لم يكن السعر الذي بلغه الدولار الأميركي في ذروة استقوائه على الليرة (عند نحو 20 الفاً) سعراً حقيقياً ولا عادلاً، بل تضمن جرعات تشاؤم وهلع رافقت المراوحة السياسية النكدية الطويلة منذ استقالة حكومة حسان دياب بعد انفجار مرفأ بيروت في آب/أغسطس 2020، وما تلا ذلك من صدمات اضافية متتالية لكارثة الإنهيارالاقتصادي. وفي طبخة سعرالصرف المرتفع أيضاً بهارات مضاربة يجيدها التجار والصرافون أوقات الأزمات لتحقيق الأرباح السريعة والسهلة.
أما وقد استطاع نجيب ميقاتي تشكيل حكومة قيل أنها مدفوعة بضغط دولي، فأي اتجاه سيسلك سعر الصرف، ووفق أي العوامل المؤثرة فيه؟
على هذا الصعيد، يمكن ذكر رجحان عوامل تؤثر إيجاباً مقابل أخرى في الكفة السلبية للميزان، على قاعدة عصفور في اليد و10 على الشجرة:
في الإيجابيات المفترضة، ساد تفاؤل في ضوء تشكيل حكومة جديدة، بالترافق مع تحليلات ومعلومات عن غطاء دولي لها. وعندما يسمع اللبناني كلمة “غطاء” يصرفها في ذهنه دولارات طازجة. فيستبشر خيراً بمساعدات وقروض ميسرة، ويريد تثبيت قناعة غيبية لديه بأن لبنان “مهم للعالم” ولن يترك وحيداً فريسة أشداق الإنهيار.
في الأثناء، ترغب جهات مؤثرة بسعر الصرف في اشاعة التفاؤل أكثر بالأثر الإيجابي المعلق على حصول لبنان على حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي وبقيمة تزيد على 1.1 مليار دولار. فسيولة بهذا الحجم في موسم الجفاف والقحط تشكل فارقاً نسبياً يعوّل عليه عدة أشهر لا محالة.
ثم يأتي دور المضاربين للعب على الحبال، وهم يعلمون أن في البيوت مليارات العملات الصعبة مخزنة لا بد من استدراجها الى الصرف في حمأة التخويف من نزول الدولار أكثر.
أما مصرف لبنان فليس ببعيد عن هذه الأجواء، وهو الشاكي من تنشيف البنوك من 9 مليارات سحبت لتجد ضالتها في الخزائن، كما قال يوماً من أيام الهلع الشديد السنة الماضية. ومن بين الأدوات التي قد يستخدمها لدعم الليرة المنهارة، يحاول مصرف لبنان تجفيف بعض سيولة العملة الوطنية باساليب مختلفة، وإجبار المصارف على تنفيذ تعميم يقضي بمنح مودعين 400 دولار شهرياً إضافة الى 400 أخرى بالليرة على سعر المنصة التي حُدّدت بـ 12 ألف ليرة للدولار الواحد. وهذا “التنفيذ” يزيد قليلاً من العملة الخضراء في الأسواق. ولا ننسى أن مصرف لبنان يبقى الأقدر على التأثير في سوق القطع باحتياطي عملات لديه يقدر بنحو 14 مليار دولار.
ترافق كل ذلك مع أخبار متواترة عن وصول شحنات نفط عراقية لمعامل كهرباء لبنان وبواخر مشتقات نفطية من إيران وجهود لاستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن بصفقات مؤجلة الدفع او ممولة من البنك الدولي.. ما قد يخفف العبء الملقى على عاتق البنك المركزي لتأمين دولارات طازجة لزوم الفيول أويل لتشغيل معامل التوليد. وذلك “الوفر”، أن صحت تسميته كذلك، يبطئ قليلاً نزيف الدولارات المحولة الى الخارج للاستيراد. مع التذكير بأن الاستيراد مستمر في تراجعه وبنسبة زادت على 50 في المائة في سنة تبعاً لانخفاض القدرة الشرائية لشرائح واسعة من المواطنين والمقيمين. وبالتالي تراجعت الحاجة الى كمية الدولارات المطلوبة وخف الضغط الهائل على الليرة.
هناك جملة تعقيدات قد تحول دون التحسن النوعي لسعر صرف الليرة وابرزها الخلاف المحتدم حول كيفية توزيع الخسائر المقدرة بنحو مائة مليار دولار. فالسياسة المتبعة حتى الآن من مصرف لبنان وجمعية المصارف، بدعم من سياسيين نافذين، تقضي بتدفيع المجتمع الكلفة الأكبر سواء في “ليلرة” الودائع الدولارية، أو ترك القدرة الشرائية لليرة هابطة للحد من الاستيراد، أو تأجيل اقرار قانون ضبط التحويلات (الكابيتال كونترول)
وبين الإيجابيات الممكن التعويل عليها دائماً تحويلات المغتربين وصرف المصطافين ودولارات “الإن جي أوز” والمساعدات الدولية للاجئين، والصرف الدولاري لحزب الله، على أن تجد تلك الأموال طريقها الى أسواق القطع بثقة تدريجية متنامية في موازاة محاولات معالجات الأزمة.
في مقابل تلك الرهانات، لم تغب السلبيات لا سيما السياسية منها ، إذ لم يجف حبر التشكيل الوزاري موحياً ببعض الوئام بين الاطراف السياسية كما حلا للبعض الاعتقاد، حتى شن رئيس التيار الوطني الحر الوزير الأسبق جبران باسيل مساء أمس هجوماً عنيفاً على رئيس مجلس النواب نبيه بري، ما استدعى رداً مقتضباً صاعقاً من مصادر “كتلة التنمية والتحرير” عليه. أيضاً إستفاق اللبنانيون اليوم (الخميس) على عنصر توتير سياسي جديد، بإصدار المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق بيطار مذكرة توقيف بحق وزير الأشغال الأسبق يوسف فنيانوس. هذه وتلك عينة مما ينتظر هذه الحكومة عند مفترقات أساسية لتحديد وجهة العلاج الاقتصادي والمالي الصعب والمعقد والمصيري، وعشية انتخابات نيابية وقودها التسعير الطائفي والمذهبي وشحن الغرائز والأحقاد المناطقية والسياسية والحزبية.. تلك الخلافات تسحب من رصيد الثقة برهانات التعافي السريع وتؤثر في الليرة حتماً.
وبواقعية المؤشرات السلبية وضرورة التروي في استباق الاحداث والرهان عليها، هناك جملة تعقيدات قد تحول دون التحسن النوعي لسعر صرف الليرة وابرزها الخلاف المحتدم حول كيفية توزيع الخسائر المقدرة بنحو مائة مليار دولار. فالسياسة المتبعة حتى الآن من مصرف لبنان وجمعية المصارف، بدعم من سياسيين نافذين، تقضي بتدفيع المجتمع الكلفة الأكبر سواء في “ليلرة” الودائع الدولارية، أو ترك القدرة الشرائية لليرة هابطة للحد من الاستيراد، أو تأجيل اقرار قانون ضبط التحويلات (الكابيتال كونترول) لتستمر دولارات البعض في الخروج الآمن، أو الممانعة في اطلاق التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان وكهرباء لبنان لتضيع مسؤوليات الهدر والفساد وسوء الإدارة، وتبقى نفس الطبقة الحاكمة هانئة مستعدة من جديد للانقضاض على ريع التعافي الموعود.
هذه العوامل وغيرها تؤثر في سعر الصرف في جانبين. الأول، هو ميزان المدفوعات الخاسر والضاغط على سعر الصرف، والذي يعول لبنان على صندوق النقد الدولي لاعادة التوازن اليه. ودون ذلك مفاوضات شاقة للحؤول دون فرض شروط لا تناسب الطبقة المالية المعززة سياسياً لا سيما في شقي توزيع الخسائر والتدقيق الجنائي. كما لا تناسب الطبقات الفقيرة في تهلكة الرسوم والضرائب الجديدة المطلوبة لسد عجز الموازنة، فضلاً عن قطبة لم تعد مخفية في تطريز الخصخصة وبيع اصول الدولة ورهن الذهب.. أي التصفية الشاملة في مغامرة غير مضمونة النتائج.
لكن قبل حين المفاوضات الشاقة مع صندوق النقد، هناك استحقاقات داهمة مؤثرة في سعر الصرف أبرزها استحقاق في بداية شهر تشرين الأول/اكتوبر المقبل سريعاً لالغاء دعم المشتقات النفطية نهائياً. ما يفرض على مستوري تلك المشتقات (ومصرف لبنان) توفير دولارات بقيمة تراوح بين 1.5 مليار وملياري دولار على الاقل سنوياً من اسواق القطع والاحتياطات لتقع الليرة مجدداً بين فكي كماشة الدولار الشحيح والاستيراد الضروري.
تبقى الإشارة الى ان تدني سعر صرف الدولار يسير في اتجاه واحد حتى الآن. فالصرافون يشترون الدولار بسعر متهاود ولا يبيعونه الا بفارق كبير غير مبرر! فتسقط عنهم وعن رعاتهم صفة “السوق الموازية” المجملة الصورة، لتظهر بشاعة “السوق السوداء” وقبحها الاستغلالي في بلد رهيب يموت فيه الحسيب وينتحر الرقيب في صمت مهيب!