يُقرأ المكتوب من عنوانه، ولا عزاء للبيان الوزاري المكتوب بحبر موروث منذ ما بعد إتفاق الطائف. بيانٌ تضمن عناوين إصلاحية معظمها مكرر، غير معجل، من سنوات وعقود. حتى بات إدعاء الإصلاح في لبنان لزوم ما لا يلزم، لتقوم على ركام وهم ادعائه سقالات سلطوية بأعمدة وصفائح طائفية وحزبية ومصلحية لا يجمع بينها الا مركز ثقل التحاصص، ولا يفرقها الا التحاصص أيضاً ليجمعها من جديد بعد مخاضات تجاذبات شد الأوزان وجذبها.
إذاً، لا تقل أصلي وفصلي، فأصل المرء ما قد حصل! حصل أن تشكلت الحكومة من معظم الأطياف السياسية الحاضرة بقضها وقضيضها تاريخياً إبان نشوء الأزمات المالية والاقتصادية وآناء تجذرها واستعصاء حلولها ثم تجميلها باخفاء خسائرها بـ”ذكاء غير حميد” لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة نيابة عن الجميع، ولشراء الوقت لرعاته وحماته تحديداً. هذه الأطياف متهمة بسوء الإدارة والفساد، وتراكم 100 مليار دولار ديناً عاماً وتبديد 100 مليار من ودائع الناس ومدخراتها، فضلاً عن مئات أخرى تبخرت بهبوط قيم الأصول العقارية منها وغير العقارية، الملموسة وغير الملموسة وصولاً الى نزف أثمَنها، أي الكفاءات والمهارات التي سلكت طرق الهجرة بمرارة شديدة في بلاد الله الواسعة.
ميقاتي ليس عجائبي الأفعال لتعويض هذا الكم الهائل من الدمار الاقتصادي والمالي والاجتماعي. انه رجل أعمال قناص فرص. استغل لحظة فراغ ما، وركب حصان طروادة جديداً قائماً على أقدام توازنات حزبية وطائفية كلاسيكية، ليس على قاعدة “داوني بالتي كانت هي الداء” بل إمعاناً في تجديد شباب متسلطين أرادوا بكل ما أوتوا من قوة التشبث بمواقعهم كي لا يشمت أعداءهم بهم. والأعداء هنا أشباح المجتمع المدني و”ثوار 17 تشرين”، إضافة إلى أميركا ومعظم الغرب والخليج العربي، ومن لف لفيف كارهي ما آلت إليه الأمور في لبنان بمن فيهم رعاة هذا الطرف أو ذاك في بازار، أو مزاد بيع السيادة اللبنانية بالقطعة أو بالمفرق، شرقاً أو غرباً.
ولأن دود الخل منه وفيه، تعثرت الحكومة عند أول المطبات السياسية والقضائية والأمنية. تعطلت اجتماعاتها بعد طلب فريق فيها تنحية المحقق القاضي طارق بيطار عن ملف تحقيق انفجار مرفأ بيروت، ثم تهدد مصير الحكومة برمتها بفعل الأزمة (المستفحلة منذ سنوات وغير المفتعلة آنياً) بين لبنان والسعودية ودول خليجية أخرى.
عبثاً يحاول ميقاتي بالطريقة الرواقية القائمة على قبول الواقع وكبح التوق للتغير والصبر على المشاق وتجاوز الانفعالات لتقطيع الوقت حتى الانتخابات النيابية. فماذا لو تعذر إجراء تلك الانتخابات؟ وماذا لو تعثر الاتفاق النووي بين أميركا وإيران؟ وماذا لو قامت حرب إقليمية؟ وماذا لو استمرت الأزمة مع دول خليجية أو تفاقمت أكثر؟ وماذا لو سقطت مأرب اليمنية؟
إذاً، فالواضح، وضوح الشمس في رابعة النهار، أن الاقتصاد ليس أولوية مطلقة لتبقى الأولويات، كما دائماً، عبارة عن “أجندات” سياسية وأمنية لهذا الطرف او ذاك من المنضوين تحت سقف سلطة الشيء ونقيضه.
وبين أبرز المؤشرات الدالة على عقم ما تتقدم به الحكومة من حلول، أو أفكار حلول اقتصادية، هو التفاعل السلبي لسعر الصرف العملة الوطنية. فبعد تحسن الليرة اللبنانية امام الدولار لعدة أيام غداة تشكيل الحكومة، عادت العملة الوطنية سريعاً الى التقهقر، فصعد صرف الدولار مقابلها 25 في المائة اضافية في شهرين فقط هما عمر حكومة ميقاتي “الانقاذية”، حكومة كانت وعدت بتهدئة سعر الصرف ان لم تستطع تقوية الليرة، فاذا بها تفشل فشلاً ذريعاً على هذا الصعيد.
