

“يُعدُّ الهجوم الإسرائيلي على إيران في 13 حزيران/يونيو، والذي صُمّم لضرب برنامج طهران العسكري والنووي، من أسوأ النكسات التي شهدتها الجمهورية الإسلامية على الإطلاق.
ففي أقل من أسبوعين، نجح الجيش الإسرائيلي باغتيال العشرات من كبار القادة والعلماء النوويين الإيرانيين، كما دمّر العديد من أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية وألحق أضرارًا بمنشآتها النووية.
وقصفت إسرائيل البنية التحتية للطاقة الإيرانية، القوات العسكرية ومواقع إنتاج الصواريخ المختلفة. كانت الضربات دقيقة، مما يشير إلى أنّ الاستخبارات الإسرائيلية قد اخترقت أعلى مستويات القوات المسلّحة والحكومة الإيرانية.
ومع اقتراب نهاية الهجمات، انضمت الولايات المتحدة إليها. ونتيجةً لذلك، أصبح الجيش الإيراني الآن أضعف مما كان عليه قبل شهر واحد فقط.
ولكن بدلًا من الانهيار تحت وطأة الصدمة، يبدو أنّ الجمهورية الإسلامية قد استعادت حيويّتها. وقد أحدثت الضربات حالة من الالتفاف حول الراية، حيث أدانها الإيرانيون واحتفلوا برد الحكومة. وقد نعى النظام الإيراني مسؤوليه الراحلين، لكنه سرعان ما حلّ بدلاء عنهم. وقد أدت هذه العمليات إلى جعل الأمة الإيرانية أكثر تماسكًا، وعزّزت قوة الحرس الثوري الإسلامي.
من غير المرجّح أن يصبح المجتمع الإيراني أكثر تشدّدًا في التوجه الإسلامي ردًا على الضربات. وللحفاظ على الاستقرار الداخلي، قد تتسامح الحكومة مع مزيد من الحريات الاجتماعية. لكن من المرجح أن يصبح النظام أكثر قمعًا، ويعتقل كل من يراه خائنًا. والأهم من ذلك، قد يكون الإيرانيون أكثر استعدادًا لقبول الدولة كما هي. يمكن للبلاد الآن أن تمتلك عقدًا اجتماعيًا جديدًا، عقدًا يُعطي الأولوية للأمن القومي فوق كل اعتبار.
مع ذلك، لا تزال استراتيجية الأمن القومي الإيرانية من دون تغيير يُذكر. قد تكون الجمهورية الإسلامية أضعف في بعض النواحي، لكنّ قادتها فخورون بصمودهم في وجه الهجمات الإسرائيلية والأميركية. إنهم يرون في الأضرار الجسيمة التي ألحقوها بمدن إسرائيل إنجازًا كبيرًا، ولا يزالون يعتقدون بأنّ إظهار العزيمة في مواجهة العدوان هو السبيل الوحيد لردع خصومهم.
هكذا، سيشرع القادة الإيرانيون في إعادة بناء شبكة وكلائهم: ما يُسمى بمحور المقاومة. ستتراجع ثقتهم بالدبلوماسية أكثر من ذي قبل. وبدلًا من ذلك، فإنهم سيضعون الأساس لحرب استنزاف طويلة الأمد مع إسرائيل ــ واحتمال اندلاع حرب نووية.
توحّدوا وقاتلوا
في الأسابيع التي سبقت هجوم إسرائيل على إيران، بدا وكأنّ طهران وواشنطن قد تتوصّلان إلى حل سلمي لنزاعهما بشأن البرنامج النووي الإيراني. ولأول مرة منذ انسحابها من خطة العمل الشاملة المشتركة عام 2018، وهي الاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران مع الولايات المتحدة ودول كبرى أخرى قبل ذلك بثلاث سنوات، أشار فريق الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى استعداده لقبول ترتيب يسمح لإيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة تصل إلى 3.67% – وهو المستوى الذي وافقت عليه الولايات المتحدة بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة – بدلًا من عدم التخصيب على الإطلاق. من جانبها، أبدت طهران انفتاحها مجدّدًا للتحدث مباشرة مع المسؤولين الأميركيين بدلًا من اللجوء إلى وسطاء. ويعتقد بعض المحللين بأنّ اتفاقًا نوويًا جديدًا قد يكون وشيكًا.
