“في نهاية سنة 2017 تراجعت حدة القتال في سوريا واستقر ميزان القوى، وفي المقابل بدأت مساعي بناء القوة العسكرية برعاية روسية. تسارعت العملية في آذار/مارس 2020 مع التوصل إلى وقف إطلاق النار مع المتمردين في إدلب، وهو ما سمح بتحويل الاهتمام من القتال إلى إعادة البناء. منذ ذلك الوقت برز سباق إيراني – روسي على النفوذ وعلى بناء الجيش السوري وطريقة تشغيله.
عملياً، لروسيا تأثير كبير في خطوات البناء العسكري والتشغيل على المستوى الاستراتيجي والعملاني. مع بداية التدخل في سنة 2015 أنشأت روسيا قيادة متعددة الأذرع ومركزاً لعمليات مشتركة أدى إلى تهميش دور قيادة الأركان العامة السورية. التلميحات إلى ذلك أن روسيا هي التي حرصت على عدم تعيين رئيس أركان للجيش السوري منذ سنة 2018 حتى اليوم. بنية القيادة والتحكم التي أرستها روسيا في سوريا تضمن تدخُّل ضباطها ومستشاريها تقريباً في كل مراتب القتال في سوريا، بما في ذلك تفعيل عقيدة استخدام الجيش السوري واستنفاد منظومات سلاحه في ساحة القتال.
على الرغم من الأسبقية الروسية، تعمل إيران وحزب الله على التأثير في بناء الجيش، في الأساس من خلال التوصل إلى نشر قدرات هجومية مضادة في سوريا – صواريخ أرض- أرض ومسيّرات هجومية؛ وقتال مشترك لميليشيات شيعية تحت قيادة إيرانية مع وحدات من الجيش السوري؛ وتدخّل إيران في بناء وتأهيل وتشغيل قوات خاصة في الجيش السوري – بينها الفرقة الرابعة بقيادة شقيق الرئيس ماهر الأسد، ووحدات أمن داخلي وميليشيات شبه عسكرية، محلية ووطنية موالية للنظام. يُعتبر الفيلق الأول في الجيش السوري المسؤول عن منطقة جنوب – غرب سوريا والجبهة في مواجهة إسرائيل هدفاً مركزياً لتدخّل إيران وحزب الله في الجيش السوري – من خلال ضم مستشارين وضباط اتصال في قيادة الفيلق على مختلف الصعد (عملانية، استخباراتية، لوجستية، الهندسة، المراقبة، المدفعية)، والقيام بتأهيل الجنود وقادة الفيلق، بما في ذلك في مجال تطوير القدرة على جمع معلومات استخباراتية وتطوير القوة النارية (المدفعية والراجمات)، واستغلال ظروف الحياة البائسة في جنوب سوريا من أجل تجنيد قوة مقاتلة. بالإضافة إلى ذلك يسمح النظام لحزب الله ببناء بنية تحتية إرهابية ومشاريع طويلة الأجل في منطقة سيطرة الفيلق، وإنشاء غرفة عمليات مشتركة بين الجيش السوري والحزب.
تبرز ملامح السباق الروسي – الإيراني على النفوذ في تعيين القادة الرفيعي المستوى في الجيش السوري، على سبيل المثال، إقالة قائد سلاح الجو السوري المقرّب من الإيرانيين من منصبه في آذار/مارس هذا العام بطلب روسي، وتعيين القائد السابق المقرب من الروس مكانه منذ شهر
تبرز ملامح السباق الروسي – الإيراني على النفوذ في تعيين القادة الرفيعي المستوى في الجيش السوري، على سبيل المثال، إقالة قائد سلاح الجو السوري المقرّب من الإيرانيين من منصبه في آذار/مارس هذا العام بطلب روسي، وتعيين القائد السابق المقرب من الروس مكانه منذ شهر؛ وكذلك من خلال التعبير عن استياء روسي إزاء تأثير إيران ووكلائها في الجيش السوري في جنوب سوريا. يبدو أن النفوذ الإيراني يتقلص في الأساس لينحصر في المجالات التي لدى طهران مصلحة واضحة فيها لمواجهة إسرائيل، وهو محدود بسبب عدم وجود موارد كافية أو بسبب الكبح الروسي.
تغيّر التهديد المرجعي وطبيعة القتال:
في سابقة فريدة في نوعها، التهديد المرجعي المركزي في بناء الجيش السوري وترميمه هو تهديد داخلي، وعلى رأسه الحاجة إلى إخضاع قوات المتمردين – التي تصنَّف كمجموعات إرهابية إسلامية متطرفة – ومنع عودة نمو البنى التحتية الإرهابية. في الماضي كان التهديد المرجعي المركزي هو التهديد العسكري الإسرائيلي.
يتمركز بناء القوة حالياً على تشكيل وتأهيل وحدات مقاتلة لتحقيق السيطرة على أراضي الدولة والدفاع عنها، وقدرة عالية على الحركة للقوات لقمع التمرد والسيطرة مجدداً على الأراضي، بمشاركة ميليشيات مستقلة وشبه عسكرية.
البناء والتنظيم:
توجيه روسي، ومن أجل توسيع نطاق القيادة والتحكم، يجري اليوم تحويل موارد مركزية إلى وحدات الجيش السوري والأجهزة الأمنية المتعددة، وإعادة حصرية استخدام القوة إلى يد الجيش. وذلك من خلال دمج ميليشيات ووحدات المتمردين الذين استسلموا في الجيش السوري. في المرحلة الحالية الميليشيات الشيعية الموالية لإيران، والمتورطة في الحرب الأهلية إلى جانب نظام الأسد منذ سنة 2012، لا تزال تعمل من دون الخضوع لقيادة الجيش السوري. أحياناً لا يوجد تنسيق عملاني بين الميليشيات الشيعية التي تعمل بصورة مستقلة ومنفصلة عن أي خطة قتالية أو تكتيكية للجيش السوري – هذا النموذج أدى إلى حدوث احتكاكات بقوات الأسد أكثر من مرة. على الرغم من الخطة الروسية لدمج مجموعات المتمردين السابقين في الجيش من أجل ترسيخ سيطرة النظام على المناطق التي احتلها وتقليص خطر التمرد من جديد، لكن تظهر في أحيان كثيرة عداوات بين المتمردين السابقين وبين قادة الجيش. في الوقت عينه تُطرح مسألة الولاء وعلاقات القوة بين الجيش والميليشيات الخاضعة للنفوذ الإيراني – كما يظهر في النموذج العراقي، إذ يبدو الجيش العراقي ضعيفاً مقارنة بالميليشيات.
القوة البشرية:
بدءاً من نهاية سنة 2018 جرى التشديد على تجنيد مقاتلين وضباط في الجيش، بحيث لا يقل عدد المقاتلين في كل لواء عن 11 ألف مقاتل، مع التشديد على عدد المقاتلين وليس على نوعيتهم. بعد “فوزه” في الانتخابات، قرر بشار الأسد القيام بتغييرات في الجيش شملت تعيينات جديدة في نحو 20 منصباً رفيع المستوى في الجيش، جزء منهم ضباط عُينوا قبل أشهر معدودة. من هنا تأتي الدعاية أن روسيا هي التي تقف وراء التعيينات الجديدة في الجيش والأجهزة الأمنية من أجل الدفع قدماً بضباط علويين يكونون بارعين وموالين لها وليس لإيران. فمن أصل 152 ضابطاً رفيع المستوى في الجيش السوري يوجد اليوم 124 من الطائفة العلوية، أي نحو 82%، في مقابل 22 ضابطاً سنياً يشكلون 14% فقط، من المعقول الافتراض أن هذه الشخصيات التي اختارتها روسيا هي التي ستقود المعركة العسكرية المقبلة، سواء داخل سوريا أو في مواجهة تهديدات خارجية.
التدريبات:
ثمة تشديد إضافي على استعادة وتيرة التدريبات من أجل رفع الكفاءة العملانية. من هذه الزاوية أيضاً الأسبقية هي لروسيا التي تعمل على استئناف التدريبات الأساسية على مستوى القسم والكتيبة. إيران أيضاً وبواسطة حزب الله تدرب قادة ومقاتلي القوات القتالية، لكن بصورة محدودة وأقل منهجية مع التركيز على جنوب سوريا القريب من الحدود مع إسرائيل.
بناء قدرات دفاع جوية:
روسيا تساعد الجيش السوري على استئناف بناء منظومة دفاع جوية من خلال مزج وتشغيل منظومات سلاح وصواريخ أرض – أرض متطورة، وذات قدرة على اعتراض عمليات قصف موجهة عن بعد. مع ذلك، امتنعت روسيا من إعطاء قوات الدفاع الجوي السورية بطاريات صواريخ أرض – جو من طراز 300 و400 أس، التي تشكل خطراً على طائرات سلاح الجو الإسرائيلي، خوفاً من التصعيد، ومن كشف ضعف هذه المنظومات.ىإيران من جهتها أعلنت في الماضي نقل منظومات دفاع متطورة إلى سوريا: صواريخ أرض – أرض من طراز Bavar 373- منظومة صواريخ أرض- جو بعيدة المدى (250 كيلومتراً)، التي تشكل نسخة إيرانية من منظومة أس 300 الروسية: منظومة خرداد – صواريخ أرض-جو متوسطة المدى (50-75 كيلومتراً).
توظف إيران وسوريا جهداً مشتركاً موازياً في تركيب صواريخ أرض – أرض ذات أبعاد مختلفة، وتحسين دقة الصواريخ، في الأساس من أجل تهديد الجبهة الخلفية الاستراتيجية لإسرائيل. ولقد نشرت إيران في سوريا منظومات من الطائرات من دون طيار، ليس من الواضح ما إذا نُقلت إلى الجيش السوري، أم سيستخدمها وكلاء إيران عند حدوث مواجهة
بناء قوة هجومية مضادة:
القدرات السورية على إنتاج وتركيب صواريخ أرض – أرض تضررت خلال الحرب، وأيضاً بسبب الهجمات الإسرائيلية على منشآت الإنتاج والتركيب، وخصوصاً تلك التي أقيمت بالتعاون مع إيران، بينما يجري اليوم التشديد على السلاح الصاروخي. توظف إيران وسوريا جهداً مشتركاً موازياً في تركيب صواريخ أرض – أرض ذات أبعاد مختلفة، وتحسين دقة الصواريخ، في الأساس من أجل تهديد الجبهة الخلفية الاستراتيجية لإسرائيل. ولقد نشرت إيران في سوريا منظومات من الطائرات من دون طيار، ليس من الواضح ما إذا نُقلت إلى الجيش السوري، أم سيستخدمها وكلاء إيران عند حدوث مواجهة.
قدرة هجومية بسلاح كيميائي:
تدل سلسلة تقارير صادرة عن الأمم المتحدة وعن جهات في الإدارة الأميركية خلال السنة الماضية على أن سوريا تعمل على تجديد ترسانتها الكيميائية، في الأساس غاز الكلورين والسارين، وبمساعدة إيرانية؛ كذلك تعمل على ترميم قدرتها على الإنتاج في داخل سوريا نفسها. يحدث ذلك على الرغم من تعهّدها في سنة 2013 التخلص من سلاحها الكيميائي. تتجمع الأدلة على ذلك لدى منظمات استخباراتية ومنظمات مراقبة السلاح التي تدّعي أن سوريا تواصل الاحتفاظ بسلاح كيميائي وقد استخدمته في هجماتها على مدنيين خلال سنوات الحرب. هذه القدرات الاستراتيجية للجيش السوري ستكون موجهة كما في الماضي نحو الداخل، ومن المفترض أن تشكل سلاحاً رادعاً في مواجهة إسرائيل.
العقيدة القتالية:
تسعى روسيا لتطبيق عقيدة قتالية على وحدات برية متحركة وعالية النوعية وتحويلها إلى قوة تدخّل سريع تسمح بحركة كبيرة وهجوم واحتلال سريع للأرض. والمقصود استراتيجيا أكثر ملاءمة لاحتلال مناطق داخلية في مواجهة المتمردين وأقل ملاءمة لهجوم استباقي في مواجهة إسرائيل.
