول من المستفيد من إنفاق 241 مليون دولار يوميا لمدة 20 عاما! ولا يمكن فهم ما جرى ويجرى سواء فى أفغانستان أو العراق، إلا بعد تفكيك وفهم كيف وزعت هذه الأموال، وإلى أى حسابات بنكية انتهى بها المطاف، سواء تلك المرتبطة بالشركات الكبرى أو شركات المتعاقدين الحكوميين التى يمتلك أغلبها مسئولون عسكريون سابقون.
ويشير تقرير صدر قبل أشهر من مكتب المفتش الخاص لشئون أفغانستان بالبنتاجون، إلى وجود 22 ألفا و500 من المتعاقدين الممولين من ميزانية البنتاجون فى أفغانستان بتكلفة تبلغ مئات الملايين من الدولارات سنويا.
رغم أن أغلب الشعب الأمريكى يؤمن بأن حكومته «حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب»، فإن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهى تبدو «حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات»، وعلى رأس هذه الجماعات يأتى المجمع العسكرى الصناعى
وتعكس هذه النتيجة الفشل «الواشنطونى» فى أوضح صوره، فواشنطن العاصمة الفيدرالية ومقر صنع القرار السياسى تعج بمظاهر فساد قانونى تراكم بصورة غير مسبوقة خلال العقود الأخيرة، وذلك على العكس والنقيض من نجاحات كبيرة تشهدها بقية مراكز القوة الأمريكية سواء فى نيويورك، أو بوسطن أو كليفلاند أو شيكاغو أو سياتل أو لوس أنجلوس أو سان فرانسسكو أو هيوستون ودالاس أو أتلانتا وميامى وأورلاندو.
***
وتسمح ظاهرة «الباب الدوار» بخروج مسئولى إدارة سابقة للعمل فى شركات ومؤسسات خاصة، ثم يعودون مرة أخرى بعد سنوات للعمل الحكومى وتولى مناصب حكومية رفيعة مرة أخرى. ويتكرر هذا السيناريو ليخلق شبكة معقدة من العلاقات الشخصية والخاصة التى لا تتردد فى توريط الولايات المتحدة فى حروب لا طائل منها. فوزير الدفاع الحالى الجنرال لويد أوستن ــ بعد تقاعده من القوات المسلحة عام 2016 ــ انضم إلى مجالس إدارات عدة شركات على رأسها شركة رايثيون، أحد أكبر مصنعى السلاح الأمريكى التى يعد البنتاجون عميلها رقم واحد. ولا يقتصر الأمر على وزير الدفاع الحالى، فكل المسئولين السابقين ينضمون لمجالس شركات تصنيع السلاح الكبرى، أو كبريات صناديق الشركات الاستثمارية أو يعملون فى شركات اللوبى. وعلى سبيل المثال، يعمل حاليا وزير الدفاع السابق الجنرال جيمس ماتيس مستشارا لشركة «جنرال ديناميكيس» أحد أكبر مصنعى السلاح الأمريكى، التى يعد البنتاجون عميلها رقم واحد كذلك، مقابل راتب سنوى يبلغ 900 ألف دولار.
وعلى الرغم من افتخار الشعب الأمريكى بديموقراطية بلاده، فإنها تتمتع أيضا بنظام سياسى قد يكون الأكثر فسادا فى العالم؛ والسبب وراء عدم إدراك معظم الأمة الأمريكية لهذه الحقيقة هو أن الفساد عندهم يكتسب الصفة القانونية. فرغم أن أغلب الشعب الأمريكى يؤمن بأن حكومته «حكومة الشعب ومن الشعب ولأجل الشعب»، فإن الواقع أكثر تعقيدا من ذلك، فهى تبدو «حكومة الشعب من جماعات المصالح ولأجل مصالح هذه الجماعات»، وعلى رأس هذه الجماعات يأتى المجمع العسكرى الصناعى.