لكن مع تقدّم المفاوضات، بدأت إدارة ترامب بالتراجع عن مرونتها الأولية، متذبذبة بين المطالبة بعدم التخصيب تمامًا والتفكيك الكامل للبنية التحتية النووية الإيرانية. في غضون ذلك، عملت إسرائيل على اضعاف موقف طهران بشكل مطّرد، من خلال تفكيك حزب الله (أقوى شريك لطهران)، تمزيق حماس وتدمير بعض الدفاعات الجوية الإيرانية.
ازدادت الجمهورية الإسلامية ضعفًا في كانون الأول/ديسمبر، عندما أطاح المتمردون بالرئيس السوري بشار الأسد، وهو حليف إيراني مخلص آخر. في النهاية، ساد شعور بالاستسلام في طهران: أصبح العديد من المسؤولين والمحلّلين على حد سواء يعتقدون بأنه – باتفاق أو بدونه – ستهاجم إسرائيل أو الولايات المتحدة أو كلا الدولتين.
مع ذلك، واصلت طهران تعاملها بحذر. كانت تعلم بأنّ شعبها يغلي بعد عقود من القمع، وبأنها تخاطر بمزيد من الغضب الداخلي إذا أثارت مواجهة مباشرة مع واشنطن. ولذلك، ظل المسؤولون الإيرانيون على طاولة المفاوضات، على أمل تجنّب الهجوم، في حين يحاولون تعزيز دعمهم المحلي ــ على سبيل المثال، من خلال تعليق تطبيق القانون غير الشعبي الذي يفرض على النساء تغطية شعرهنّ بالكامل في الأماكن العامة، وتخفيف القيود الأخرى المفروضة على حرية التعبير.
أدّت الهجمات الإسرائيلية والأميركية إلى اندلاع موجة من القومية الإيرانية. ليس من الواضح إلى أي مدى ساعدت هذه الخطوات الحكومة عند سقوط القنابل الإسرائيلية الأولى. في البداية، افترض العديد من الإيرانيين العاديين أنّ الصراع سيكون مواجهة قصيرة بين حكومتين من غير المرجح أن تؤثر عليهم. ولكن مع تكثيف الضربات، واستهدافها للبنية التحتية وقتلها للمواطنين العاديين، بدأ العديد من الإيرانيين يستنتجون أنّ الهجمات لم تكن مجرّد حرب ضد النظام، بل حربًا ضد الأمة نفسها.
تضخّمت هذه المشاعر بعد أن حثّ ترامب والمسؤولون الإسرائيليون سكّان طهران على إخلاء منازلهم. قالت إحدى سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”: “أنا لست من مؤيّدي الجمهورية الإسلامية، لكن حان الوقت الآن لإظهار التضامن مع إيران. يقول ترامب ونتنياهو “أخلوا”، كما لو كانوا يهتمون بصحّتنا. كيف يمكن لمدينة يبلغ عدد سكانها عشرة ملايين نسمة أن تُخلى؟ أنا وزوجي لن نمهد الطريق لهم. دعهم يقتلونا”.
بدلًا من إثارة غضب شعبي على الدولة الإيرانية، أدّت الهجمات إلى اندلاع موجة من المشاعر القومية. وبينما صدّت الجمهورية الإسلامية هجوم إسرائيل وردّت بصواريخ باليستية من جانبها، لاقى رد النظام ترحيبًا حارًا من الكُتّاب والفنانين والمغنين الإيرانيين، وكثير منهم عادةً ما يكونون غير سياسيين أو معارضين للحكومة.
