عندما تحضر إسرائيل.. ويغيب العرب عن فيينا (1)

تحضر إسرائيل ويغيب النظام العربي في المواجهة الديبلوماسية الدائرة في فيينا حول المشروع النووي الإيراني، علماً أن هذه المواجهة تتعلق بشكلٍ أو آخر بالمجال الجيوسياسي العربي وتنعكس نتائجها على مصائر العرب ومستقبلهم.

هل في إمكان العرب اليوم في ظلِّ تحلّل آليات التضامن والعمل المشترك، الانخراط في عملية بناء ثقة وحوار وتفاوض مع إيران وقد باتت لها اليد العُليا في الأمن والاستقرار الإقليمي؟

هل في إمكان المجموعة العربية الآن أن تدخل في صفقة أخذ ورد مع الجمهورية الإسلامية على قاعدة “نعطيكم في هذه النقطة ونحصل في المقابل على هذه النقطة”؟

في ضوء هذه الأسئلة وغياب الموقف العربي مما يدور من مداولات بين إيران والدول الكبرى، تراني مدفوعاً إلى نفض الغُبار عن مبادرة “رابطة دول الجوار العربي” التي طرحها الدكتور عمرو موسى الأمين العام السابق لجامعة الدول العربية في مؤتمر القمة العربية المنعقد في مدينة سرت الليبية أواخر آذار/مارس 2010. وقد أثارت هذه المبادرة ردود فعل واسعة تمحورت حول العلاقات العربية بتركيا وإيران، وذلك وسط حالة تشكيك بدوافعها وتساؤلاتٍ عن مغزى توقيتها في مرحلةٍ بدا فيها النظام العربي في أضعف حالاته عقب حرب الكويت والغزو الأميركي للعراق (2003).

تبيّن أنّ حالة الرفض لمقترح عمرو موسى تأتي من دائرتين متقابلتين: دائرة القطيعة الكُليّة المتمثلة في مصر والسعودية، ودائرة احتكار الورقة الإيرانية التي تقنّعت برفضٍ شاميٍّ مبطّن مردّه إلى إدراك دمشق أن مقترح “رابطة دول الجوار” يُعمّم فائدة القيمة الإستراتيجية الإيرانية على مجموع العرب، بينما تريد سوريا أن تُبقيها ميزة بيدها في وقت تراجَعَ الدور الإقليمي العربي مُحدثاً فراغاً سعت لملئه قوى إقليمية أخرى أبرزها إيران وتركيا وإسرائيل.

كان عمرو موسى العارف بالخفايا العربية، يرى في حينه أن المسؤولين المصريين هم أكثر تشدّداً تجاه إيران مقارنةً بنظرائهم السعوديين، والسبب هو الفيتو المصري على إيران من زاوية الحرص الأعمى على الدور الإقليمي، وذلك على الرغم من أنهم كانوا يخشون من الدور التركي أكثر مما يخافون من الدور الإيراني، لكن ما كان يمكنهم إعلانه من اعتراضات في شأن إيران لم يكن مسموحاً في شأن تركيا التي تحوز على شرعية سُنّية.

حالة الرفض لمقترح “رابطة دول الجوار العربي” الذي قدّمه عمرو موسى كانت تأتي من دائرتين متقابلتين: دائرة القطيعة الكُليّة المتمثلة في مصر والسعودية، ودائرة احتكار الورقة الإيرانية التي تقنّعت برفضٍ شاميٍّ مبطّن مردّه إلى إدراك دمشق أن مقترح “رابطة دول الجوار” يُعمّم فائدة القيمة الإستراتيجية الإيرانية على مجموع العرب

ويذهب ديبلوماسي عربي راقب عن كثب ملابسات مبادرة “رابطة دول الجوار”، إلى أن الموقف السلبي الرسمي من أنقرة كان يعود إلى “النموذج التركي” الذي بدا في ذلك الوقت مقبولاً من النخب العربية ويحظى بتأييد شعبي واسع في المنطقة، ويخلص إلى أن تركيا كانت مُهيأة بفضل مقترح “رابطة دول الجوار” لأن تُكرّس دورها الإقليمي، خصوصاً أن لديها القدرة على الحوار مع العرب بمرونة أكبر من الإيرانيين.

لم يكن لدى السعوديين في حينه ما يشبه ادعاء المصريين الذي يدفعهم إلى مقاربة الدور التركي باعتباره خطراً على سياستهم الإقليمية، خصوصاً أن حكومة رجب طيّب أردوغان لم تكن تخفي تصورها أن العالم لا معنى له من دون العرب، الأمر الذي يفترض أن الزواج بالعرب واجب إن لم يكن حاصلاً بالفعل.

الهدف الأساسي عربي

كانت المقبولية الشعبية العربية لإيران في الميزان في ذلك الوقت، وكان يجري التعامل معها من قبل خبراء متنوّرين تفتقدهم العواصم العربية الكبرى اليوم. كان التصور يقوم على الدخول مع إيران في إطار مشترك للتشاور، يسمح بعملية مراقبة شفافة تُبطل مبرّرات الفيتو الناتج من الخوف، بينما الهدف الأساسي من تأطير الحوار مع إيران داخل مؤسسة أو بُنية سياسية هو الحؤول دون استبعاد العرب عن التفاوض على الملف النووي وجعلهم طرفاً أساسياً فيه، ذلك أن الفكرة الأساسية لمبادرة عمرو موسى هي أن يصبح العالم العربي مركز ثقل وتجمع دولي قادر على جذب الدول المحيطة وبناء علاقات تفاعل بنّاء معها تقوم على المصالح المتبادلة في كافة المجالات.

في المقابل، كانت الحركة الأساسية للخارجية المصرية تدفع في اتجاه العمل لإبعاد إيران عن المجال الجيوسياسي العربي، وهذه مسألة معقدة تتعلق بنظرة الدولة في مصر إلى مكانتها ودورها الإقليميين. وهكذا نجحت المحاولة المصرية على قصورها الاستراتيجي، في منع إدخال إيران في مؤسسة للتنسيق والحوار مع العرب، لكن القاهرة أثبتت عجزها عن تبنّي مقاربة إيجابية للتعامل مع هذا الموضوع الذي ظلّ يدقّ أبوابها بقوّة، بدليل أن التصور الذي كان وراء مقترح هيئة دول الجوار الإقليمي صار أمراً واقعاً عقب الغزو الأميركي للعراق (2003)، وتمكن إيران وتركيا من الدفع بآليّة “دول جوار العراق”. كما صار واضحاً من الشلل الذي ضرب النظام الإقليمي العربي أن أيّ تصور لمستقبل العرب يُخرجهم من حالة الانهيار والتشتّت، يصعب تدويره بعيداً عن بُنية إقليمية تتولى تنظيم العلاقات والخلافات مع الإيرانيين والأتراك.

إقرأ على موقع 180  فيينا في مأزق.. والشرق الأوسط على فوهة أسابيع الغليان

لقد تجاوزت دورة الأيام والأحداث الدافع إلى إحياء مبادرة “رابطة دول الجوار الإقليمي” أقلّه لتفكّك آليات العمل العربي المشترك من جهة، وتموضع إيران بقوّة في حيثيات الصراع العربي – الإسرائيلي، وتحوّلها إلى عامل فاعل في تطور المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى. بل يمكن القول أن التداخل والتفاعل بين السياسة الإقليمية لإيران ومواجهة التحدي الإسرائيلي بات واقعاً يومياً ولم يعد مفيداً تجاهل هذا الواقع الجيوبوليتيكي الذي يفرض نفسه على طاولة المحادثات النووية في فيينا، ويُفسّر الحضور الإسرائيلي الضاغط من طريق المفاوضين الأوروبيين والأميركيين.

غداة توقيع الاتفاق النووي للعام 2015، ظهرت مؤشرات على أن الإدارة الأميركية تعتبر هذا الاتفاق مُبشّراً بظهور إيرانٍ مختلفة مشابهة للاتحاد السوفياتي عندما أصبح تحت قيادة ميخائيل غورباتشوف. ولم تكن التصريحات التي أدلى بها الرئيس باراك أوباما للصحافي توماس فريدمان في الخامس من نيسان/آبريل 2015 حول “احتمال تغيّر إيران” سوى أحد المؤشرات على أنه يُفكر بهذه الطريقة، لكن قليلة كانت الأدلة التي تُشير إلى أن القيادة المتشددة المحيطة بالمرشد الأعلى آية الله خامنئي مُهتمة بالتقارب مع الولايات المتحدة، بل كانت تذهب في اتجاه معاكس تؤكده تجارب تطوير الصواريخ الباليستية وخطوات مُتحدية لوجود البحرية الأميركية في الخليج، وتوسع النفوذ الإيراني في سوريا.

