كانت الإنتخابات الطلابية قد جرت في ربيع العام 1967، وفاز فيها إتحاد الطلبة، وقد فصّلت في كرّاس صدر عن مطبعة طريق الشعب في بشتاشان والموسوم “لمحات من تاريخ الحركة الطلابية في العراق” (1983)، تفاصيل تلك الإنتخابات وما تركته من أثر إيجابي على تنشيط الأوضاع الحزبية وارتفاع نسبة الجدل والحوار الداخلي، والتي ترافقت مع ردّة الفعل الشعبية والتظاهرات العارمة ضد عدوان 5 حزيران/يونيو 1967.
وللأسف الشديد فإن الصراعات الداخلية للحزب كانت حادّة، بل شديدة التقاطعات، فانفجر الصراع الكامن والذي ظلّ يعتمر لسنوات، فانفصل فريق بإسم “القيادة المركزية” واحتفظ الفريق الثاني بإسم “اللجنة المركزية” وكنت في “منزلة بين منزلتين“، فمن جهة، أؤيد بعض توجّهات القيادة المركزية السياسية، ومن جهة أخرى، أعارض توجهاتها التنظيمية، خصوصاً إستخدامها للعنف ضدّ رفاق الأمس وضدّ قيادات شيوعية، حيث احتجز زكي خيري وقبله بهاء الدين نوري الذي تمكّن من الهرب، فضلاً عمّا اتبعته لاحقاً من أساليب كفاحية بإسم “العنف الثوري” بنقل تجارب أخرى تأثراً بالتيّار الجيفاري، وفي وضع أقرب إلى المغامرة والطفولة اليسارية.
كان صاحب الحكيم قد كرّس كل وقته لمواجهة الإنشقاق وقد عقدنا جلسات مطولة محاولاً إقناعي، وكنت قد شعرت بمرارة شديدة حينها وحيرة كبيرة وتوزع فكري ونفسي وصداقي. كما حاول رضا عبد ننة الإتصال بي لإقناعي الإنضمام إلى القيادة وفضّلت لبعض الوقت “العزلة المجيدة” كما كنت أسمع عنها ممن سبق أن عاشها في السجون، أيام راية الشغيلة، وحتى بعد انشقاق العام 1967 مثل كاظم فرهود الذي احتفظ باستقلاليته، ولم تكن تلك المرّة الأولى التي أشعر فيها بانفصال روحي عن التوجهات السائدة وأساليب العمل البيروقراطية.
وبما أنني لم أكن قيادياً أو مسؤولاً، بل كنت مجرّد شيوعي حالم، بدأت تساؤلاته تكبر مع مرور الأيام، ليودّع الإيمانية التبشيرية الدعائية وينتقل تدريجياً إلى التساؤلية النقدية العقلية، لذلك ازداد قلقي وكبر، ولكن تطور الأحداث كان كفيلاً بتغيير بعض قناعاتي وبدأت العمل مجدداً في المجال المهني (طلبة وحقوقيين وجمعية العلوم السياسية) وفيما بعد في المجال الحزبي مع احتفاظي بملاحظاتي التي كانت تتضخّم.
وأستطيع القول أن السجايا الأخلاقية لصاحب الحكيم قبل الإقناع السياسي أو المستوى الفكري كانت وراء بعض ليونتي تلك، وظلّ يتابع أوضاعي وساهم فترة في قيادة لجنة كنت عضواً فيها. وحين اشتدّت حملة الإعتقالات إنقطعت الإتصالات بيننا واتصل بعمّي شوقي وأبلغه بأن عليّ أن أكون شديد الحذر، حتى وإن كنت وجهاً معروفاً ومُنحت عضوية شرف من الإتحاد الوطني لطلبة العراق بعد مؤتمره الأول (نهاية العام 1969) مع نوري عبدالرزاق وماجد عبد الرضا ولؤي أبو التمّن تقديراً لدورنا في الحركة الطلابية.
وحين أصبح في موسكو وأنا في براغ بعد عام من الفراق تقريباً، طلب مني في رسالة معرفة لقائي مع الملّا مصطفى البارزاني حيث كنت على رأس وفد زاره في كلالة في أيار/مايو 1970، وكتبت له عن ذلك، بالخطوط التي كانت معروفة ومنشورة في نشرتي “كفاح الطلبة” و”طريق الشعب” (السرّية) وبعض القضايا الخاصة.
مواقف خاطفة
بعد عودتي إلى بغداد كان أول لقاء لي هو مع الحكيم “أبو محمد” في مقر لجنة بغداد، وحين عرف أنني سألتحق بالخدمة العسكرية، طلب مني قطع جميع علاقاتي الحزبية وعدم التردد على الأماكن الخاصة، بل وإنهاء علاقتي تماماً وكنت قد قرّرت ذلك، ولم ألتفت للتوجيهات الحزبية، ولم ألتقه مرّة أخرى سوى في دمشق 1980 حيث نظّم لقاءً لي مع الرفيق أبو خولة (باقر ابراهيم) وطلب مني الأخير إستلام مسؤولية العلاقات مع القيادة القومية السورية ومع القوى السياسية الأخرى. وحضرت مع عبد الرزّاق الصافي بعض إجتماعات الجبهة الوطنية والقومية التقدمية (جوقد) ومنها الإجتماع الذي تم فيه تجميدنا.
ولكن الحكيم بحكم الصداقة طلب مني الإنضمام إلى لجنة دمشق التي كان يديرها (لجنة داود) بالرغم من إثقالي بمهمة الإشراف على تنظيمات المثقفين، ثم لاحقاً الإشراف على تنظيمات الطلبة، وبعد ذلك الإشراف على العمل المهني والديموقراطي كما نطلق عليه الذي جمع (الطلبة والشبيبة والمرأة ورابطة الكتاب ولجنة المهجرين) وحاولت الإعتذار لكنه أصرّ علي، وكنت أحرر محاضرها وأكتب تقاريرها.
وحين استضفنا الرفيق عزيز محمد في إجتماع موسّع وبحضور نخبة من الكوادر وحضور الحكيم كذلك في منزل الرفيق علي السامرائي، قدّمته بالعبارات التالية: هذا أمينكم العام فصارحوه، وكنت أعرف ثمة إعتراضات وآراء ووجهات نظر وتحفّظات على السياسة العامة والتنظيمية، فضلاً عن تململات وإرهاصات مغايرة لسياسة الحزب بشان الحرب العراقية – الإيرانية، ومنها ما كنت أتبناه وما كتبت عنه.
علمت أن الحكيم لم يكن مع قرار عقد الجبهة الوطنية في العام 1973، خصوصاً التنازل لحزب البعث باعتباره يلعب دوراً متميّزاً في قيادة الجبهة والسلطة والمجتمع. وخلال الحرب العراقية – الإيرانية، أخذت بعض مواقفه تقترب من مواقفنا بإدانة الحرب ورفض المشروع الحربي والسياسي الإيراني وإن كان بتحفّظ. كما لم يكن مع نتائج المؤتمر الرّابع الذي حُرم من حضوره حيث كان قد وصل إلى المنطقة التي انعقد فيها بعد أن تسلل إلى بغداد وبقي فيها لنحو عامين اختفى لفترة منها في النجف في منزل شقيقة السّيد سلمان، لكن ذلك كله لم يشفع له لأنه احتسب على ملاك باقر ابراهيم المغضوب عليه ومجموعة المعارضة الحزبية حتى وإن لم يكن منها، فأبعد تحت حجج أمنية حاولت النيل منه والإساءة إليه.
وكنت حين إلتقيت به في طهران قد حاولت ثنيه من التسلل إلى بغداد وكتبت رسالتين عبر الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق) إحداها إلى المكتب السياسي والأخرى إلى الرفيق باقر ابراهيم ، لكن الرسالتين وقعتا بيد الأجهزة الأمنية الإيرانية بعد إلقاء القبض على المراسل كما علمت من أبو شروق لاحقاً. كما إلتقيت به في طهران في إحدى المرات بصحبة الرفيق قاسم سلمان (أبو الجاسم) والرفيق جميل إلياس منصور (أبو نغم أو أبو جمال) وكانا متوجّهين معه إلى كردستان وقد سمع مني ما حصل في مجزرة بشتاشان التي نجوت منها (أيار/مايو 1983). أما هو فقد توجّه إلى الداخل.
عذابات ومنفى
وبعد انفضاض المؤتمر الرابع والنتائج التي خرج فيها تقرّر أن يعمل الحكيم في طهران في الظروف الأمنية القاسية، خصوصاً بعد الإعتقالات الواسعة التي طالت حزب تودة الشيوعي الإيراني، وقد اتخذ جميع الإجراءات كي لا يقع بقبضة الجهات الأمنية، كما حصل للرفيق حيدر الشيخ الذي بقي في السجن لمدة خمس سنوات. ثم جاء إلى دمشق حيث إستقبلته بعد مراسلات وإتصالات عديدة، وقد كنا حينها نصدر صحيفة المنبر التي كنت أشرف على تحريرها، وقد هيّأت له مستلزمات المجيء عبر برقية من القيادة القومية، واستضفته ليومين في المنزل (حسب الإتفاق)، ثم انتقل إلى بيت حسين سلطان لعدّة أيام، إلى أن تم توفير سكن له، وظل خلال تلك الفترة على الهامش وهو ما يذكره في مذكراته، حيث لم توكل له أيّة مهمة.
واعتبر متعاطفاً مع تيار المعارضة الحزبية علماً بأن ماجد عبد الرضا كان قد فاتحه في براغ وكذلك بهاء الدين نوري وكل على انفراد، فاعتذر منهما كما أخبرني، وكنت أعرف رأيه وبعض ملاحظاته السلبية على نهج المعارضة الحزبية بما فيها مجموعة باقر ابراهيم، على الرغم من تأييده بعض وجهات نظرها، فقد اقترب من بعض مواقفنا السياسية والفكرية ، فضلاً عن العلاقات الصداقية الحميمة مع بعضنا، ولكنه كان متردّداً بشأن التنظيم وهو الموقف ذاته الذي اتخذه من الرفيق أبو خولة. وبقدر ما كان يدين الإجراءات التعسفية ضد المعارضة الحزبية فإنه كان ينتقدها أحياناً، مستعيداً تجربته مع راية الشغّيلة، وقد عبّر عن ذلك على نحو واضح خلال انتقالنا إلى براغ 1989 (عامر عبد الله وباقر ابراهيم وعدنان عباس) وقبل ذلك كان معنا حسين سلطان قبل عودته إلى العراق، وماجد عبد الرضا الذي كان قد سبقنا، وكان في زيارتنا المستمرة مهدي الحافظ الذي كان يأتي من فيينا ونوري عبد الرزاق من القاهرة، كما زارنا بهاء الدين نوري وفتح حوار معنا.
كان هدف زيارة الحكيم إلى براغ هو مراجعة السفارة العراقية للحصول على جواز سفر بعد تعليمات حزبية بالتوجه إليها، وكان ذلك قد تقرّر عقب إنتهاء الحرب العراقية- الإيرانية وترافق مع انهيار الأنظمة الإشتراكية في نهاية الثمانينيات واستكمال المفاوضات لتحقيق وحدة اليمن التي كنا نستخدم جوازات سفرها (اليمن الجنوبية). ثم تقرر على نحو شبه جماعي التوجه إلى بلدان اللجوء عشيّة غزو الكويت وبعيد كارثة الحرب. وقد استضفته في براغ لمدة ستة أشهر قبل أن أتوجه إلى لندن.
وحين حانت لحظة سفره إلى كوبنهاغن وكنت قد اتفقت مع أحد الأصدقاء البحرينيين لمرافقته وتأمين مستلزمات لجوئه ومساعدته، إلاّ أنه ظل طيلة مساء وليل ذلك اليوم يصعد وينزل وكأنه لم ينم. ونظر إليّ نظرة استفهام وتساؤل وفهمت معناها على الفور: أيليق بي أن أكون لاجئاً؟ وطلب مني مباشرةً الإقلاع عن الفكرة إلّا إذا كنت معه، ولكنني كنت قد أمّنت سفري إلى لندن وكان من الصعوبة تأمين ذلك له في فترة وجيزة وعملت كل ما في وسعي لكي أمدّد له الإقامة لمدة ستة أشهر. وطلب مني مرافقته إلى دمشق حيث كان يخشى الإيقاع به وكنت قد ذهبت قبل ذلك إلى دمشق لمرافقته إلى براغ عبر لارنكا (قبرص) حيث استضافنا الصديق العزيز فراس فاضل عباس المهداوي لمدة يومين.
ستبقى هذه السردية ناقصة لأنها لم تغطِ سوى شذرات من سيرة مناضل لا يمكن أن نعطيه حقّه ونحيط بكل جوانب ما قدّمه، فقد إجترح عذابات وحرمانات لا حدود لها وعاش خارج الأضواء زاهداً متواضعاً كتوماً محافظاً على سرية عمله حتى بالظروف الطبيعية، وقد كنت قد فرضت إسمه العلني حمايةً له في الشام على الرغم من تمنّعه في البداية، لكن ذلك شكَل، في ظروف الصراعات الحزبية والدسائس والمؤامرات والوشايات، ضمانةً له ضدّ تداخلاتٍ أمنية، لا سيّما وأن مواقفه كانت ضدّ الحصار والعدوان واحتلال العراق وهو ما وقع به آخرون.
عاش صاحب الحكيم شيوعياً نقيّاً ووطنياً أصيلاً وإنساناً شريفاً وهو في كلّ مراحل عمله امتاز بتعامله الإنساني وبروح المودة والتآزر والتضامن والرحمة بين الرفاق، ولذلك وقف ضدّ إجراءات القمع والتنحيات والمقاطعة الإجتماعية، وهي أساليب تنتمي إلى الحقبة الستالينية المظلمة.
(*) الحلقة الأولى: سوسيولوجية الشيوعية في النجف.. سيرة صاحب الحكيم (1)
(**) الحلقة الثانية: آل الحكيم.. بين فتوى تحريم الشيوعية والدعوة إليها (2)