شبّه المعلّقون الإيرانيون من مختلف الأطياف السياسية الهجوم الإسرائيلي بغزو ألمانيا النازية للاتحاد السوفيتي عام 1941، واصفين الصراع بأنه حرب وطنية إيرانية: نضال وطني يتجاوز السياسة. حتى أنّ بعض المعارضين القدامى والسجناء السياسيين السابقين انضمّوا إلى هذا الحشد.
على سبيل المثال، أدان مئات النشطاء السياسيين ونشطاء الحقوق المدنية – وكثير منهم سُجن سابقًا – الهجمات الإسرائيلية في بيان مشترك.
وجاء في البيان: “دفاعًا عن وحدة أراضي وطننا، استقلاله وقدراته الدفاعية الوطنية، نقف متحدين وحازمين”. وقد حرصت هذه الجهات الفاعلة على الحفاظ على مسافة من النظام، لكنّ تأكيدها على التضامن تماشى مع رسالة الحكومة. ولقد ساهمت الضربات الإسرائيلية في تخفيف بعض الضغوط الداخلية على الجمهورية الإسلامية.
خلطة قومية اسلامية
من المرجح أن تستغل الحكومة الإيرانية هذه الاستراحة لتسريع وتيرة تسليحها استعدادًا لصراع طويل الأمد. ونظرًا لتراجع الضغوط الداخلية، ستوجه مواردها إلى الحرس الثوري الإيراني وغيره من القوّات المسلّحة والأجهزة الأمنية، لا سيما وأنّ الكثيرين في طهران يتوقّعون انهيار وقف إطلاق النار الهش في أية لحظة.
ستواجه الحكومة الإيرانية صعوبة في إثبات قدرتها على التعامل مع حرب أخرى، لا سيما بالنظر إلى مدى اختراق عملاء المخابرات الإسرائيلية صفوفها. واتهم النقّاد النظام بتغليب الولاء الأيديولوجي على الكفاءة، مما سمح لأفراد يرددون شعارات متشدّدة بالصعود في المناصب، مع إخفاء ولاءاتهم الحقيقية. ويشير آخرون إلى المفارقة المتمثّلة بأنه بينما كانت الحكومة تركّز على تطبيق قانون الحجاب وقمع المعارضين السياسيين بحجة مكافحة التخريب الخارجي، كان خصومها الفعليون يتسلّلون بهدوء إلى أكثر مؤسّساتها حساسية.
وقد أثارت التداعيات الناجمة عن ذلك دعوات للتحقيق والمساءلة، بل وحتى استقالة كبار المسؤولين المتّهمين بالإشراف على هذا الفشل الاستخباراتي الكارثي. يبقى أن نرى ما إذا كان أي مسؤول كبير سيواجه عواقب فعلية. لكن يبدو أنّ هناك رد فعل واحد مؤكد: من المرجح أن تُطلق طهران حملات تطهير داخلية، وتُوسّع نطاق أجهزتها الرقابية، وتعتمد على المواطنين العاديين للمشاركة في مراقبة الأنشطة المشبوهة والإبلاغ عنها.
تنفّد إيران عمليّات إعدامٍ ميدانية للمتهمين بالتعاون مع إسرائيل. ومع ذلك، يحاول قادة البلاد الحفاظ على وحدة مجتمعها. وقد بدأ الخطباء الموالون للحكومة في جميع أنحاء البلاد، فجأةً بدمج الأغاني الوطنية الأيقونية التي تعود إلى ما قبل الثورة في الطقوس الدينية الشيعية – وهو مزيجٌ من القومية والإسلامية تجنّبه النظام تاريخيًا، ولكنه يبدو الآن حريصًا على تبنّيه.
وبالمثل، تستحضر وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة ومسؤولو البلديات الآن الأساطير الفارسية التي سبقت الإسلام في رسائلهم، ويربطون بين الشخصيات الأسطورية وقادة الحرس الثوري الإيراني الذين قُتلوا.
وقد أثار هذا المزيج ردود فعل متباينة، حيث جادل العديد من الإيرانيين المتشككين بأنّ هذه الإيماءات مجرّد انتهازية. ومع ذلك، انضم مواطنون آخرون إلى هذا التيار، بعد أن خلصوا إلى ضرورة مواجهة هذه التهديدات الخارجية بالحكومة التي يملكونها، وليس تلك التي يريدونها.
