الانتقال من طور الصهيونية إلى طور “الصهيونية الجديدة”

تُغفل تحليلات معاصرة في الشأن الإسرائيلي أن الدولة الإسرائيلية، برغم إدراكها أنها كيان وظيفي مصطنع وأن عملها كأداة إستعمارية يخدم مصالح تتجاوز محيطها الجغرافي المباشر، إلا أنها تسعى في الوقت ذاته لتحقيق مشروعها "الوطني" أو "القومي" الخاص. هذا المشروع يدخل اليوم مرحلة تاريخية جديدة يمكن تسميتها بـ"الصهيونية الجديدة".

أشرنا في مقالة سابقة بتاريخ 30 حزيران/يونيو 2025 إلى أن النظام الدولي بجناحيه الأميركي والأوروبي يسارع إلى توجيه رسائل لإسرائيل، بأن وظيفتكِ في هذه المرحلة تقف عند هذا الحد من الإبادة المعسكرة. إلا أن هذه الرسائل بدأت تصطدم بإصرار إسرائيل على تنفيذ رؤيتها الإستراتيجية حول مستقبل كيانها وانتقالها من طور الصهيونية إلى طور “الصهيونية الجديدة”. تباينٌ يفرض نفسه دون أن يخلق بالضرورة تناقضاً استراتيجياً بين مشروع الدولة القومية الصهيونية وإرادة السوق العالمية.

الحركة الصهيونية هي حركة سياسية إستعمارية تهدف إلى إنشاء دولة لليهود في فلسطين، أما الصهيونية الجديدة فهي امتداد للحركة الصهيونية مع امعان في الانتقال نحو الدولة القومية اليهودية، أي التشديد على يهودية الدولة وضم المزيد من الأراضي وصولاً إلى تحقيق الحلم الصهيوني حول إسرائيل التلمودية الكبرى. إنه مشروع يستوجب انفكاك إسرائيل عن استتباعها المطلق لسيادة دول المركز ضمن البنية الامبريالية متعددة الأقطاب، وفي هذا الانفكاك تبدّل في بنيانها الاجتماعي وسوقها المحلية.

من أهم أركان هذا التحول هو صقل معالم المواطنة بتقنين عدد “المستوطنين” الذين وبموجب وظيفتهم الأمنية وامتيازاتهم يمتلكون نزعة تمردية ضد الدولة، وتحويلهم إلى مواطنين من خلال دمجهم بالطبقة الوسطى الإسرائيلية التي تحتاج إلى “نهضة” قومية تزيد تعاضد أفرادها في هذه الأرض المثقلة بغضب سكانها الأصليين. لكن دعونا نعود إلى “الصهيونية الجديدة” كدّالة تاريخية.

أصحاب هذا التوجه يشكلون استمراراً لمسار جيوسياسي سبق وأن حدّده القادة الإسرائيليون الأوائل. بنيامين نتنياهو في بياناته أمام الأمم المتحدة منذ عملية “كاسر الأمواج” في مخيم جنين، قبيل بدء الحملة العسكرية الحالية على غزة، كان واضحاً حول التزام إدارته بتحقيق تطبيع شامل مع المنطقة العربية خلال فترة ولايته، “العرب أصدقاء. الفلسطينيون هم الإشكالية.. والفلسطينيون وحدهم”[1]. في هذا الخطاب نجد ازدواجيّة تفتعلها القيادات الصهيونية منذ عهد غولدا مائير إلى الآن. الفلسطينيون مسألة والعرب مسألة أخرى.

الصهاينة الجدد.. وترسيخ المكانة

وفي هذا الإطار، تساهم الإئتلافات الإقتصادية التي كرّسها دونالد ترامب مع الخليج العربي بُعيد حلّه لجزء جسيم من اقتصاد الولايات المتحدة الريعي و/أو الإغاثي، في ارساء البنية المادية التي تحتاج إليها “الصهيونية الجديدة” في اطار تحولاتها البنيوية – إنه الـ”Abrahamic Alliance”. علماً أن نتنياهو قد أوضح أن التطبيع مع الأنظمة العربية مرتبط بضرورة الإجهاز على القضية الفلسطينية. وهنا تأتي الصحف الإسرائيلية بمصطلح “أوسلو 3” الذي قد يُجسّد تسوية بين الإجهاز على القضية من خلال إبادة الجمع الفلسطيني، بيولوجياً وإيكولوجياً، وما بين اشتراط الدول العربية حل الدولتين كأساس للمضي في بنية السوق الشرق أوسطية المستجدة.