كذلك لم يكن شركاء أميركا وفي مقدّمهم إسرائيل ودول وازنة في مجلس التعاون الخليجي يرون أن إيران مُهيأة لأن تشهد تغييراً في أيّ وقت قريب. وإذا كان معلوماً أن هذه الدول تتوجّه نحو الولايات المتحدة عندما تعصف بها الأزمات، فإنها لا تُسعد دائماً بالردِّ الذي قد تتلقاه من واشنطن. لذلك نرى الرياض وأنقرة، وهما أقوى شركاء أميركا في المنطقة، تعملان على نحو متزايد لفتح خطوط مع إيران وحليفتها الجديدة روسيا، أو التعاون معهما لتعويض الانكفاء النسبي الأميركي نتيجةً للإستدارة الإستراتيجية نحو الصين. وفي أحيان كثيرة، يُفسح غياب القيادة الأميركية لسياساتٍ أو خطواتٍ مستقلة تنطوي على تحديات خطيرة للإدارة الأميركية. والأمثلة على ذلك لا تقتصر على التعاون التركي – الروسي أو الشراكة التجارية والصناعية بين إسرائيل والصين، فضلاً عن الاستثمارات المتنامية للصين في السعودية ودولة الإمارات.

رأينا كيف أن السياسة الواقعية الإيرانية استطاعت بطُرق معقّدة يُتيحها التركيب الامبراطوري للديموغرافيا والجغرافيا والذاكرة التاريخية، تحويل الغزو الأميركي للعراق لمصلحة صُعودها قوّة إقليمية كبرى تمهيداً لتحييد أضرار النفوذ الأميركي في بلاد الرافدين بقبول نوع من الإدارة المشتركة للأزمة العراقية

الذاتية ومشكلة القوّة

هذه كانت مقدمات تساعد في إجلاء الصورة والمعنى على طريقة المفكر العربي أنور عبد الملك، الذي يؤكد في معرض نقده النزعة الأيديولوجية التي اجتاحت أحدث موجات التفكير العربي، أن “إعطاء الأولوية للتأثير السياسي المحوري للجيوبوليتيكا كما يُحدّدها عُمق مجالنا التاريخي، يعني التخلي عن (النزعة) الذاتية، أي عن إعطاء الأولوية للمعالجة الأيديولوجية لمشكلة القوّة”. ويُنبّه عبد الملك إلى أن “النهج السليم الذي وضعه ابن خلدون وآخرون، يتمثل في الربط بين الثقافة والقوة، بين الفكر والفعل، بين عالم الأفكار والطريق الصعب للسياسة الواقعية”.

إذا حاولنا أن نعتمد هذا “الباراديغم” لفهم المسألة الإيرانية، نجد أن الطاقة البشرية الهائلة لثورة استقلالية مناهضة للإمبريالية تتجاوز الحدود القومية لتصطدم بالحاجز العربي (العراقي) وتتفاعل معه منجذبةً نحو “العتبات المقدّسة” في العراق وفلسطين لملء فراغ القوّة العربية الناتج من استقرار “العصبية” السُنّية بالمعنى الخلدوني على التسوية مع إسرائيل غير العادلة وغير المتوازنة. وقد تبلورت اتجاهات السياسة الإقليمية لإيران “في الطريق الصعب للواقعية السياسية” أي في خضمّ مقارعة النفوذ الغربي والتدخلات الأميركية ومصاعب الحصار منذ احتلال السفارة الأميركية في طهران وأزمة الرهائن (1979)، والحرب المفروضة من خلال العراق (1980-1988)، إلى أن تمّ فرض التراجع على الإمبراطورية الأميركية في العراق في السنوات الأخيرة.

هذه التجربة الطويلة تُبيّن أن النخبة القيادية الإيرانية ذات الهُوية الوطنية – الإسلامية يمكنها بفضل موارد الجيوبوليتيكا الموزّعة بين آسيا الوسطى وحوض قزوين، والخليج وشبه الجزيرة العربية، والعراق والمشرق العربي، تفكيك سياسات لا تتوافق مع المصالح الوطنية ومع تقديرها لذاتها ودورها الإقليمي في الشرق الأوسط. ولقد رأينا كيف أن السياسة الواقعية الإيرانية استطاعت بطُرق معقّدة يُتيحها التركيب الامبراطوري للديموغرافيا والجغرافيا والذاكرة التاريخية، تحويل الغزو الأميركي للعراق لمصلحة صُعودها قوّة إقليمية كبرى تمهيداً لتحييد أضرار النفوذ الأميركي في بلاد الرافدين بقبول نوع من الإدارة المشتركة للأزمة العراقية.

(*) بعد غدٍ الأربعاء، الجزء الثاني والأخير بعنوان: إيران النووية.. والشراكة الصعبة مع روسيا والصين    

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  إيران.. الحرب على مدى كاتيوشا؟