يعتقد بعض الإيرانيين بأنه لضمان استمرار التماسك الاجتماعي الحالي في المستقبل، سيتّخذ كبار المسؤولين خطوات نحو الاعتدال. فالحكومة، في نهاية المطاف، أقرّت بدعم الإيرانيين الذين عارضوا النظام تاريخيًا، وتعهّدت – ضمنيًا – بمعاملة أفضل للشعب، معترفةً بأخطاء الماضي. قد تُفرج عن السجناء السياسيين وتُصلح العلاقات مع الشخصيّات المعتدلة المهمّشة، بمن فيهم الرئيسان السابقان محمد خاتمي وحسن روحاني، لإبراز الوحدة الوطنية. كما قد تُواصل السماح للنساء بالخروج من دون حجاب، وتسمح بحرية أكبر في التعبير. لقد همّشت بالفعل بعض المتشددين، الذين شجّعوا إيران على مهاجمة إسرائيل قبل 13 حزيران/يونيو. (وقد جادل بعض هذه الشخصيات والمحلّلين بأنّ البلاد في حالة حرب بالفعل، وبالتالي فهي بحاجة إلى توجيه ضربة، مع أنّ القيام بذلك قد يُفاقم انزعاج شعب مُنقسم أصلًا).
لكن ليس من الواضح ما إذا كان وعد الحكومة بالاعتدال يدلّ على انفتاح حقيقي. يعتقد كثير من الإيرانيين بأنّ الحكومة ستُعزز موقفها المتشدّد، معتبرين أنّ المصالحة محفوفة بالمخاطر في زمن الحرب، ومتوقعين أن تُمكّنهم موجة التضامن الوطني من ممارسة المزيد من القمع مع الحد من ردود الفعل السلبية.
على سبيل المثال، تُعدِمُ الدولة من تتهمهم بالتعاون مع إسرائيل من دون محاكمة. وقد أقامت نقاط تفتيش في المدن الكبرى لاعتقال المشتبه بهم، كما فعلت خلال ثمانينيات القرن الماضي – وهي آخر مرة تعرضت فيها إيران لهجمات مماثلة (من العراق). كما يُمكن للنظام أن يُوفّق بين خيارات عدة، فيُحرّر بعض الجوانب ويُشدّد القيود في جوانب أخرى. فالإيرانيون، في نهاية المطاف، مُتردّدون بشأن رد فعل الدولة.
وفي هذا الإطار، قال أحد سكان طهران لصحيفة “فاينانشال تايمز”، مُشيرًا إلى مُتطوّعي الحرس الثوري الإيراني: “إنه لأمر مُقلق، ولكنه مُطمئن إلى حد ما أن أراهم بالقرب من منزلي. لا يُمكنني أبدًا أن أتخيّل رؤية الباسيج والشعور بالسعادة”.
واصلوا المسار
يركّز المسؤولون الإسرائيليون والأميركيون على ما إذا كانت طهران تُشكّل تهديدًا لهم أكثر من كونها تُشكل تهديدًا لشعبها. وبعد عام ونصف من الصراع المباشر وغير المباشر، يعتقد الكثير منهم بأنّ النظام لم يعد يُمثّل تهديدًا يُذكر كما كان من قبل. ووفقًا لهؤلاء المُعلّقين، فإنّ استراتيجية إيران العدوانية في الشرق الأوسط قد باءت بالفشل، نظرًا لانهيار حزب الله في لبنان، بشار الأسد في سوريا وحماس في غزة، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بالجيش الإيراني نفسه.
مع ذلك، يرى الحرس الثوري الإيراني الوضع بشكل مختلف. يعتقد قادته بأنّ استراتيجية الدفاع المتقدم للبلاد – محاربة الخصوم من خلال شن حرب غير متكافئة بالقرب من حدودهم أو داخلها بدلًا من الأراضي الإيرانية – قد أثبتت جدواها. نجح هذا النهج في ردع إسرائيل والولايات المتحدة عن شن هجمات لسنوات، وبالتالي منح طهران وقتًا حاسمًا لبناء البنية التحتية الصناعية والخبرة التقنية والمرونة المؤسسية، مما سمح لها بإعادة بناء برامجها النووية والصاروخية الباليستية بسرعة، حتى بعد القصف المُدمّر.