اتضح تباعاً ان الحكومة تشكلت وبدأت العمل بلا أي خطة. جل ما في الجعبة كان وعد تفاوض مع صندوق النقد الدولي للحصول على قروض انقاذية تجر قروضاً اسعافية في حلقة جهنمية جديدة لا بديل لها ولا مناص منها.
تشكل فريق للتفاوض وتقدم مقاعده حاكم مصرف لبنان المسؤول الأول والأخير عن سياسات نقدية ومصرفية، طوال ثلاثة عقود من الزمن، كانت بين أبرز اسباب الأزمة. ويحاول هذا الفريق تهوين أرقام الخسائر والفجوات المالية على نحو أثار استهجان معنيين في صندوق النقد والبنك الدوليين والأمم المتحدة (الاسكوا) كانوا أثنوا على جرأة حكومة حسان دياب في اعترافها بحجم الخسائر وكيفية توزيعها. وهم الآن يحذرون من محاولات كنس القمامة لتخبئتها تحت السجادة، أو الإمعان في سياسات تحميل عموم المواطنين تبعات الأزمة دون غيرهم من السياسيين الفاسدين والرأسماليين الجشعين والمصرفيين (تحديداً كبار المساهمين في البنوك) الى جانب كبار المودعين. كما يحذر مراقبون من توجه “خبيث” لتحميل الدولة الجزء الأكبر من الخسائر للانقضاص على أصولها ومرافقها بأرخص الأسعار.
قبل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، تُمعن حكومة ميقاتي في ترشيد الدعم المقدم لسلع وخدمات ما يزيد فقر شرائح اجتماعية واسعة فقراً. فالاتجاه، بعد الغاء دعم المحروقات، هو نحو تخلي مصرف لبنان تدريجياً عن توفير دولارات لمستوردي الوقود، ما سيؤدي حتماً إلى ضغط إضافي على سعر الليرة بمقدار لجوء المستوردين الى السوق الموازية لتأمين الدولارات المطلوبة. وبعد إلغاء دعم معظم الأدوية، بدأ تقنين دعم أدوية الأمراض المزمنة والمستعصية. وفي أنابيب التخطيط بلا خطة مشاريع لزيادة تعرفة الكهرباء 24 ضعفاً ورفع حصيلة الرسوم الجمركية 8 اضعاف، ما يزيد العبء الشنيع على المواطنين شبه المعدمين بفعل تدهور قيمة رواتبهم ومداخيلهم بنسبة 90 في المائة بسبب الهبوط المريع لسعر صرف الليرة.
وكان صندوق النقد كما البنك الدولي أوصيا بوضع الإجراءات الاصلاحية في سلة كاملة مترابطة الأهداف مشفوعة بشبكة حماية اجتماعية للطبقات الفقيرة. إلا أن حكومة ميقاتي تعتمد، حتى اشعار آخر، سياسة تقطيع الوقت باعلان اجراء ما من هنا وآخر من هناك من دون الافصاح عن أي خطة شاملة حتى الآن.
وفي العشوائيات المتبعة حالياً مشاريع زيادات رواتب او منح مالية للموظفين وبدلات نقل، من دون تأمين موارد مالية مستدامة لذلك الا الاعتماد على مصرف لبنان لطبع العملة، مع ما لذلك من تداعيات على التضخم وأسعار معظم السلع التي ارتفعت بين 500 و1000 في المائة في سنتين والحبل على الجرار. أما البطاقة التمويلية الداعمة قليلاً لميزانيات الأسر الفقيرة فحدث ولا حرج عن فشل اطلاقها الذريع.
عبثاً يحاول ميقاتي بالطريقة الرواقية القائمة على قبول الواقع وكبح التوق للتغير والصبر على المشاق وتجاوز الانفعالات لتقطيع الوقت حتى الانتخابات النيابية. فماذا لو تعذر إجراء تلك الانتخابات؟ وماذا لو تعثر الاتفاق النووي بين أميركا وإيران؟ وماذا لو قامت حرب إقليمية؟ وماذا لو استمرت الأزمة مع دول خليجية أو تفاقمت أكثر؟ وماذا لو سقطت مأرب اليمنية؟ وماذا لو خسر ايمانويل ماكرون الانتخابات الفرنسية أمام اليمين المتطرف الكاره للعرب والمسلمين؟ وماذا بعد سيطرة الجمهوريين الترامبيين على الكونغرس في الإنتخابات النصفية المقبلة؟ وماذا لو التفت العرب جميعاً الى الاولوية السورية لتقديمها على ما عداها حتى لو كان الثمن لبنان؟ وماذا وماذا؟ هل يبقى ميقاتي رواقياً غير مبال على سجيته بانتظار المستحيل أم يستقيل ليضع السياسيين البشعين حفاةً عراةً أمام مرآة الحقيقة لمرة وحيدة وأخيرة قبل الدمار الشامل؟ ليته يفعلها، لكنه لن يفعلها، انه ابن المنظومة إياها حتى اثبات.. العكس.