فى هاتين الأزمتين استهلكت الدبلوماسية اتصالاتها المعلنة وغير المعلنة دون أن تتوصل حتى الآن إلى تسوية تمنع أى انزلاق محتمل إلى مواجهات عسكرية تكاليفها باهظة وعواقبها وخيمة.
لا يوجد من هو مستعد أن يتحمل تبعات المواجهات العسكرية، لا فى أوروبا ولا هنا فى العالم العربى، غير أن الانزلاق يظل محتملا بالنظر إلى التصعيد السياسى والإعلامى الجارى حاليا بغرض تحسين الأوضاع التفاوضية.
أسوأ مقاربة ممكنة عزل إحدى الأزمتين عن الأخرى، فالتداخل حادث بحسابات القوى والمصالح والمكانة التى تطلبها الأطراف المتنازعة.
بالنسبة للرئيس الأمريكى «جو بايدن» فهو تحت اختبار سياسى قاس ومزدوج أمام الرأى العام فى بلاده، الفشل فيه يكلف حزبه الديمقراطى خسائر موجعة فى الانتخابات النيابية المقبلة، كما يضرب صورته السياسية على نحو فادح بعد ما نالها من أضرار بأثر الانسحاب العشوائى من أفغانستان.
الفشل فى الأزمة الأوكرانية، التى تدخل فى صلب النظر الأوروبى لأمنه، يسحب عن الولايات المتحدة صفة زعيمة العالم الغربى، التى اكتسبتها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.. والفشل فى الأزمة الإيرانية يوسع أزمة الثقة الغربية فى قدرة الولايات المتحدة على قيادته فى عالم جديد وأمام تحديات مختلفة.
فى حال الفشل فإن تصدع المكانة الدولية للدولة التى كانت توصف بالقوة العظمى الأولى حادث لا محالة وانهيار حلف «الناتو» مسألة وقت.
الخيار الدبلوماسى يتصدر الأزمتين، لكنه قد لا يكون خيارا وحيدا بالانزلاق المحتمل.
وضع بايدن قيدا نهائيا على أى انزلاق فى المواجهات العسكرية بالأزمة الأوكرانية، لكنه تحدث عن «خيارات أخرى محتملة» فى الأزمة الإيرانية
لم تكن هناك نتائج يعتد بها فى القمة التى جمعت «بايدن» مع الرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» عبر دائرة تلفزيونية مغلقة توقف تدهور الأزمة الأوكرانية.
كان أقصى ما لوّح به «بايدن» أنه سوف يفرض عقوبات اقتصادية قاسية إذا ما أقدمت القوات الروسية على غزو أوكرانيا بصورة تماثل اجتياح شبه جزيرة القرم عام (2014).
فكرة الاحتكام إلى السلاح مستبعدة من قاموس الرئيس الأمريكى، والمغامرة بحرب نووية مستحيلة فى البيت الأبيض والكرملين على السواء.
هكذا فإن «الخيارات المتاحة» محدودة للغاية فى الأزمة الأوكرانية فيما قد تتسع بالانزلاق لخيارات أخرى ذات طبيعة عسكرية فى أزمة المشروع النووى الإيرانى.
إرسال قوات أمريكية للدفاع عن أوكرانيا «غير مطروح»، بذريعة أنها ليست عضوا فى حلف «الناتو»، حسب نص كلام «بايدن».
هكذا وضع بايدن قيدا نهائيا على أى انزلاق فى المواجهات العسكرية بالأزمة الأوكرانية، لكنه تحدث عن «خيارات أخرى محتملة» فى الأزمة الإيرانية.
هذا ما يدركه «بوتين» فى حساباته وتحركاته، فهو ينفى تماما وجود أية نوايا عدوانية على أوكرانيا، خشية أى انزلاقات بالفعل ورد الفعل إلى حرب مدمرة لا يريدها، دون أن يتوقف عن حشد عشرات الآلاف من القوات والمعدات العسكرية على الحدود.
الحشد العسكرى الروسى يستهدف بالمقام الأول الضغط على أعصاب الطرف الآخر فى الأزمة لتليين مواقفه فى أي مفاوضات ومساومات.
بصياغة ثانية، فإنه تلويح بالسلاح ردعا لأى تحركات أو تدريبات عسكرية أقدم، أو قد يقدم عليها، حلف «الناتو» فى البحر الأسود داخل الحزام الأمنى الاستراتيجى للدولة الروسية.
بصياغة ثالثة، فإنه طلب بالسلاح للعودة إلى «اتفاقية منسك»، التى تضمن عدم ضم أوكرانيا إلى حلف «الناتو».
بصورة أو أخرى فإن ما يطلبه سوف يحدث، لا توجد حلول أخرى.
إذا ما تمكن «بوتين» من أن يحقق كسبا استراتيجيا فى الأزمة الأوكرانية، برغم أي عقوبات اقتصادية منتظرة، فإنه ليس بوسع «بايدن» أن يتحمل أية خسائر أخرى فى الأزمة الإيرانية.
مشكلته – هنا ــ أكثر تعقيدا، فهو قد تعهد مرارا وتكرارا أثناء حملته الانتخابية بإحياء الاتفاق النووى مع إيران، الذى ألغاه عام (2018) «دونالد ترامب»، غير أن الرهانات لم تمض بالسهولة التى توقعها.
إذا ما جرى إحياء الإتفاق النووي فإن المنطقة كلها سوف تدخل حقبة جديدة، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكى المتوقع من العراق، تفترض تسويات واسعة فى الأزمات المزمنة التى استهلكت طاقة الإقليم ويبدأ بالوقت نفسه صراعا محتدما حول من يملأ الفراغ
راوحت المباحثات التى جرت فى فيينا مكانها بين التصعيد والتهدئة؛ تبادل الطرفان الأمريكى والإيرانى الاتهامات الخشنة دون إغلاق الأبواب أمام فرص حلحلة ما يعيق التوصل إلى إحياء الاتفاق النووى.
إذا ما جرى ذلك الإحياء فإن المنطقة كلها سوف تدخل حقبة جديدة، بالتزامن مع الانسحاب الأمريكى المتوقع من العراق، تفترض تسويات واسعة فى الأزمات المزمنة التى استهلكت طاقة الإقليم ويبدأ بالوقت نفسه صراعا محتدما حول من يملأ الفراغ.
السؤال: ما الذى قد يحدث إذا أخفقت مباحثات فيينا فى التوصل إلى أية تسوية؟
لا الأمريكيون يطلبون الحرب مع إيران ولا الإيرانيون بوارد طلب هذه المواجهة، غير أنها قد تحدث بالانزلاق.
يصعب أن تتحمل الإدارة الأمريكية الحالية عبء فشل ثالث بعد أفغانستان وأوكرانيا، وقد تجد نفسها مدفوعة لعمل عسكرى بالتحريض أو بالإحباط!
حسب «بايدن» فإنه لن يسمح لإيران بحيازة سلاح نووى تحت أى ظرف.
الصياغة نفسها توحى بعدم استبعاد العمل العسكرى، أو بأنه قد تكون هناك «خيارات أخرى».
الاتصالات العسكرية والاستخباراتية المتصاعدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل أقرب إلى رسائل ملغمة للمفاوض الإيرانى، بأن العمل العسكرى ممكن.
الأمريكيون لا يوافقون تماما على الخيار العسكرى لكنهم لا يمانعون فى التلويح به خشية أن تمضى إيران فى مشروعها النووى إلى آخره، فيما يسعى الإيرانيون لرفع سقف مطالبهم خاصة إلغاء العقوبات عن بلادهم، كل العقوبات المتعلقة بالملف النووى أو بأية قضايا أخرى، دون إغلاق باب التفاوض، حتى لا تتوفر ذريعة للعمل العسكرى بمشاركة إسرائيلية مرجحة.
بالنسبة لـ«بوتين» فإن الأزمة النووية الإيرانية تدخل فى قائمة أولوياته، إذا ما جرت تسوية فهو حاضر بأى ترتيبات وتسويات لأزمات الإقليم، وإذا ما أخفقت مباحثات فيينا فى التوصل لأية تسوية فهو متمركز وحاضر طلبا لمصالح استراتيجية.
بالسيناريوهين، التسوية أو الانزلاق، فإن العالم العربى سوف يختلف فى حساباته وأوضاعه وموازين القوى والمصالح فيه.
الأزمتان معا، بكل حمولات الخطر، يدفعان للاعتقاد بأننا أمام اختبارات قوة على حافة النيران قبل ميلاد نظام عالمى جديد يوشك أن يعلن.
(*) بالتزامن مع “الشروق“