غداة حرب تموز/يوليو 2006، غرق لبنان في انقساماته السياسية والطائفية والمذهبية المفتوحة، وإزداد توغل حزب الله في الداخل اللبناني، بعدما أيقن خطورة ألا يكون موجوداً في صلب السلطة. تجربة التفاوض طيلة 33 يوما من الحرب، وتحديداً قبيل التوصل إلى القرار 1701، أظهرت أن شروط بعض أهل الداخل اللبناني كانت أقسى وأصعب بكثير من شروط إسرائيل والولايات المتحدة، وهذا ما عاد للحديث عنه في اليومين الماضيين المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله حسين الخليل في حوار خاص مع الزميلة منار صباغ في قناة “المنار”.
كلنا نعرف أنه حتى سنة 2005، كان حزب الله يعزف عن المشاركة في الحكومات. بدا عيشه رغيداً، في هذا المجتمع السياسي، ما دام يقاتل لتحرير الأرض، بصورة حصرية، ثم يحررها فعلاً ولا يريد أن “يوجع” رأسه في لعبة مغانم السلطة على اختلافها.
قامت صيغة التسوية بين “الثنائي الشيعي”، في مرحلة ما بعد إنتهاء الحرب الأهلية، على توزيع مهام بدا غريباً حين يُنظر إليه من أية ثنائية لبنانية أخرى. هذا “الثنائي” إتخذ قراراً إستراتيجياً بطي صفحة “حرب الأخوة” بكل صفحاتها الموجعة، وإكتفى حزب الله بأن يتمثل في مجلس النواب بوصفه منبراً سياسياً لمقاومته المسلحة وموقعاً للمراقبة ولتوثيق الأواصر بالمجتمع السياسي اللبناني على اختلاف مشاربه. أما حركة أمل، فكانت كفيلة بإدارة ملف الحضور الشيعي في الدولة بكل تشعباته ودهاليزه وتوازناته وتفاصيله.
منذ لحظة إغتيال الرئيس رفيق الحريري، وطيلة الحقبة التي تلتها، تقدمت أولوية تفادي كأس الفتنة السنية ـ الشيعية عند “الثنائي”. كتب الباحث اللبناني أحمد بيضون عن مسار العلاقات السنية – الشيعية تحديداً والطائفية في الاجمال ليصل إلى زمن “الشر المستطير”، اي ذروة الاحتقان الشيعي – السني. فحين اغتيل الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، فسّر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله امتناع حزبه عن المشاركة في التشييع بـ”شيء” سنّي – شيعي شعر بوجوده في “الجو”. وقد بدا الأمين العام الذي حرص على إبراز علاقاته الطيبة، حتى النهاية، بالراحل، متعجباً من هذا “الشيء” وهذا “الجو”. لم يكن الذين اكتشفوا هذا الشيء لتوّهم وتعجبوا منه بقلائل بين اللبنانيين. كان الحريريون، أي التيار الكاسح في الطائفة السنّية، قد انقلبوا جماعة، إلى مواجهة الوصاية السورية وطلب رحيلها وتنحية أعوانها اللبنانيين. هكذا أمست زيادة التوتر محتمة ما بين الفريق الشيعي المهيمن “بما له من أسنان، والفريق السنّي المسيطر بما استجدّ له من أشياع”، على حد تعبير أحمد بيضون.
ومنذ مقتل الحريري، وانسحاب الجيش السوري من لبنان في العام ذاته، صار حزب الله، عملياً، الوريث الأبرز لنظام الغَلَبة السوري، وان بدا هادئاً مترصداً في البداية مستعملاً طرقاً مواربة في إدارة التوازنات الداخلية بشراكة غير مباشرة مع آخرين من القناصل العرب والأجانب (نموذج جيفري فيلتمان وبرنار إيمييه وغيرهما). تزاحمت الإستحقاقات والإختبارات، وكان أولها انتخابات العام 2005 النيابية. إعتقد الحزب أنه بمقدوره أن يحمي نفسه بتجيير كل ما يملك من رصيد لمصلحة “التحالف الرباعي” الذي إكتسح الإنتخابات، ولكنه صُدِمَ بـ”تسونامي” ميشال عون. سرعان ما إنفرط عقد التحالف الرباعي، بعيد شهور من إبرامه، ووجد حزب الله وحليفته حركة أمل أن الأفضل لهما أن ينسحبا من حكومة فؤاد السنيورة. راج مصطلح “الأكثرية الوهمية” رداً على إنقلاب أبرز قادة 14 آذار/مارس على “الإتفاق الرباعي” الذي وفّر لهم الإمساك بالسلطة. وقتذاك، إعتبر الرئيس نبيه بري أنّ الحكومة ما عادت ميثاقية (بعد إنسحاب الوزراء الشيعة منها) بل هي “حكومة بتراء” برغم وجود أكثرية في مجلس النواب المنتَخَب شكلت مظلة داعمة لحكومة السنيورة.
