موتٌ بلا موت، حياةٌ بلا حياة

المقالات عن الداخل اللبنانيّ، كما الآتي، هي في غالبيتها كلمات عزاء مكرّرة. وسائل التواصل الاجتماعي كذلك. أحاديث الناس بين بعضها. أقاويل صنّاع القرار أيضاً وأيضاً. 

إنه الإنسداد  في عزّه؛ المجدُ له اليوم. وحين يكتب الإنسداد مجده في الواقع، يغدو كل بائع أملٍ شرّيراً بالضّرورة، وكلّ صاحب فكرٍ مجرّدٍ بعيداً عن الواقع بالضرورة.

في أيامنا الموحلة هذه، لا جدوى من إبراز الكتابات حتى إن لم تكن معطيات. كلُّ رأيٍ لا يُطاع صفريُّ النتيجة.. ولن ينتصر الواقع للفقراء والنبلاء، إن كان ثمّة نبلاء.

اليوم، ينتصرُ الوجعُ للسّلطة. ينتصر البؤس للفجّار. تنتصر الكتابةُ للأشرار.. حتى وهي تنتقدهم. ينتصر الإنسان لسفالة جنسه البشريّ حين يتكلّم. ينتصرُ المنطق للّامنطق حينما يُنطق في غير أوانه. ينتصر التأويل على المعنى الحقيقي للنص مُذ كان للنصوص أوجه ورموز. وتنتصر الفتنُ لكل التّأويلات المتعدّدة.

لكلّ تأويلٍ مقدّماته ومبرراته، وتبقى للنّصوص فتنتها الخاصّة. فلنترك النصوص إذاً. ولنعطي لدويّ الواقع حظّه من الإفصاح عن نفسه، بلا حاجة لأن يشرحه الكُتّاب ويوصّفونه ويبرزون معطياته، كلٌّ وفق وجهته وتأويله. لا بدّ من إهمال الكتابة عن الواقع حيناً لينطق الواقع بنفسه، ويهزأ من كل التبريرات. لا بد أن ينطق أصحاب القرار والمسؤولية أكثر ويبرروا أكثر وينصبوا لمنطقهم الأفخاخ.

إذا ما وقعت الواقعة، سيثبتون نظرتهم ورؤيتهم الثاقبة: “ألم نقل لكم أنّ الأمر سيؤدي إلى الاحتراب”. يخوّفون بالأمن، فيما يعيش كلّ لبناني بلا أمان. موتٌ بلا موت، وحياةٌ بلا حياة. “خيي قوصونا وريحونا”؛ يقولها أغلبنا هذه الأيام

إنه زمن الأعطاب. هو وقتها لتعبّر عن نفسها. وأيّ شيء آخر مشكوك في جدوائيته. لن تنفع المواجهة. هذا ليس استسلاماً. هذه واقعية. لا داعي للعبة المصطلحات على كلّ حال، مع أنها لعبةٌ قذرة. بمصطلح واحد بمقدورنا أن نحوّر مفهوماً إلى عكسه. ومع ذلك ليس مهماً المصطلح هنا. استسلاماً أم واقعية. غير مهم، فالحديث عن النتيجة. لن ينفع شيء. يجب أولاً أن يصطدم العطب بالعطب، والمنطق بالمنطق، والهُراء بالهراء، والتبرير بالتبرير، والتحقير بالتحقير، والبطولات الوهمية بالبطولات الوهمية. يجب أن تطفو كلّ أمراض الكينونة على السطح. يجب أن نعيش الدّوار ونتقيأ مراتٍ ومرّات أمام هذا المشهد، قبل أن ننطق عنه وبه وفيه. ولا داعي للنطق أصلاً. مجهودٌ ضائع لكونه في غير أوانه، إذ هذا ليس وقت البدايات. وُئدت كل بداية. لم يحن وقتها بعد، الطريق طويل. إنه وقت الذروات وحسب. ذروة الإيديولوجيات، ذروة الخصومات، ذروة الصراعات، ذروة التدخلات، ذروة التحضير للمعارك الانتخابية وغير الانتخابية، ذروة الإذلال (لا، الإذلال لا ذروة له ولا مقدار، الذل ذلٌّ أكان حجمه صغيراً أم كبيراً، وقعه القَتّال واحد من لحظة الوعي به)، ذروة المواعظ، ذروة الظواهر الصوتية. وهذه الذروة ستدوم طويلاً قبل الانحدار وصولاً لبدايات جديدة او لنهايات لا جديد بعدها. لن يكون أمر البدايات أو النهايات على دورنا. سنصمت كثيراً ونحكي قليلا، فالمشهد يحتاج إلى المراقبة باستهزاء قبل المراقبة بتفكّر. يحتاج المشهد إلى المراقبة والتدوين أكثر من أي شيء.