أمام هذا الواقع، يرى “الصهاينة الجدد” أن المشاركة في هندسة التحولات العميقة التي تعصف بالمنطقة ملقاة على عاتقهم، بما يتماشى مع التحول الجاري في بنية الاقتصاد الأميركي صوب الانكفاء الداخلي أي مركزة رأسمالها الانتاجي، والتحكم عن بعد بالأسواق الانتاجية والاستهلاكية ضمن دول “الأطراف”، ما يستوجب إعادة ترويض الامبرياليات الصغرى أو الإقليمية. تباعاً، يُوظّف الصهاينة الجدد هذه الانتقالة النوعية للبنية الاقتصادية العالمية، ضمن تكتيكهم الحربي، كديباجة لامكانية تحقيق حلمهم في التموضع كمركز إمبريالي إقليمي يدعّم طور “الصهيونية الجديدة”، وهذا ما نراه في قراءات قادة هذا الطور التحولي مثل عاموس يادلين (Amos Yadlin) الذي سمّى الحرب على غزة بحرب الجبهات السبع أو ما بسّطه نتنياهو لنا بـ”حرب النهضة الثانية”.

في هذا السياق، يُمثّل توقيع اتفاقية خط أنابيب “إيست ميد” (EastMed) مثالاً محورياً على معالم الانفكاك الاقتصادي التابع للدولة الصهيونية المستجدة، ولا سيّما أن المشروع يرتكز على استخدام أراضي فلسطين التاريخية كممر جغرافي استراتيجي نظراً إلى ما تحمله من إمكانات لتزويد السوق الأوروبية بكميات ضخمة من الغاز الطبيعي. وهنا تجدر الإشارة إلى الدور الجوهري الذي أدّته حكومة الحرب بصرف النظر عن المشادات بين أعضائها في إعادة تشكيل قطاع الطاقة في إسرائيل، مما يسهم في ترسيخ مكانتها كقوة منتجة ومصدّرة رئيسية في الإقليم.

تكشف هذه التحولات عن قدرة الاستعمار الاستيطاني على إعادة تشكيل هويته ووظائفه بمرونة لا تخلو من المطبات، أي التناقضات مع الكيانات العظمى ضمن متغيرات النظام الدولي الجديد وإعادة رسم خرائط رأس المال العالمي.

انتقال إسرائيل إلى طورها الثاني (الصهيونية الجديدة) يتطلب إعادة ضبط حسها القومي الداخلي بإعادة تعريف التوازن بين المستوطن والمواطن، ومركزة رساميل الطبقة الوسطى بين السوق الإسرائيلية والمراكز الاستعمارية العالمية (أوروبا، الولايات المتحدة، والمناطق الأخرى التي تتحرك نحوها ومنها مكونات هذا المجتمع). إنها حركة رأس مال مزدوجة تحكم ارتباط الجمع المستعمِر بالأرض

لذا يعمل الصهاينة الجدد على إعادة توجيه الحركة الصهيونية، من حركة حدودية تعتمد على الريادة العسكرية وتعددية مراكز أو بؤر رأس المال العائد للطبقة الوسطى الإسرائيلية (تشتت الطبقة الوسطى مالياً)، إلى مشروع دولة مركزية تسعى إلى تطبيع السلطة عبر أطر الدولة وأمن الأسواق. إلا أن هذا المشروع لديه تعقيدات كثيرة لا بد من تفكيكها وأهمها إلغاء ظاهرة الـ”ما بينية” الاستيطانية وتحويل الجميع إلى مواطنين.

إنها لازمة استعمارية تُطارد المركز الإمبريالي منذ الأزل، أي وجوب العمل على فك الارتباط ما بين المستوطنين وازدواجية انتمائهم الوجودي (أي مع أوطانهم الأصلية)؛ بكلمات أخرى هي إشكالية الانتماء المزدوج بين المجتمع الإسرائيلي وتحديداً طبقته الوسطى ودول المركز الاستعماري. في هذا السياق، علينا ألا ننسى أن هذا الكيان الاستعماري ليس استعماراً موضعياً، بل هو استعمار دولي جاء من خارج الحدود ضمن سياق هندسة نفوذ مراكز القوة العالمية على المنطقة، في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى فالثانية تباعاً.

