

لسنا بحاجة إلى أن نكون خبراء في الجغرافيا السياسية لنفهم السياق. فجون بولتون، مستشار الأمن القومي السابق لترامب، أفصح في مذكراته بأن ترامب لم يكن مستعدًا لخوض مواجهة مباشرة مع الصين من أجل تايوان، لأنها – من وجهة نظره – لا تستحق المخاطرة؛ وهذا يكشف التباين العميق بين التصريحات العلنية والمداولات الفعلية داخل أروقة القرار الأميركي.
وفي السياق ذاته، كان وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كيسنجر، قد لخّص في إحدى نقاشاته حول الحرب الباردة موقف واشنطن بقوله: “لن تقامر أميركا بنيويورك من أجل برلين”، في إشارة إلى أن الولايات المتحدة لم تكن لتخوض حربًا نووية مع الاتحاد السوفيتي حتى لو اجتاح أوروبا الغربية. الفكرة هنا واضحة: أميركا تتفادى الحروب الوجودية إلا إذا مُسّ أمنها القومي المباشر.
الصين وروسيا ليستا إيران. وأميركا تدرك تمامًا أن قصف عاصمة كبرى مثل بكين أو موسكو يُعدّ عملاً صريحًا من أعمال الحرب. التاريخ يعيد نفسه: لم تدخل الولايات المتحدة الحرب ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية إلا بعد أن استُهدفت بشكل مباشر في بيرل هاربور. ما يعني أن الحرب، بالنسبة لأميركا، لا تُخاض إلا حين يتهدد كيانها بشكل واضح.
هل يمكن لأميركا أن تدخل حربًا مزدوجة ضد كل من روسيا والصين؟ الإجابة الواقعية هي: لا. روسيا اليوم تنتج أسلحة أكثر مما تنتجه كل دول الناتو مجتمعة. أما الصين، فهي القوة الصناعية الأولى عالميًا دون منازع. وأميركا، على الرغم من قوتها العسكرية، لا تملك القدرة الإنتاجية اللازمة لخوض حرب طويلة الأمد. حتى ترامب نفسه عبّر مؤخرًا عن قلقه من بطء مقاولي الدفاع في تصنيع الأسلحة
الجغرافيا أيضًا تقف في صف أميركا؛ فهي محمية بمحيطين شاسعين وحدود مع دول ضعيفة عسكريًا، ما يجعل خطر الغزو التقليدي شبه معدوم. لكن التهديد الحقيقي لا يكمن في ترابها أو سواحلها، بل في شيء أقل مادية وأكثر تأثيرًا: الدولار الأميركي.
الدولار هو شريان الحياة الاقتصادي لأميركا، وعصب هيمنتها العالمية. ليس مجرد عملة، بل هو العمود الفقري للنظام المالي الدولي، وهو ما يمنح أميركا نفوذًا غير مسبوق على حركة التجارة العالمية. وأي تهديد لهذا الامتياز الاستثنائي يُعد تهديدًا وجوديًا من نوع آخر.
في هذا السياق، تأتي محاولات ترامب الفاشلة لتحجيم دور الدولار عبر سياسات حمائية، مثل فرض الرسوم الجمركية، أملاً في استعادة الصناعة الأميركية. لكنه اصطدم بقوة وول ستريت، وتراجع عن مساعيه، ليعود إلى السياسات التي تعشقها الأسواق: عجز مالي متزايد، طباعة النقود، وضخ السيولة.
لكن ما قد لا يفهمه كثيرون هو أن المساس بالدولار سيكون – بلا مبالغة – خطًا أحمرَ نهائيًا. وإذا حاولت قوى دولية كبرى إخراج الدولار من المعادلة العالمية، فإن الرد الأميركي قد لا يظل دبلوماسيًا.
هنا تأتي خطورة الرهان الروسي-الصيني، الذي بات علنيًا في سعيه إلى تقليص الاعتماد على الدولار في التجارة العالمية، وتأسيس نظام نقدي بديل مدعوم بالذهب. وإذا استمر هذا التوجه، فليس من المستبعد أن يكون الشرارة الفعلية لما يمكن تسميتها الحرب النقدية العالمية، والتي قد تتطور إلى حد المواجهة الشاملة بين القوى الكبرى.
المفارقة أن القوة العسكرية الأميركية اليوم ليست في أفضل حالاتها. تشير تقارير رسمية إلى أن واشنطن استنزفت ما بين 15 إلى 20% من منظومة صواريخها الدفاعية من طراز “ثاد” (THAAD) فقط في مواجهة محدودة بين إسرائيل وإيران. وحتى في البحر الأحمر، تسبب الحوثيون في تعطيل حاملات الطائرات الأميركية، وفقدان عدد من المقاتلات، دون خوض حرب نظامية شاملة.
فهل يمكن لأميركا أن تدخل حربًا مزدوجة ضد كل من روسيا والصين؟
الإجابة الواقعية هي: لا. روسيا اليوم تنتج أسلحة أكثر مما تنتجه كل دول الناتو مجتمعة. أما الصين، فهي القوة الصناعية الأولى عالميًا دون منازع. وأميركا، على الرغم من قوتها العسكرية، لا تملك القدرة الإنتاجية اللازمة لخوض حرب طويلة الأمد. حتى ترامب نفسه عبّر مؤخرًا عن قلقه من بطء مقاولي الدفاع في تصنيع الأسلحة.
الواقع يقول إن “القوة الصناعية “لم تخسر يومًا أمام “القوة المالية” خلال الخمسمائة عام الماضية. وإذا كانت الصين هي مصنع العالم اليوم، فإن أميركا تصدّر شيئًا واحدًا: الدولار.
وفي معركة لا تُخاض على الأرض بل تُدار من خلال الأنظمة النقدية وأسواق المال، قد يتبين أن السلاح الأكثر فتكًا ليس الصاروخ ولا الطائرة، بل “العملة“.