لطالما جادل قادة الحرس الثوري الإيراني لسنوات بضرورة نقل المعركة إلى الخارج لحماية الأمة، زاعمين، على سبيل المثال، أنّ الفشل في دعم الأسد في دمشق سيؤدّي إلى ضربات في طهران. وقد ثبُتت صحة هذا الزعم إلى حد ما. فقد صمّمت إيران وضعها الإقليمي لإنشاء طبقات دفاعية متمثّلة في شركائها المختلفين، معتقدةً بأنّ هذه الشبكة ستُجبر خصومها على اختراق جبهات متعددة قبل ضرب الوطن. وهذا، بالطبع، ما فعلته إسرائيل بالضبط. بعبارة أخرى، فإنّ الطريقة التي سارت بها الحرب تسمح للحرس الثوري الإيراني وحلفائه المتشددين في النظام بتأكيد أنّ استراتيجيتهم نجحت كما هو مقصود. ومن السهل دحض هذه الحجة: فالدفاع المتعدد الطبقات أخّر – لكنه لم يمنع – الهجمات على الأراضي الإيرانية. ولكن بالنسبة لطهران، فإنّ هذا التأخير هو جوهر المسألة: فقد منح الحكومة وقتًا للاستعداد، والتعلّم من تكتيكات إسرائيل، وتصوير الحرب على أنها صراع وطني وجودي.
لذلك، من غير المرجّح أن تتصرّف إيران بشكل مختلف كثيرًا بعد هذا الهجوم، مع أنها ستُجري بعض التعديلات لتعكس الحقائق التي برزت خلال العام والنصف الماضيين. قد يسعى النظام إلى إعادة بناء محور المقاومة من خلال إعادة بناء حزب الله كقوة صغيرة وأكثر مرونة، أقرب إلى شكله الأصلي بدلًا من شبه الجيش الذي أصبح عليه. (وسيظل النظام يُجهّز الجماعة بقدرات صاروخية متطوّرة).
في سوريا، ستحاول طهران استغلال فراغ السلطة الحالي بتمكين الجماعات المسلّحة القاعدية. لن تكون أيٌّ من هاتين الخطوتين سهلة: فحزب الله يتعرّض لضغوط من المسؤولين اللبنانيين، ولا يزال يعاني من القصف الإسرائيلي، والحكومة السورية الجديدة بزعامة أحمد الشرع، التي تُعزز سيطرتها على أراضيها، مُعادية لإيران، وقد بدأت بالتقرّب من إسرائيل.
مع ذلك، ترى طهران فرصًا. فقد أججت الحرب في غزة غضبًا واسع النطاق تجاه إسرائيل في جميع أنحاء المنطقة، مما دفع بالمطالبة من القاعدة إلى القمة بتجديد المقاومة ضد عدو الجمهورية الإسلامية. في الواقع، أكسب بقاء إيران وضرباتها الصاروخية على الأراضي الإسرائيلية إعجاب العديد من الشعوب العربية.
من المرجح أن تواصل طهران سعيها وراء الغموض النووي. في غضون ذلك، تُبدي طهران تشكّكًا أكبر في الدبلوماسية من أي وقت مضى. لقد أضعفت صدمة الهجمات – التي شملت اغتيال كبار قادة الحرس الثوري الإيراني ومحاولة فاشلة لاغتيال علي شمخاني، المفاوض النووي الرئيسي – أية مصداقية كانت تتمتّع بها الضمانات الأميركية.