الصّمت صعبٌ بلا شكّ. لكنه ربما، بوصفه موقفاً وسط هذا الضجيج، ربما هو أوضح وأصدق. أن نصمت صمت شبه عاقلٍ زُجّ عنوةً في عصفوريّة. أن نصمت حين نخزّن في أنفسنا ردوداً على تبريراتهم السّخيفة، لأننا نعلم أن منطقهم هو المنطق السّاري اليوم، وأنهم يكدّسون الحجج والبراهين تحت مقدّمات هذا المنطق، فيبدون مقنعين.

تكثر الخطابات وتنعدم الخطط، وبين هذا وذاك، الأعداء في الخارج كثرٌ ويستثمرون في أزمة مستفحلة، وآيلة إلى مزيد من الاستفحال المعروف مساره وخواتيمه. ولأنه معروف، ولأن كل التفاصيل باتت مقيتة، لسانُ الحال بات أبلغ من لسان المقال. الصّمت أجدى

المشكلة في المقدّمات التي يُبنى عليها تسلسل الأفكار. المقدمات هي التي تبني خطاباً أو نظريةً أو مذهباً أو رأياً. الجماعات على اختلافها هنا، كلّ منها يُضمر في العقل الجمعيّ مقدّمات تؤطّر مجال التفكير. وهي لهذا يقتصر تفكيرها على مجال التبرير، والشرح والتفسير. تبرير النتائج، نتائج المقدمات، وشرحها وتفسيرها. فلتُضرب التفاسير بالتفاسير إذاً، والشروحات بالشروحات. فليتكلموا.  يجب أن يُفصِحوا أكثر. يجب أن يكون الهواء لهم. هم ملوك الهواء تماماً كما هم ملوك الواقع. المهم أنه وقتهم. فليخرجوا كلّ ما لمنطقهم من تفرّعات. فليخرجوها صادقين كانوا أم كاذبين، الصفتان سيّان اليوم في ميزان النتائج. لكن ليخرجوا كلّ شيء. منطقهم يمتلك مفاتيح سقوطهم/فوزهم، كما امتلك نفسه مفاتيح ارتفاعهم/فوزهم يوماً ما. السقوط والارتفاع لا علاقة لهما بالفوز. قد تفوز وأنت في هبوط، وقد تفوز وأنتَ في علوّ. ثمّة فرق.

تجدر بنا المراقبة حتى الثمالة. يسلب السّكْر مسألة الاستغراق في الزّمان والمكان، وهو بذلك يخفّف من غرائز الانحطاط المتمثلة بالحنين والأمل والخوف. ما من مسببات لاستدامة الانحطاط والشقاء في زمن الانسداد كتلك النزعات. ولا تستثمر السلطات السياسية والدينية بأكثر منها. تسيطر على الناس من خلال الأمل عبر التّحكم بانفعالاتهم ورغباتهم وآرائهم، وتستثمر بالحنين الحزين لأجل شل قدرة الناس على الإبداع والفرح، وتوجّه أفكارهم انطلاقاً من زرع مقدّمات الخوف وغرسها.

إقرأ على موقع 180  ماذا لو توقفت الدولة اللبنانية عن تسديد فوائد الدين العام؟

والناس اليوم صيد سهل. صنعوا منها صيداً سهلاً، رغم كلّ واقع البؤس الذي أغرقوها فيه. وصنعوا منها ذئاباً ضارية، ثمّ علّموا الذئاب نفسها مهارة سبّ الذئاب الضّارية. لقد أمّنوا للناس، لخبيث النفس وطيّبها، أمّنوا لها كلّ عدّة حُسْن التخلُّص، وحضّروها للحظة الحسم إذا ما انعدمت فرص الخلاص. لحظة الاحتراب، حيث ينعدم الأمن. وإذا ما وقعت الواقعة، سيثبتون نظرتهم ورؤيتهم الثاقبة: “ألم نقل لكم أنّ الأمر سيؤدي إلى الاحتراب”. يخوّفون بالأمن، فيما يعيش كلّ لبناني بلا أمان. موتٌ بلا موت، وحياةٌ بلا حياة. “خيي قوصونا وريحونا”؛ يقولها أغلبنا هذه الأيام.

تكثر الخطابات وتنعدم الخطط، وبين هذا وذاك، الأعداء في الخارج كثرٌ ويستثمرون في أزمة مستفحلة، وآيلة إلى مزيد من الاستفحال المعروف مساره وخواتيمه. ولأنه معروف، ولأن كل التفاصيل باتت مقيتة، لسانُ الحال بات أبلغ من لسان المقال. الصّمت أجدى.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  جوزيف سماحة في مقابلة غير منشورة: "السفير" وجرأة النقد (3)