على هذا، بدا حزب الله “الخاسر” في السياسة، أضعف من أن يستغني عن سلاحه ويستبقي مع ذلك وزنه في الطائفة وفي البلاد وفي خارجها أيضا. بمعنى آخر لا قيمة لحزب الله من دون سلاحه، فهو من دون امتلاك السلاح يتحول مجرد حزب مثل باقي الأحزاب الكثيرة في لبنان. هذا المسار أوصل البلاد إلى لحظة 7 أيار/مايو الدراماتيكية، لتزيد وطأة التشظي السني ـ الشيعي بدل تبريده.
إستفاد لبنان من 2008 وحتى نهاية 2010 من مفاعيل هدنة إتفاق الدوحة و”السين سين” (التفاهم السوري السعودي)، إلى أن وقع المحظور. الإطاحة بحكومة سعد الحريري، ثم ذروة صناعة الأزمات في مسيرة حزب الله بتدخله المباشر في الحرب السورية بحجج مختلفة، مرة بزعم حماية المقدسات الشيعية في سوريا، ومرة بحجة منع وصول الإرهاب الى لبنان. فهل إنحرف حزب الله عن السكة التي كان قد حددها لنفسه؟
من الصعب التكهن في المدى القريب بمآل حزب الله وأفقه، فهو حتى الآن شديد الوطأة والحضور. ويراوغ بين “المبادئ” والبراغماتية في السياسة. سجل علاماته المدرسية في الصراع الإقليمي في مواجهة إسرائيل والإرهاب التكفيري يشي بالتفوق، أما سجل علاماته الداخلية، فيشي بأن أسنانه ما زالت من حليب
منذ عشر سنوات على إندلاع الحرب السورية، يتكرر السؤال ذاته: حزب الله إلى أين؟ والسؤال يصبح على قدر من الأهمية، كونه يربط الشيعة بمصيره. ففي كل مرّة يحدث فيها تطوّر إقليمي أو دولي يخصّ لبنان أو إيران أو سوريا، يطرح موضوع حزب الله ومستقبله ومستقبل الطائفة الشيعية معه، ذلك أنّ مصير الحزب ليس مرهونًا بالساحة اللبنانية وحدها. فهو له امتدادات خارجية وقراره ليس داخلياً محضاً وله مرجعية دينية وسياسية. هذا الترابط عبّرت عنه محطات عدة، أولها، مع ظهور احتمالات تسوية على المسار السوري الاسرائيلي في عهد بيل كلينتون؛ حيث طرحت قضية الحزب بسبب علاقته مع سوريا وتوظيفه في إطار الاستراتيجية السورية تجاه إسرائيل؛ ثانيها، غداة تحرير الجنوب اللبناني في العام 2000 حيث تلقى الحزب عروضاً أميركية بالتخلي عن سلاحه مقابل إغراءات مادية وأخرى متعلقة بحضوره في السلطة في لبنان؛ ثالثها، قبيل اغتيال رفيق الحريري الذي كان متحمساً لأن يسمي حزب الله من يشاء لرئاسة مجلس النواب، في إطار صفقة شاملة بينه وبين الحزب، كان يفترض أنها تُعبّر عن مناخ إقليمي ودولي ما؛ رابعها، يتصل بكل المرحلة التي تلت إلغاء الاتفاق النووي مع ايران حتى يومنا هذا.
الوقائع تفيد أن حزب الله وبسبب وهج الدور والسلاح (لا سيما الصواريخ الدقيقة) وصناعة توازن الرعب مع إسرائيل وفي موازاته تصنيع العصبيات والأزمات؛ ربما بلغ أعلى درجات القوة في لبنان والمنطقة. بتلك الوقائع وغيرها، بات حزب الله في خضم معركة ستزداد شراسة وتعقيدا، خصوصاً مع تداعيات العقوبات الدولية على إيران ووضع أسماء من قادة حزب الله على لائحة العقوبات والإرهاب، ومراقبة المصارف اللبنانية، وتنامي العجز المالي وتصدع الليرة وتهميش دور السنّة من خلال حكومة حسان دياب، ناهيك عن إقتراب موعد صدور الحكم بقضية رفيق الحريري عن المحكمة الخاصة بلبنان في 7 آب/أغسطس 2020.