الهويات المتأرجحة

الطبيعة الدولية للمجتمع الإسرائيلي، هي سمة التكوين العمالي لبناة الكيبوتسات بدرجات متفاوتة. هجرة البعض إلى أرض الميعاد – أرضنا – لم تكن قطيعة مع انتماءاتهم لأوطانهم الأولى بل إعادة تعريف للعلاقة وتبيان لمعالمها الوظيفية المركبة. والاثبات هو حملات إعادة تجنيس الإسرائيليين في ألمانيا والنمسا مثلاً؛ حملات التجنيس هذه جاءت استجابةً لتحوّلات سياسية وأمنية في المنطقة. ففي العام 2006، وبعد حرب تموز (لبنان)، سُجّل ارتفاع ملحوظ في طلبات الحصول على الجنسية الألمانية من قبل الإسرائيليين، ومعظمهم من أصول يهودية ألمانية. وفي العام 2019، وعلى خلفية الهبة الشعبية في الضفة الغربية ومدن فلسطينيي الداخل واندلاع جولة قتال محدودة في غزة، أقرت النمسا قانوناً جديداً مكّن آلاف الإسرائيليين من ذوي الأصول النمساوية، وبخاصة أحفاد ضحايا “الهولوكوست”، من استعادة جنسيتهم. ناهيك عن السلافيين برغم تمسكهم بالجنسية الإسرائيلية إلا أنهم يُصرّون على التمسك بلغتهم الروسية وعلى بناء الكنائس الأرثوذكسية (تُشكّل جزءاً من تكوين الهوية الروسية) لممارسة عبادتهم. غير أن الطفرة الأكبر وقعت في العام 2024، خلال حرب الإبادة، حيث سجلت كلٌ من ألمانيا والنمسا أرقاماً قياسية في عدد الإسرائيليين المجنّسين.

إقرأ على موقع 180  نبؤة كيسنجر.. 2023 عام التسوية الأوكرانية؟

عليه؛ تتأرجح هوية المستوطنين بين كونهم “شرعيين” و“خارجين عن القانون”، بين حتمية وجودهم وقابلية الاستغناء عنهم، في ظل سعي الدولة العبرية لتحقيق السيطرة الإقليمية وإدارة الضغوط الدولية والاحتجاجات الداخلية. فالمستوطن المعاصر في فلسطين لم يعد يُمجّد كرمز رومانسي للريادة كما في مرحلة الخمسينيات والستينيات، بل أصبح يتبوأ دورًا مركبًا وغالبًا متناقضًا ضمن منظومة دولة أمنية نيوليبرالية. تعكس هذه الدينامية، مكانة المستوطن التي تمثل التناقضات الاستعمارية الإشكالية بين المركز، أي أوروبا وأميركا وروسيا وغيرها من مراكز مراكمة رأس المال العالمي من جهة، وسيادة ووحدة الدولة القومية (إسرائيل) من جهة ثانية.

هذا التناقض الجوهري في الدور المزدوج للمستوطن، كفاعل متمكن وكمواطن، يُجسّد التوتر المركزي في “الصهيونية الجديدة”، حيث بناء الدولة القومية الدينية يتطلب انتماءً وطنياً متجذراً، في حين أن المستوطن يحافظ على هوية لا وطنية تعتمد على بنى سياسية واقتصادية وديموغرافية عالمية.

بهذا المعنى، تنبثق “الصهيونية الجديدة” كردة فعل تعبيراً عن هذا التوتر، في محاولة للتوفيق بين الولاء القومي والامتداد الخارجي. وبرغم تعدد استراتيجياتها، من العولمة النيوليبرالية إلى التعددية الثقافية، إلا أنها تظل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالبنية الاستعمارية الاستيطانية التي تسعى إلى تعديلها، وغير قادرة على إنهاء التوتر البنيوي بين استمرار المشروع الاستعماري والتحول إلى دولة قومية دينية حديثة.

يمتد هذا التوتر إلى الهوية نفسها، حيث يعيش المستوطن والمواطن الإسرائيلي في ظل وجود مركب: بين التجذر في الانتماء الوطني والارتباط بشبكات دولية. تُمثل هذه الثنائية المشروع الاستعماري الاستيطاني المتناقض الذي يسعى إلى تثبيت السيادة مع الاعتماد على البنى الدولية.

هذا الوضع المعقد تحاول “الصهيونية الجديدة” معالجته، لكنها تظل مسكونة بالبنية الاستعمارية التي لم تُحل. ومن خلال محاولتها للتوفيق بين القومية وواقع ارتباطها الخارجي، تتشظى إلى استراتيجيات متعددة، لا تستطيع أي منها أن تحل بشكل نهائي، التوتر المستمر بين الاستمرار في نظام استعماري والتكيف مع متطلبات الحداثة العلمية لمفهوم الدولة.

