***
لطالما وصلنى صوت صباح فخرى من ركن فى المنزل أو من شاشة تلفزيون عند البقال أو من راديو فى سيارة عدت من قربى فى الشارع. ذلك الصوت الماسى الذى ساهم بنشر الموشحات الحلبية إلى العالم مع انتشار التسجيلات الصوتية من الأسطوانات إلى الأشرطة إلى الأقراص المضغوطة انتهاء بالموسيقى المحفوظة رقميا. هكذا وعلى مدى حوالى أربعين سنة، رافق صوت صباح فخرى علاقتى بالبلد وبالهوية وبالموسيقى، وامتزجت أغانيه بوجوه دخلت وخرجت إلى حياتى وحياة عائلتى.
***
يرحل صباح فخرى تاركا خلفه تاريخا من الموسيقى تتداخل بشكل كبير بعلاقتى مع سوريا. فموته يعنى موت جزء من البلد عرفته وموت أشخاص كثيرين رحلوا قبل رحيل صباح، إنما عدت أعزى نفسى برحيلهم اليوم بعد أن عادت وجوههم إلى إيقاع أغانى صباح فخرى. تخيلت سهرة لمن كنت أسميهم «الأهل» بمعنى آباء وأمهات ــ اليوم أنا فى عمرهم على فكرة ــ يتمايلون على كلمات «قدك المياس»، وهى من الأغانى الـ«طقطوقة» فى عرف الموسيقى الكلاسيكية أى أن من المقبول أن تغنى فى سهرة، على عكس موشحات أثقل وزنا وقيمة يجب الاستماع إليها فى جو أكثر وقورا فى حفلة موسيقية وليس حول طاولة عشاء. أرى إذا مجموعة من «الأهل» غالبا ما يمسك الرجال فيها بمنديل يحركونه ثم يوجهون جسدهم إلى شخص بعينه حين يرددون «أنت أحلى الناس فى نظرى جل من سواك يا عمرى» (من أغنية قدك المياس). أو حين يصل صباح فخرى إلى مقطع «مشتاق لك يا نور عيونى» مثلا ترتفع أيدى جميع الحضور فى حركة تكاد تكون موحدة، ويميل كل نحو من يحب أو من يريد أن يرسل له رسالة وهو يغنى مع صباح «حتى نعيد الزمن الأول» (من أغنية يا مال الشام).
***
الطرب فى حلب كالتراتيل، تدندن به الشفاة بصمت أو تصدح به الحناجر بعزم. الطرب فى حلب أسلوب حياة، من لا يحبه ينتظر حتى يحبه لاحقا فى مرحلة قادمة دون أن يعلن عدم التزامه به، فالحلبى يحب الطرب، حقيقة مطلقة لا تحتمل التشكيك! ومع تداخل تاريخ الموسيقى الحلبية بالإنشاد الدينى، أصبح للطرب منزلة أشبه بمنزلة الأديان لدى أهل المدينة: يتحدثون عن الطرب باحترام يشبه التبجيل، يستشهدون بأبيات فى أحاديثهم ولا يدارون أصواتهم وهم يدندنون فى الأماكن العامة.
***
تلتصق الموشحات والقدود بجدران حلب وتشهد على تغيير المدينة دون أن تتغير. كما المطبخ الحلبى، لا تحتمل الموسيقى العربية الكلاسيكية بنظرى لا الحداثة ولا إضافة نكهات جديدة إليها. أنا لا أؤمن بإقحام الـ «كينوا» على التبولة بدل البرغل مثلا وأرى فى هذا بدعة أشبه بالكفر، ولا أحب تحديث الموشحات تماشيا مع إيقاع العصر. لذا ففى زياراتى لحلب، وهى مدينة والدى، لم أكن أستسيغ مظاهر الحداثة بقدر ما كنت دوما متعطشة لمركز المدينة القديمة؛ حيث الجامع الكبير والأسواق من حوله. أظن أننى لم أمتلك حلب قط إنما عشت ما رواه لى والدى الحلبى ومن قبله جدتى التى انتقلت من مدينتها حماه إلى مدينة زوجها حلب حين ارتبطت به فى السادسة عشر من عمرها فتبنتها المدينة وحكت لى عن علاقتها بها. وبحكم أن أمى من دمشق وأننى عشت فى العاصمة، فأنا أشهر هويتى الحلبية من خلال ارتباطى بموسيقى ومطبخ حلب ودفاعى المستميت عنهما فى وجه ما رأيته من محاولات تحديث غير ناجحة: لماذا التحديث وهما فخر المدينة؟
***
لم أحب الموشحات فى طفولتى وكانت السهرات التى تدور حول الطرب تضجرنى فى سنواتى الأولى حين رافقت والدى إليها. كنت أستغرب حالة النشوة التى يدخلها الحضور وكنت أضحك حين تستخدم كلمة «سلطنة» فأتخيل والدى الحلبى ورفاقه وهم فى قفطانات وعمامة يدندنون «قل للمليحة فى الخمار الأسود» دون أن أفهم من هى المليحة وما هو الخمار أصلا. إلى أن كبرت وسافرت ووصلتنى كلمات أو نغمة على دون توقع فى سهرة فرفعت يدى تماما كما رأيت «الأهل» يفعلون منذ ثلاثين سنة أو أكثر وتمايلت على موسيقى أردد كلماتها دون تفكير «والله يا مجرى المى يابا سلم عليهم عليهم، صعبانة الفرقة على، يابا اشتقنا إليهم إليهم» (من أغنية فوق النخل وهى ليست من التراث الحلبى إنما أبدع صباح فخرى فى غنائها).
***
هكذا إذا حملت فى روحى روح حلب وورثته عن أبى وجدى من قبله ــ لذا فمع خبر رحيل صباح، وجدت نفسى أردد «سكابا يا دموع العين سكابا».
(*) بالتزامن مع “الشروق“