ومن قبل شعور الشيعة بأن النظام السياسي والاجتماعي – الاقتصادي الذي تشكل إثر استقلال لبنان في العام 1943، حاف عليهم وحابى الطوائف الأخرى، ولا سيما الطائفة المارونية في المرتبة الأولى، والسنية في المرتبة الثانية. فقد كانت مشاركة الشيعة السياسية دون وزنهم الديموغرافي الحقيقي، وهم يقبعون في أدنى الهرم الاجتماعي ـ الاقتصادي في لبنان. اليوم، بات مسار الشيعة في لبنان حمّال اسئلة كثيرة، هل هم يحكمون لبنان سياسياً أم هم الأضعف لولا سلاح حزب الله؟ هل قوتهم باتت مشكلة لهم وللآخرين؟
يقول الباحث نواف كبارة، عند الحديث عن مستقبل شيعة لبنان انه لا يمكن إلا أن يتبادر إلى الذهن مجموعة أسئلة تطرح نفسها بشكل طبيعي وتلقائي. اولها، لماذا على الشيعي اللبناني التخلي عن مشروع انتعاش الهوية الشيعية في المنطقة وتوسع نطاق الهيمنة والقوة لديه لمصلحة الانتماء الى بلدٍ صغير مثل لبنان؟ ثانيها، ما هي الاغراءات للشيعي اللبناني في ان يتخلى عن هويته الطائفية والمذهبية ويعيش ضمن فضاء شيعي مُعتبر في المنطقة مقابل ان يذوب في مشروع دولة ينتقل فيها ولاؤه من المذهبية الى المواطنة في بلدٍ صغير كلبنان؟
هناك أسئلة قد تكون أخطر، ومنها مثلاً، ماذا سيحدث للمشروع الشيعي السياسي (اللبناني) إذا تعرضت إيران لتغييرات سياسية واسعة تحت ضغوطٍ داخلية وخارجية؟. هل يستطيع أي طرف لبناني أن يقدم صيغة سياسية تتطلب تنازلات لمصلحة تعزيز حضور الشيعة في معادلة السلطة، أي صياغة طائف جديد؟
حزب الله ليس الأول ولا هو الأخير في لبنان ممن يجاهرون بالولاء للخارج. سبقته أحزاب عديدة، سرعان ما انهارت وتصدعت بتصدع منبتها أو مصدر سياستها ومنابع تمويلها (الليبي والعراقي والمصري والسوفياتي والفرنسي). لقد سبق أن كان لبنان موئلا للناصرية وتنظيماتها المتعددة. ويوم كانت الناصرية في عزّها، تهافت الكثير من اللبنانيين إلى تأسيس أحزاب وحركات وتنظيمات، تتخذ من الرئيس المصري عبد الناصر قدوة العداء للصهيونية والامبريالية نهجاً. وسرعان ما انهارت هذه التنظيمات بانهيار المركز، أو غياب القدوة، ولم يبق منها إلا الفلول. والحزب الشيوعي اللبناني الذي كانت تمطر في موسكو فيرفع الشمسية في بيروت، كان صاحب قوة وانتهى أو تقلص حضوره في ناحية من نواحي حي الوتوات في بيروت مع انهيار الاتحاد السوفياتي. من دون شك، فإن مصير حزب الله يرتبط عضوياً بمصير الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والآن لا أحد يعرف هذا المصير إلى أين يصل في خضم العقوبات الدولية و”لعبة الأمم” المفتوحة على مصراعيها. ومن الصعب التكهن في المدى القريب بمآل حزب الله وأفقه، فهو حتى الآن شديد الوطأة والحضور. ويراوغ بين “المبادئ” والبراغماتية في السياسة. سجل علاماته المدرسية في الصراع الإقليمي في مواجهة إسرائيل والإرهاب التكفيري يشي بالتفوق، أما سجل علاماته الداخلية، فيشي بأن أسنانه ما زالت من حليب!
للمراقب أن يقول بضيق الواقع اللبناني على نموذج حزب الله ومنه. لكن بالمقابل هناك رأي وازن عن أن حزب الله من القوى التي تعمل على مديات استراتيجية. وهو يستطيع أن يتدبر أمره إلى حين. ذلك أن له مصادر قوة عديدة منها المعلن ومنها المُستتر. وأنه حتى في ذروة الخراب الذي عمّ لبنان ما زال وبيئته على قدرٍ من التماسك.. وما زال الحزب اللبناني الأول.
ما قاله الرئيس نبيه بري للسيد نصرالله، غداة حرب تموز لا يزال ساري المفعول: لا أحد يريدك أن تكون في مظهر المنتصر.. ضد إسرائيل.
ما هو المطلوب؟ تعميم روح الهزيمة!
(1) قلق التاريخ وأهوال الهوية:
https://180post.com/archives/11161
(2) الخميني وصدّام.. كليشيه وأطماع ودم:
https://180post.com/archives/11343
(3) تثوير تاريخي.. ومؤثر إقليمي:
https://180post.com/archives/11452
(4) حزب الله ولّادة تفاهمات وأزمات: