السؤال هو من أين أتت تلك الفكرة أنّ العالم ينتهي من دون خليفة؟ الجواب ليس بالسهل، وسأستعرض في ثلاثة مقالات بعض محطّات تاريخها والنقاش حول دورها السياسي والديني منذ العصر الاسلامي الأول إلى الآن. في هذا المقال سأركّز على انطلاقتها والنظرة اليها في التراث السنّي.
وفقاً لسردية التاريخ الاسلامي الشائعة، استُخدم لقب “الخليفة” بعد وفاة النبي محمّد، بدءاً بأبي بكر ومن عرفوا بالخلفاء الراشدين. لكن ليس لدينا أي إثبات على صحّة ذلك من القرن الاسلامي الأوّل. على العكس، الاثباتات التي في حوزتنا من تلك الفترة تشير إلى أنّ أبا بكر وعمر وعثمان وعلي استخدموا لقب “أمير المؤمنين”، وأنّ لقب “خليفة” ظهر مع الأمويين الذين استخدموه بمعني “خليفة الله”. أمّا عبارة “خليفة رسول الله”، فظهرت بعد ذلك وطبّقها العلماء رجعياً على عصر “الخلفاء الراشدين”. نجد دلائل على ذلك في النقود والنقوش والشعر. على سبيل المثال، هناك درهم من فترة عبد الملك بن مروان (حكم 685-705) صنع في سنة 75 للهجرة (694 م أو 695 م) ونقرأ فيه عبارة “أمير المؤمنين خلّفهُ الله”، أي أنّ الله جعله خليفة. (الصورة أدناه لدرهم عبد الملك)
هناك ايضاً كثير من الشعر، مثل قول الفرزدق لسليمان بن عبد الملك (حكم 715-717):
أيعجب الناس إن أضحكت سيدهم/ خليفة الله يستسقى به المطر.
يمكن القول أنّ عصر الخليفة العباسي المأمون (حكم 813-833) كان نقطة تحول في مفهوم الخلافة في الاسلام
من دون شك، كان هدف مفهوم الخليفة في هذه الفترة سياسي بإمتياز: شرعنة حكم الأمويين وإشاعة فكرة أنّ الله اختارهم لإدارة أمور المسلمين وترسيخ أسس الاسلام وأنّ ما يفعلوه هو مشيئة الله، بما في ذلك قدرتهم على التدخّل بأمور الطبيعة وجعل المطر ينهمر. وساعدهم في ذلك حاشية من الفقهاء كالزهري والوزراء كعبد الحميد الكاتب والشعراء.
(وفضوليّاً، يبدو أنّ عبدالله بن الزبير (حكم 683-692) استخدم عبارة “خليفة الرحمن” في الفترة التي ثار فيها على الأمويين، وهو ما يشير إلى أنّه أراد الطعن بمزاعمهم والقول أنّه هو من أراده الله لحكم المسلمين).
المأمون: نقطة تحول
يمكن القول أنّ عصر الخليفة العباسي المأمون (حكم 813-833) كان نقطة تحول في مفهوم الخلافة في الاسلام. فهو عبّر عن رأيه في المؤسسة في كتابه إلى نائبه في بغداد وصاحب شرطتها إسحاق بن إبراهيم، حيث يقول له:
أمّا بعد، فإنّ حقّ الله على أئمّة المسلمين وخلفائهم الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم، ومواريث النبوّة التي أورثهم، وأثْرِ العلم الذي استودعهم.
في رأي المأمون، الخليفة هو وارث النبوّة وحافظ الاسلام والمسلمين، همّه الاساس هو حماية الدين ونشره. لكن إصرار المأمون على فرض نفسه كمرجعية مطلقة في الأمور السياسية والدينية سرّع في تآكل السلطة الدينية للخليفة. من أهم الامثلة على ذلك انشائه لما يعرف بـ”المِحنة”، أي محنة خلق القرآن، وهي المحكمة الدينية التي أمر بها وقام من خلالها بحبس وتعذيب كثير من علماء الحديث حتّى يُقرّوا بسلطته ويوافقوه على أنّ القرآن (ككلام الله) هو مخلوق وغير أزلي، ومنفصل عن قدسيّة الله. فكان نتيجة ذلك ظهور تيّار رافض، معظمه من علماء الحديث، طالب بأن تكون المرجعية الدينية في الاسلام بيد علماء الدين لا الخلفاء؛ وكان ذلك من العوامل الرئيسية التي أدّت إلى نشوء المذاهب الفقهية في أواسط القرن التاسع.
إستبدال الخليفة بالسلطان
في القرن العاشر، اضمحل النفوذ السياسي للخليفة العباسي، إذ مع ظهور الدولة البويهية وبعدها دولة السلاجقة، أصبح الخلفاء العباسيين شبه دمى يلعب بهم الوزراء والسلاطين كما أرادوا. وأدى هذا الأمر إلى انتشار قناعة عند كثير من العلماء أنه لا يجب أن يكون للخلافة دور تنفيذي، وأنّ أمور الدولة والسياسة يجب أن تتحوّل إلى الحاكم الفعلي. مع ذلك، استمر العلماء في الحديث عن مفهوم الخلافة من منطلق نظري. مثلاُ، يقول الماوردي (ت. 1058) في كتابه “الأحكام السلطانية”:
“فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيما خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة؛ ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلا عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة حتى استثبتت بها الأمور العامة، وصدرت عنها الولايات الخاصة، فلزم تقديم حكمها على كل حكم سلطاني، ووجب ذكر ما اختص بنظرها على كل نظر ديني”.
الكلام عن اسبقيّة سلطة الخليفة السياسية والدينية هو كلام نظري ورمزي. فالماوردي عندما كتب “الأحكام السلطانيّة” كان هدفه الاساسي اثبات أن الاسلام يسمح بأن يفوّض الخليفة كامل صلاحياته لمن يقوم بذلك نيابة عنه. يقول الماوردي في وزارة التفويض:
فهو أن يستوزر الإمام من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده، وليس يمتنع جواز هذه الوزارة، قال الله تعالى حكاية عن نبيه موسى، عليه الصلاة والسلام: واجعل لي وزيراً من أهلي، هارون أخي، اشدد به أزري، وأشركه في أمري (سورة طه 29-32). فإذا جاز ذلك في النبوة كان في الإمامة أجوز، ولأن ما وكّل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا باستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور من تفرده بها؛ ويعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب.
يؤكّد الجويني أنّ ضرورة المحافظة على الإسلام تتطلب أنّ يقوم سلطان له قدرة على جمع المسلمين ورعاية مصالحهم بالاستيلاء على الحكم ويصبح بذلك إماماً للمسلمين وإن لم يكن له لقب الخليفة
إذا أباح الله لموسى أن يستنيب أخاه هارون في موضوع النبوّة، فالاستنابة مشروعة قطعاً في موضوع الخلافة التي هي أقلّ بدرجات من النبوة. هذا دليل على قناعة الفقهاء في تلك الفترة أنّ العباسيين أصبحوا غير مؤهّلين للخلافة وأنّ عليهم استنابة من له القدرة على ذلك.
غير أنّ الفقهاء السنّة لم يكونوا متحمّسين لشرعنة البويهيين. لكن مع قيام دولة السلاجقة في أواسط القرن الحادي عشر، نجدهم يتسابقون لإعطاء تفسير شرعي يسمح بنقل السلطة السياسية من الخليفة إلى السلطان السلجوقي السنّي، حتّى وإن كان بالعنف. يقول الإمام الجويني (ت. 1085) في كتابه “غياث الأمَم والتياث الظُلَم”:
إن اتفق رجل مطاع ذو أتباع وأشياع، ويقوم محتسبا، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وانتصب بكفاية المسلمين ما دفعوا إليه، فليمض في ذلك قدما. والله نصيره على الشرط المقدم في رعاية المصالح، والنظر في المناجح.
بكلام آخر، يؤكّد الجويني أنّ ضرورة المحافظة على الإسلام تتطلب أنّ يقوم سلطان له قدرة على جمع المسلمين ورعاية مصالحهم بالاستيلاء على الحكم ويصبح بذلك إماماً للمسلمين وإن لم يكن له لقب الخليفة. بذلك، حلّ الجويني معضلة عظيمة واجهها الفقهاء السنّة في تلك الفترة: كيف يمكن تفسير بقاء الاسلام والشريعة في ظل عدم وجود خلفاء كفوئين يمكنهم إمامة المسلمين وفقاً لمتطلّبات المؤسسة (من خُلق وخَلق وعلم ونسب). فكان الحل أن نقلوا جوهر الخلافة إلى السلطان، وأبقوا على الخلافة كمنصب للحفاظ على بعض اللياقات ومتطلبات الفكر النظري. فأصبح الخليفة رمز الدولة فقط، والسلطان الحاكم الفعلي لها.
حتّى في أمور الدين، ظلّ الفقهاء على رفضهم أن يكون للخليفة الأمرة الفعلية في شؤون الشريعة. فالجويني مثلاً يقول إن اختلاف الفقهاء:
هو منة من الله تعالى ونعمة. وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: “اختلاف أمتي رحمة”. فلا ينبغي أن يتعرض الإمام لفقهاء الإسلام فيما يتنازعون فيه من تفاصيل الأحكام، بل يقر كل إمام ومتبعيه على مذهبهم، ولا يصدهم عن مسلكهم ومطلبهم.
بمعنى آخر، لا يحق للخليفة التدخلّ في الأمور التنفيذية للشريعة.
الخلافة ومصالح الحكام
هناك عامل مهمّ يجب ذكره هنا، وهو أنّ كثير من هؤلاء الفقهاء كانوا في خدمة السلاجقة. لذلك، ما قالوه وروّجوا له مزج عقيدتهم الدينيّة بمنفعتهم الشخصية. كذلك، فتح هذا الأمر شهية حكّام آخرين في أماكن أخرى ظنّوا أنّهم جديرون بمنصب السلطان، فتفشّى حكم السلاطين في العالم الاسلامي (وهي مؤسسة لم تكن موجودة قبل القرن العاشر).
خلاصة الأمر، أن تاريخ مؤسسة الخلافة في الاسلام والفكر الاسلامي مرتبط بشكل عضوي ومباشر بمصالح الحكام. استنبطها الامويون واستخدمها العباسيون من أجل إيجاد شرعية لهم. عندما ضعف الخلفاء، استبدلها الحكام الفعليين والفقهاء بمصطلح السلطنة. في كلّ هذه الحالات، كان هناك تضخيم لدور مؤسسة الخلافة في الحفاظ على الاسلام وأصبح من المستحيل إيجاد شخص يمكنه أن يجمع متطلّباتها. لكنّهم أبقوا عليها كرمز. والرمز يصبح في حالات معينة أهمّ من الحقيقة. من هنا الاعتقاد أنّ العالم لا يمكنه أن يوجد من دون خليفة.
(*) في الحلقتين المقبلتين: الخلافة في التراث الشيعي الاثني عشري؛ الخلافة في العصر الحديث.