للصهيونية الجديدة قبتها الحديدية

ولا يُنظر في مرحلة “الصهيونية الجديدة” إلى المستوطن كفاعل سياسي فحسب، بل كجسد تُحدّد قيمته وفقًا لمتغيرات الأمن والجغرافيا السياسية. في هذا السياق، تتحول أجساد المستوطنين إلى كيانات وظيفية تنتجها خطابات الدولة وممارساتها الأمنية، بما يتوافق مع الرؤية التي تعتبر الجسد موقعًا للسلطة والمعنى. وبالتالي، تدير الدولة المستوطن كأداة مرنة: تُخضعه للانضباط والهيمنة في أوقات الاستقرار، وتطلقه كقوة مسلحة في ظروف الطوارئ. لذا نرى أنه من الأسهل لإسرائيل تحمل وطأة صواريخ اليمنيين والمقاومة اللبنانية وتكنولوجيا التدمير الإيرانية حين تُسلَّط على مدنها مباشرة، من أن تتحمل جولة أخرى من قصف تُوجّهه المقاومة اليمنية على السفن التجارية والمضائق البحرية. فالأولى من شأنها إعادة صقل الهوية الإسرائيلية، أما الثانية فهي تهديد حقيقي للبعد المادي للرؤية الصهيونية الجديدة.

لذا، يُجسّد المستوطن بحد ذاته هوية تمرحلية نحو الانتماء إلى الوطن الجديد المفتعل وهذا ما نسميه بالمواطنة. من هنا تعمل “الصهيونية الجديدة” على الغاء ظاهرة الـ”ما بينية” الاستيطانية وتُحوّل الجميع إلى مواطنين، ولا تستطيع القيام بهذا العمل إلا من خلال العمل على جبهتين كما أسلفنا.

في الخلاصة، انتقال إسرائيل إلى طورها الثاني (الصهيونية الجديدة) يتطلب إعادة ضبط حسها القومي الداخلي بإعادة تعريف التوازن بين المستوطن والمواطن، ومركزة رساميل الطبقة الوسطى بين السوق الإسرائيلية والمراكز الاستعمارية العالمية (أوروبا، الولايات المتحدة، والمناطق الأخرى التي تتحرك نحوها ومنها مكونات هذا المجتمع). إنها حركة رأس مال مزدوجة تحكم ارتباط الجمع المستعمِر بالأرض.

وإذا استمرت هذه الرساميل متباينة ومجزأة، ستُعيق تطوير سيادة السوق الإسرائيلية وتمنع بروزها كقوة إقليمية اقتصادية مهيمنة. أما إذا تمّت مركزتها ضمن المشروع الصهيوني الجديد وتوجيهها نحو تعظيم مشاريع الدولة ما بعد الإبادة، فإن الرأس مال هذا يُمكن أن يكون المحرّك الرئيسي للبنية التحتية لـ”الصهيونية الجديدة”. تتوافق هذه الجهود مع الاتفاقيات الإبراهيمية بما تُمثل من “قبة حديدية” لإسرائيل من الناحية الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية.

إن فهم هذه التعقيدات بمستوياتها المتعددة أمرٌ حيوي ولازم لتنظيم مقاومتنا وتوسيع محاورنا والمساهمة في اعادة تشكيل قواعد الاشتباك مع “الصهيونية الجديدة” في بنيتها المتغيرة وأركانها الدولية وتقاطع أجسادها مع أجساد جالياتنا العربية! يجب أن تكون استراتيجية مقاومتنا مركّبة وشاملة بقدر تعقيد استراتيجيات عدونا في التحول الإقليمي. أما ترك مقاومينا يناورون في غزة والضفة وحدهم فهو إثمٌ مردّه عيب تحليلي ورضوخ ذليل لقواعد التشتيت والترميز المفرط للفعل المقاوم.

وفي الختام، لنضع حداً لمظاهراتنا الفولكلورية المرخّصة ومقالاتنا العلمية غير الموجهة ومنابرنا الإعلامية الاستهلاكية وما فيها من اشتباكات غير مدروسة مصدرها احساس عميق بالأنا العاجزة في شوارع التضامن المفرَغة والمفرٍغة سواء في أوروبا والولايات المتحدة أم في عالم الشمال عموماً، ودعونا نمضي بما لدينا من فهم أعمق لعدونا لعله يُساعدنا في أن نُعدّ لهم ما استطعنا من قوة ومن رباط الخيل.. ولسبر أغوار هذا الواجب لنا في تفصيله باب آخر.

[1] كانت غولدا مائير تُشير الى الفلسطينيين بلفظة “الفدائيين” أو “المشاغبين”، الذين لن يستكين بال لإسرائيل إلا بالإجهاز عليهم إما ككتلة بشرية أو كمدرسة فكرية.

(*) راجع مقالة الكاتبة بعنوان: فلسطين في الشارع الغربي: خلاف المُستعمر مع “الموظف الإسرائيلي”

Print Friendly, PDF & Email
مايا نشأت زبداوي

باحثة فلسطينية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تعمية اللبنانيين أو "شهاب الدين أشفط من أخيه"!