في الماضي، لم تكن إيران تثق بواشنطن، لكنها رأت في المحادثات سبيلًا محتملًا لتخفيف العقوبات وخفض التصعيد. أما الآن، فلن يفترض المسؤولون الإيرانيون أنّ الولايات المتحدة ستنتهك أي اتفاق فحسب، بل سيفترضون أيضًا أن المفاوضات غطاء للإكراه أو العمل العسكري، نظرًا لأنّ الهجوم الإسرائيلي وقع قبل يومين فقط من المحادثات المقرّرة بين طهران وواشنطن. ومع ذلك، من المرجّح أن تظل إيران منخرطة، جامعةً أقصى درجات المقاومة للنظام الإقليمي وأقصى درجات الدبلوماسية، من أجل إيصال خطوطها الحمراء وكشف ما تعتبره سوء نية الغرب. وبذلك، يمكن لطهران تبرير سلوكها أمام الجمهورين الداخلي والخارجي على حد سواء، والضغط على إسرائيل والولايات المتحدة.
مع ذلك، لا يبدو أنّ إيران تتعجّل في امتلاك القنبلة. بتجاوزها العتبة النووية، ستُثبت طهران صحّة الاتهامات التي طالما نفتها، وتُخاطر بإشعال صراع أوسع مع القوات الأميركية. كما أن إيران لا ترى في الأسلحة النووية بديلاً عن جيش تقليدي قوي. فهي دولة كبيرة ذات حدود مخترقة مع العديد من الدول المجاورة غير المستقرّة. وهي متورطة في نزاعات إقليمية متداخلة حول حقول النفط، الموارد المائية والحدود البحرية.
وتتفاقم هذه التحديات الخارجية بسبب نقاط الضعف الداخلية لإيران، بما في ذلك التوترات العرقية المزمنة على طول محيطها. ولها تاريخ طويل من الغزوات والتدخلات الأجنبية. وهناك سبب وجيه وراء استثمار أجيال من القادة الإيرانيين بكثافة في بناء جيش تقليدي، بغض النظر عن نوع النظام.
بدلاً من الاندفاع نحو امتلاك قنبلة نووية، من المرجّح أن تواصل طهران سعيها وراء الغموض النووي، بتعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. سيضغط ذلك أيضًا على الوكالة لتكون ضد أي هجمات مستقبلية على إيران، إذ لا يمكن للوكالة استئناف عمليّات التفتيش إلا إذا زالت التهديدات عن المواقع النووية الإيرانية.
تعتقد طهران بأنّ هذا النهج، الذي يُخفي نشاطها في التخصيب، سيوفّر لها مرونة أكبر للمضي قدماً في برنامجها من دون إشعار. وترى طهران أنّ تعليق التعاون هو جزاء عادل للوكالة: إذ يشعر المسؤولون الإيرانيون بالغضب لعدم إدانة الوكالة للهجمات الإسرائيلية والأميركية، برغم أنّ إيران هي طرف موقِّعٌ على معاهدة حظر الانتشار النووي (التي هدّدت بالانسحاب منها)، والتي تضمن لأعضائها الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
في الواقع، يعتقد المسؤولون الإيرانيون بأنّ الوكالة زوّدت إسرائيل والولايات المتحدة بمعلومات استخباراتية مفيدة، استُغلّت لتبرير الهجمات. وكما أشارت طهران، أصدرت الوكالة تقريرًا قبل أيام قليلة من الهجوم، أعلنت فيه إنّ تعاون إيران مع مفتشي الوكالة “لم يكن مرضيًا”.
هذا لا يعني أنّ إيران ستصنع سلاحًا نوويًا في نهاية المطاف. يبقى السؤال مطروحًا: هل ستحصل إيران على الرادع النهائي، ومتى ستحصل عليه؟
لكن الواضح هو أن إيران لن تستسلم، ومن غير المرجح أن تتصرّف بشكل مختلف عما كانت عليه سابقًا. هذا يعني أنّ إسرائيل قد تقرّر شن هجوم جديد، وقد ترد إيران بسرعة. لم ينتهِ الصراع بين هذه الأطراف، وعلى الشرق الأوسط أن يتوقع المزيد من الاضطرابات في المستقبل”.
(*) المصدر: موقع الجادة