فعالية عملانية محدودة:
على الرغم من توجيه جهود إعادة بناء الجيش السوري في الأعوام الأخيرة وجعله ملائماً لمواجهة التحديات الحالية، فإن القدرة القتالية لقوات النظام لا تزال محدودة، وكذلك الفعالية العملانية في مواجهة تهديدات داخلية وخارجية بسبب سلسلة التحديات التي يواجهها: إن تعدد عناصر القوة في سوريا وتنافسها فيما بينها، وعلى رأسها الميليشيات التي تعمل بصورة مستقلة والوحدات التي تدين بالولاء لروسيا أو إيران، يجعل من الصعب جعل حصرية استخدام السلاح في يد الجيش؛ أزمة اقتصادية حادة تتسبب بفقدان الموارد؛ فساد الجيش كما سائر الأجهزة الأمنية؛ عدم وجود قدرة بشرية نوعية ذات حوافز؛ قدرة تجنيد منخفضة؛ استمرار القتال الداخلي في سوريا الذي يستنفد الموارد والاهتمام؛ بالإضافة إلى المعركة الإسرائيلية المستمرة ضد التمركز الإيراني في سوريا.
يشكل الاقتتال الداخلي اليوم في سوريا دليلاً على الصعوبات التي يواجهها الجيش السوري: فشل كل المحاولات للسيطرة، أو لتقليص منطقة سيطرة المتمردين في إدلب؛ وفي شرق سوريا، حيث المنطقة التي تشمل الأرصدة الاستراتيجية للنظام- حقول النفط والحدود مع العراق- الجيش السوري يراوح مكانه ويواجه صعوبة في إثبات فعاليته على الأرض؛ أيضاً في جنوب سوريا، لدى تجدد القتال في نهاية تموز/يوليو 2021 في دراعا البلد، فشلت محاولات الجيش السوري في استعادة سيطرته على المنطقة وجمع السلاح من تنظيمات المتمردين.
الجيش السوري يشكل صورة طبق الأصل للنظام: صلاحيات وقوة متزعزعة، واعتماد على روسيا وإيران. بناء قدرات مدرعة مهمتها احتلال مناطق في مواجهة جيوش نظامية، مثل الجيش الإسرائيلي في هضبة الجولان – تراجعت من حيث الأولوية. على المستوى الهجومي، يعتمد الجيش السوري اعتماداً كبيراً على إيران وحزب الله، في الأساس من ناحية نقل وتركيب وسائل هجومية، مثل السلاح الصاروخي ومسيّرات هجومية تحسّن قدرة إيران على ضرب معظم أراضي إسرائيل من سوريا. يتعين على إسرائيل أن تكون منتبهة أيضاً إلى القدرات الكيميائية التي يعمل نظام الأسد على ترميمها بمساعدة إيرانية، انطلاقاً من الإدراك أن هذا السلاح الاستراتيجي يمكن أن يوجَّه ضدها أيضاً.
مع ذلك، فإن التحدي العسكري الأساسي الذي يشكله الجيش السوري اليوم للجيش الإسرائيلي هو قدرته الدفاعية الجوية التي تعتمد على قدرات روسية يشغّلها مستشارون عسكريون روس. لذلك يجب على إسرائيل الاستمرار في الضغط سياسياً على روسيا لمنع إعطائها الجيش السوري بطاريات صواريخ أرض – جو متطورة، وإذا وُضعت هذه المنظومات في استخدام الدفاع الجوي السوري يجب مهاجمتها قبل أن تشكل تهديداً لسلاح الجو الإسرائيلي. كما يتعين على إسرائيل تدمير بطاريات الدفاع الجوي الإيراني لمنع انتقالها ذات يوم إلى الجيش السوري أو نشرها في داخل سوريا.
يجب استخدام وسائل مختلفة ضد تمركُز إيران وحزب الله في جنوب سوريا، والذي يجري بالمشاركة والتنسيق مع الجيش والنظام. من المعقول أن توجَّه هذه القوة إلى مهاجمة إسرائيل من الأراضي السورية عندما يحين الوقت. بالإضافة إلى المعركة المستمرة ضد التمركز العسكري لإيران وحزب الله في سوريا، يجب على إسرائيل التعاون من أجل الدفع قدماً بالتعاون مع السكان المحليين المعارضين للوجود الشيعي في المنطقة، والذين يمكن أن يقفوا ضد مساعي التمركز الإيراني.
(*) المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية