في كلا البلدين (الولايات المتحدة والصين)، تتنامى المخاوف من أن التنافس قد يتصاعد إلى صراع مفتوح. في العقد الماضي، تحول الإجماع في واشنطن وبشكل حاسم لمصلحة موقف أكثر تصادماً تجاه بكين، وهي العملية التي بلغت ذروتها خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، والتي عبرت عن العداء الصريح للصين وتشويه سمعة الحزب الشيوعي الصيني.
أنتج التغيير الأخير في الإدارة الأميركية لمصلحة الديموقراطيين لهجة مختلفة، ولكن ليس تحولاً جذرياً في الجوهر: تؤكد التوجيهات الاستراتيجية المؤقتة للأمن القومي لإدارة جو بايدن، والتي صدرت في آذار (مارس) الماضي، أن الصين “هي المنافس الوحيد المحتمل أن يكون قادراً على الجمع بين الاقتصاد والدبلوماسية، والقوة العسكرية والتكنولوجيا لتشكيل تحد مستدام لنظام دولي مستقر ومنفتح”.
ويجادل كثيرون في واشنطن بأن هذا الإجماع الجديد الأكثر صرامة بشأن الصين ظهر رداً على تحركات جازمة، بل وعدوانية من جانب بكين. ومن وجهة نظر هؤلاء، فقد أجبرت الصين الولايات المتحدة على اتخاذ موقف أكثر حزماً.
يظل التوجه الرسمي العام للحزب الشيوعي الصيني هو أن العلاقات الثنائية يجب أن تسترشد بمبدأ “لا صراع، لا مواجهة، احترام متبادل، وتعاون مربح للجانبين”، كما وصفها الرئيس الصيني شي جين بينغ في أول محادثة هاتفية له مع نظيره الأميركي جو بايدن، في شباط (فبراير) الماضي. مع ذلك، ومثلما أصبحت وجهات النظر الأميركية بشأن الصين أكثر تشدداً في السنوات الأخيرة، أصبح العديد من المسؤولين الصينيين ينظرون إلى الولايات المتحدة بنظرة باهتة. الحكمة التقليدية في بكين ترى أن أميركا هي التحدي الخارجي الأكبر لأمن الصين القومي وسيادتها واستقرارها الداخلي.
يعتقد معظم المراقبين الصينيين حالياً أن الولايات المتحدة مدفوعة بالخوف والحسد لاحتواء الصين بكل الطرق الممكنة. وعلى الرغم من أن نُخب السياسة الأميركية تدرك بوضوح كيف ترسخ هذا الرأي في الصين، إلا أن العديد منهم يفتقدون حقيقة أنه من منظور بكين، فإن الولايات المتحدة – وليس الصين – هي التي عززت هذه البيئة العدائية الجديدة، لا سيما من خلال ما يعتبره الحزب الشيوعي الصيني حملة طويلة الأمد للتدخل في الشؤون الداخلية للصين بهدف إضعاف قبضة الحزب على السلطة. من شأن الفهم الأفضل لهذه الآراء المتباينة للتاريخ الحديث أن يساعد البلدين على إيجاد طريقة لإدارة المنافسة بينهما وتجنب صراع مدمر لا يريده أحد.
يعتقد معظم المراقبين الصينيين أن الولايات المتحدة مدفوعة بالخوف والحسد لاحتواء الصين
الشعور متبادل
ليس من الصعب أن نفهم لماذا يرى المسؤولون الأميركيون الصين كمنافس. يقدر معظم المحللين أنه بحلول نهاية عام 2021، سيكون الناتج المحلي الإجمالي الصيني يساوي حوالي 71% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. بالمقارنة، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، خلال الحرب الباردة، كان الناتج المحلي الإجمالي للإتحاد السوفييتي يساوي أقل من 50% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، حلت الصين محل الولايات المتحدة كأكبر وجهة للاستثمار الأجنبي. يشعر الأميركيون بشكل متزايد أنه في المنافسة مع الصين، فإن الزخم يكون بجانب بكين.
مع ازدياد ثراء الصين وقوتها، انتقد السياسيون الأميركيون، الذين يأملون في الظهور بمظهر صارم، الحزب الشيوعي الصيني بشدة، واستغلوا المخاوف العامة بشأن اختلال التوازن التجاري بين الولايات المتحدة والصين، واختراق الصين المزعوم للمؤسسات الأميركية، وسرقة الأسرار التجارية، والهجرة الصينية غير الشرعية.
في العام 2020، اتهم الرئيس دونالد ترامب الصين مراراً وتكراراً بنشر فيروس COVID-19، مشيراً إليه باسم “فيروس الصين”، ولا تزال الشكوك في أن بكين قد تضلل العالم بشأن أصول الفيروس. في عهد بايدن، أصبح الخطاب الأميركي الرسمي بشأن الصين أقل عدوانية ولكنه لا يزال يعكس مزاجاً عدائياً. قال بايدن في أول مؤتمر صحفي له، في آذار (مارس) الماضي، إن الصين “لديها هدف عام يتمثل في أن تصبح دولة رائدة، وأغنى دولة في العالم، وأقوى دولة في العالم. هذا لن يحدث في عهدي، لأن الولايات المتحدة ستستمر في النمو والتوسع”.
الشكوك حول الصين لا تقتصر على المسؤولين والنخب الأميركية. بحلول الخريف الماضي، أفاد 73% من الأميركيين الذين شملهم استطلاع للرأي بأنهم يحملون وجهة نظر سلبية تجاه الصين، وفقاً لمركز “بيو” للأبحاث. قد يعكس هذا جزئياً تحولاً في عقلية الأجيال. يميل الأميركيون الأكبر سناً إلى رؤية أقرانهم الصينيين كطلاب أو شركاء صغار، حريصين على التعلم من التجارب الأميركية. ومع ذلك، يواجه الأميركيون الأصغر سناً صيناً أكثر حزماً، وقد يكونون أقل رعاية – وبطريقة ما أقل تعاطفاً – مع نظرائهم الصينيين (…).
اليد الخفية
يكمن وراء التشدد الأخير في وجهات النظر الصينية بشأن الولايات المتحدة مصدر عداء أعمق وأقدم. من وجهة نظر الصين، كان التهديد الأكبر لسيادة الصين وأمنها القومي منذ فترة طويلة هو التدخل الأميركي في شؤونها الداخلية بهدف تغيير النظام السياسي للبلاد وتقويض الحزب الشيوعي الصيني. غالباً ما يفشل الأميركيون في تقدير مدى أهمية هذا التاريخ لنظرائهم الصينيين ومدى تأثيره على وجهات نظر بكين تجاه واشنطن (…).
في أواخر سبعينيات القرن الماضي، أدت سياسة “الإصلاح والانفتاح” التي انتهجها الزعيم الصيني دنغ شياو بينغ إلى مناخ من الدفء في العلاقات الأميركية الصينية. ازدهرت الأنشطة التجارية وروابط المجتمع المدني بين البلدين في الثمانينيات. ومع ذلك، غذَّت العلاقات الوثيقة شكوك الصين في أن الأميركيين كانوا يعتزمون زرع بذور المعارضة في الصين والإطاحة في نهاية المطاف بسلطة الحزب الحاكم. وجاءت التغطية المكثفة لوسائل الإعلام الأميركية لتظاهرات ميدان “تيان ان مين” عام 1989 والعقوبات التي فرضتها واشنطن وحلفاؤها على بكين في أعقاب تلك الأحداث لتؤكد مخاوف الحزب الشيوعي من النوايا الأميركية.
في أواخر التسعينيات، شنت بكين حملة على “فالون جونج”، وهي منظمة حدَّدها الحزب الشيوعي على أنها “طائفة شريرة”، فرَّ زعيمها وبعض أتباعه إلى الولايات المتحدة وأقاموا هناك معقلاً لهم، وندَّد مجلس النواب الأميركي بالصين، ووجهوا إليها تهمة “اضطهاد” الجماعة وأتباعها. كما استضافت الولايات المتحدة عدداً من المنشقين الصينيين وقدمت لهم دعماً ثابتاً. في تشرين الأول/أكتوبر 2010، مُنح ليو شياوبو، وهو مفكر معروف وناقد شرس للحزب الحاكم، جائزة نوبل للسلام. وهنأ مجلس النواب الأميركي ليو ودعا الصين إلى إطلاق سراحه من السجن. من المعتقد على نطاق واسع في الصين أن السياسيين الأميركيين دفعوا لجنة نوبل لمنح الجائزة إلى ليو.
في نظر الصينيين، لطالما كان التدخل الأميركي هو التهديد الأكثر أهمية لسيادة الصين
يشعر المسؤولون الصينيون بالغضب من التدخل الأميركي في مناطق مضطربة في بلادهم. ففي عام 2008، عندما وقعت أعمال شغب في لاهاسا، عاصمة التيبت، رأى الحزب الشيوعي الصيني أن العنف كان نتيجة متعمدة لدعم الولايات المتحدة طويل الأمد للانفصاليين التيبتيين الذين يعيشون في الخارج بقيادة الدالاي لاما، الذي حصل على تسعة اجتماعات مع الولايات المتحدة بين عامي 1991 و2008. أكدت وسائل الإعلام الحكومية الصينية في أوائل عام 2009 أن “عصابة الدالاي لاما أصبحت في الواقع أداة للتدخل الأميركي الوقح في الشؤون الداخلية للصين ومحاولات تقسيم البلاد”. في عام 2018، سنَّ ترامب قانوناً يطالب وزارة الخارجية الأميركية بمعاقبة المسؤولين الصينيين الذين يمنعون الأميركيين من السفر بحرية إلى التيبت، وهي خطوة أدانتها وزارة الخارجية الصينية باعتبارها “تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية للصين”.
إنها تايوان
في الآونة الأخيرة، أصبحت منطقة شينجيانغ، في غرب الصين، مصدراً رئيسياً للاحتكاك. تتهم بكين “أيدٍ سوداء” بالوقوف وراء أعمال الشغب العنيفة التي وقعت هناك في تموز/يوليو 2009 وأن نشطاء الأويغور في الولايات المتحدة، الذين تلقوا التشجيع والدعم من المسؤولين والمنظمات الأميركية، تصرفوا كـ”اليد السوداء” وراء الاضطرابات. في عام 2019، اتهمت جماعات حقوق الإنسان في الولايات المتحدة الحزب الشيوعي الصيني بالانخراط في مراقبة وتعذيب الأويغور والأقليات المسلمة الأخرى، واحتجاز ما لا يقل عن مليون شخص في معسكرات في شينجيانغ. في عام 2020، أقرَّ الكونغرس الأميركي تشريعاً يُلزم الحكومة الفيدرالية بالإبلاغ عن الانتهاكات في المنطقة. وفي آذار (مارس) 2021، وصفت إدارة بايدن تصرفات الصين في شينجيانغ بأنها “إبادة جماعية”، وفرضت عقوبات على المسؤولين الصينيين المسؤولين عن الشؤون الأمنية في المنطقة. ونفت بكين مراراً وتكراراً هذا الادعاء. واتهمت واشنطن بأنها “مهووسة بتلفيق الأكاذيب والتخطيط لاستخدام القضايا المتعلقة بشينجيانغ بهدف احتواء الصين وخلق فوضى في البلاد”، على حدّ تعبير المتحدث باسم البعثة الدائمة للصين إلى الأمم المتحدة.
تمثل سياسة الولايات المتحدة تجاه هونغ كونغ مصدراً آخر طويل الأمد لانعدام ثقة الصين بها. في عام 2014، حدثت سلسلة من احتجاجات الشوارع، عُرفت باسم “احتلوا الوسط!” (أو “حركة المظلَّة”) في هونغ كونغ كرد فعل على قرار بكين إصلاح النظام الانتخابي للإقليم. اعتقدت بكين أن الحكومة الأميركية والمنظمات غير الحكومية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً لها قد ساعدت في تنظيم تلك الاحتجاجات. عندما اندلعت الاحتجاجات مرة أخرى في 2019-2020 ردا على التغييرات المقترحة على اتفاقية تسليم المجرمين بين البر الرئيسي وهونغ كونغ، اتخذت قوات الأمن إجراءات صارمة وفرضت إدارة ترامب عقوبات على عدد من المسؤولين الصينيين وهونغ كونغ. في آذار (مارس)، أضافت إدارة بايدن عقوبات جديدة رداً على فرض بكين لقانون جديد مقيد للأمن القومي في هونغ كونغ.
إذا فشلت أميركا والصين في إدارة المنافسة بينهما، سيواجه العالم الانقسام والاضطراب والصراع
أخيراً، لم تولد أي قضية القدر ذاته من عدم ثقة الصين في الولايات المتحدة مثل وضع تايوان. لعقود من الزمان، كان لسياسة واشنطن “صين واحدة” بشكل عام التأثير المقصود المتمثل في منع الخلاف حول الجزيرة من إثارة نزاع أميركي صيني. ولكن كان هناك العديد من الأخطاء الوشيكة، وقدرة السياسة على التغلّب على التوترات آخذة في النفاد. في عام 1995، عندما اكتسبت الفصائل المؤيدة للاستقلال في تايوان زخماً، حصل زعيم الجزيرة، لي تونغ هوي، على تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة لزيارة جامعة كورنيل، جامعته، حيث ألقى خطاباً أثار حفيظة بكين. وكرد فعل، أجرت الصين تدريبات عسكرية بالقرب من تايوان، وأرسلت واشنطن مجموعتين قتاليتين من حاملات الطائرات إلى المنطقة في ربيع عام 1996. ومن وجهة نظر بكين، لم تترك الأزمة مجالاً للشك في أن واشنطن ستظل حجر عثرة رئيسي أمام التوحيد. أثناء إدارة الزعيم التايواني ما ينج جيو (2008 – 2016) هدأت التوترات بين بكين وتايبيه. لكن منذ عام 2016، عندما تولى الحزب الديموقراطي التقدمي المؤيد للاستقلال السلطة في تايبيه، أصبح موقف بكين متشدداً مرة أخرى. صعّدت الصين بثبات ضغوطها السياسية والعسكرية على تايوان لردع الحزب الديموقراطي التقدمي عن اتخاذ خطوات نحو الانفصال.
في السنوات الأخيرة، بدأت واشنطن في تخطي الأمور عندما يتعلق الأمر بتايوان. في كانون الأول (ديسمبر) 2016، عندما اصبح “الرئيس المنتخب”، تلقى ترامب مكالمة هاتفية من الزعيم التايواني تساي إنغ وين لتهنئته بفوزه في الانتخابات، وهي محادثة أثارت احتجاجات غاضبة في بكين. وبالرغم من أن ترامب نفسه لم يبدُ أنه يركز بشكل خاص على تايوان، إلا أنه وقَّع عدداً من التشريعات التي تهدف إلى تعزيز العلاقات الأميركية التايوانية وتعزيز مكانة الجزيرة الدولية. وفي كانون الثاني (يناير) أصبح بايدن أول رئيس أميركي منذ عام 1978 يستضيف مبعوث تايوان إلى الولايات المتحدة في حفل تنصيبه. بعد أيام من ذلك، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بياناً أكدت فيه التزام واشنطن “الراسخ” بالجزيرة.
إسقاط الحزب
يعتقد الحزب الشيوعي الصيني أن كل هذه المحاولات الأميركية المتصورة لإثارة المعارضة وزعزعة استقرار الصين هي جزء من استراتيجية أميركية متكاملة لتغريب وتقسيم الصين ومنع البلاد من أن تصبح قوة عظمى. وتعتقد بكين أن واشنطن كانت القوة الدافعة وراء “الثورات الملوَّنة” التي حدثت في العقد الأول من هذا القرن في دول الاتحاد السوفيتي السابق، وأن الحكومة الأميركية مارست حركات احتجاجية ضد الأنظمة الاستبدادية في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الثورات العربية 2010-2011. ويعتقد الحزب الشيوعي أن تلك التدخلات الأميركية المزعومة ستوفر مخططاً لواشنطن لتقويض الحزب وإسقاطه في نهاية المطاف (…).
في السنوات الأخيرة، عزَّزت الصين قاعدة سلطة الحزب الشيوعي الصيني في المجتمع، وفرضت مزيداً من القيود على المعلومات “غير الصحيحة سياسياً” التي يمكن لمواطنيها الوصول إليها، وفرضت أيضاً عقوبات على المسؤولين الأميركيين والمنظمات والأفراد الذين يزعم الحزب أنهم يعملون ضد الصين. تشكل هذه اليقظة ضد التدخل الأميركي المتصور جزءاً واحداً من استراتيجية شاملة وطويلة الأجل لحماية قيادة الحزب الحاكم، التي تتضمن أيضاً عدداً من القوانين والسياسات التي تهدف إلى تقييد قدرة الأميركيين والأجانب الآخرين على تشجيع المعارضة السياسية في الصين.
مخاوف الحزب الشيوعي الصيني بشأن تدخل الولايات المتحدة في الشؤون الداخلية لها صلة مباشرة بالتوتر بين واشنطن وبكين بشأن مجموعة من القضايا الجيوسياسية، بما في ذلك النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي وتوجيه أصابع الاتهام بشأن أصول الفيروس الذي تسبب في انتشار فيروس كورونا. إن موقف الصين الحازم بشكل متزايد في هذه الخلافات هو في جزء منه ردّ فعل على تصور الحزب بأن الولايات المتحدة تحاول إضعاف الدولة ونزع الشرعية عن الحزب. الرسالة واضحة: لن تستطيعوا إخافة الصين.
لتجنب الصراع المفتوح، يحتاج القادة في واشنطن وبكين إلى قبول حقيقتين أساسيتين، الأولى أن الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بشعبية هائلة والثانية أن الولايات المتحدة ستبقى الفاعل الأقوى في تشكيل النظام العالمي
أمران.. وحقيقتان
تدور العلاقة بين الولايات المتحدة والصين حول أمرين أساسيين: النظام الداخلي الذي يحافظ عليه الحزب الشيوعي الصيني في الصين، والنظام الدولي الذي تريد واشنطن التفرد بقيادته والمحافظة عليه. حتى الانحدار الحالي في العلاقات الثنائية، والذي بدأ في عام 2017، حافظت واشنطن وبكين على تفاهم ضمني: لن تحاول الولايات المتحدة علانية زعزعة استقرار النظام الداخلي للصين. بالمقابل، لن تتعمد الصين إضعاف النظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة. في إطار هذا التفاهم المتبادل، وسَّع البلدان روابطهما التجارية والمدنية بشكل كبير لدرجة الاعتماد المتبادل. كما بدأوا في التنسيق والتعاون في مختلف القضايا العالمية، مثل مكافحة الإرهاب وتغير المناخ. ومع ذلك، فقد انكشف التفاهم الضمني الآن، حيث يبدو أن الولايات المتحدة مصممة على إضعاف الحزب الشيوعي الصيني، ويبدو أن الصين عازمة على تحدي القيادة الأميركية للمؤسسات العالمية والقيم الغربية على نطاق أوسع. يلوح في الأفق احتمال حدوث حلقة مفرغة.
لتجنب الصراع المفتوح، يحتاج القادة في واشنطن وبكين إلى قبول حقيقتين أساسيتين.
الحقيقة الأولى هي أن الحزب الشيوعي الصيني يتمتع بشعبية هائلة بين الشعب الصيني؛ قبضته على السلطة لا تتزعزع. وعلى الرغم من التحديات الموجودة في الداخل، مثل التباطؤ الاقتصادي، وشيخوخة السكان، ونظام الرعاية الاجتماعية غير الكامل، فإن الحزب الحاكم سيظل بلا منازع في المستقبل المنظور. ومن المرجح أن تكون الضغوط الخارجية على الصين لتغيير نظامها السياسي عقيمة، وقد تأتي بنتائج عكسية من خلال تعزيز الوحدة وإثارة المشاعر المعادية للغرب.
الحقيقة الثانية هي أن الولايات المتحدة ستبقى الفاعل الأقوى في تشكيل النظام العالمي. مشاكل البلاد واضحة: التوترات العرقية، والاستقطاب السياسي، وعدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية، والتحالفات الضعيفة. ومع ذلك، تكمن قوتها في تنوعها، وثقافتها الابتكارية، ومرونة مجتمعها المدني – وتبقى تلك السمات دون تغيير. قد تشعر العديد من الدول بالإحباط بسبب نفاق واشنطن، والخلل الوظيفي، والقيادة المترهلة، لكن القليل منهم يرغبون حقاً في رؤية الولايات المتحدة تغادر منطقتهم وتترك وراءها فراغاً في السلطة.
بالنظر إلى هذه الحقائق، يجب على كلا البلدين الالتزام بما أشار إليه الصين منذ فترة طويلة على أنه نهج “الاحترام المتبادل”. يجب على واشنطن احترام النظام الداخلي لبكين، الذي انتشل مئات الملايين من الناس من الفقر وجلب الاستقرار إلى أكبر دولة في العالم، ويجب على بكين احترام دور واشنطن الإيجابي في النظام الدولي الحالي، والذي ساعد في تعزيز النمو الاقتصادي والتقدم التكنولوجي والتي، في الواقع، أفادت كلها الصين بشكل كبير.
سيستمر البلدان في التنافس في العديد من المجالات: أي حكومة تخدم شعبها بشكل أفضل، أي دولة ستتعافى عاجلاً من جائحة COVID-19 وتحافظ على صحة مواطنيها، أي دولة أكثر شعبية في العالم، وما إلى ذلك.
لكن ينبغي على الطرفين أن يمتنعا عن التنافس حول أي منهما يمكنه إنتقاد الآخر بصوت أعلى ونبرة أقسى، وأي بلد يمكنه إنتاج أقوى الأسلحة.
للحيلولة دون تحول المنافسة إلى كارثة، هناك قضيتان تتطلبان اهتماماً خاصاً.
القضية الأولى هي تايوان. يعتبر الحزب الشيوعي الصيني أن وضع تايوان مركزي بالنسبة لسيادة الصين ووحدة أراضيها. فيما تنظر الحكومة الأميركية إلى تايوان من منظور التزاماتها الدولية ومصالحها الأمنية.
لقد أصبح الاقتصادان الأميركي والصيني متشابكين للغاية، ومع ذلك، فإن الفصل الاقتصادي والتكنولوجي من شأنه أن يؤدي إلى خسائر لا تُعد ولا تُحصى ويعزز حالة عدم يقين غير مسبوقة
ومع ذلك، فإن كلا البلدين لديهما مصلحة مشتركة: الحفاظ على السلام. كما لاحظ صانعو السياسة المخضرمون في الولايات المتحدة، مثل كورت كامبل وجيك سوليفان في عام 2019، “تايوان ليست فقط نقطة اشتعال محتملة؛ إنها أيضاً أعظم نجاح لم يطالب به أحد في تاريخ العلاقات الأميركية الصينية”، نتيجة للنهج المرن والدقيق الذي اعتمده الجانبان تاريخياً. إذا التزمت واشنطن بسياسة “صين واحدة” وامتنعت عن دعم الاستقلال التايواني بشكل علني، فمن المرجح أن تستمر بكين في السعي لتحقيق الوحدة السلمية مع تايوان، ما لم تدفع الشروط المحددة في قانون مكافحة الانفصال الصيني – مثل أن تطالب سلطات تايوان من جانب واحد باستقلالها القانوني عن طريق إزالة “الصين” من الاسم الرسمي للجزيرة – “البر الرئيسي” إلى استخدام القوة.
القضية الثانية الحاسمة هي المنافسة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين، والمشاكل التي تطرحها أوسع وأكثر تعقيداً من معضلة تايوان. يبدو أن “الاشتراكية ذات الخصائص الصينية” و”النظام الدولي الليبرالي” غير متوافقين بشكل متزايد. حتى قبل الحرب التجارية التي أطلقتها إدارة ترامب، كان نمط التبادلات الاقتصادية الثنائية بين الولايات المتحدة والصين أصبح غير مستدام، لأن الأميركيين أصبحوا أكثر حزناً مما اعتبروه سياسات التجارة والتكنولوجيا غير العادلة للصين. لقد أصبح الاقتصادان متشابكين للغاية، ومع ذلك، فإن الفصل الاقتصادي والتكنولوجي من شأنه أن يؤدي إلى خسائر لا تُعد ولا تُحصى ويعزز حالة عدم يقين غير مسبوقة.
عالم مفتوح
في الوقت الحالي، تؤكد بكين على الاعتماد الاقتصادي على الذات والابتكار المحلي، في الوقت نفسه الذي تصارع فيه واشنطن القومية الشعبوية المتزايدة – وهو الدافع الذي عبر عن نفسه في نهج ترامب “أميركا أولاً”، وهو الآن يلهم جزئياً سياسة بايدن الخارجية للطبقة المتوسطة. كلا البلدين حريص على زيادة التنافس الاقتصادي بينهما، وإلحاق الضرر بالآخر. ومع ذلك، في الواقع، لن يزدهر أي من الاقتصادين ما لم يتمتع كلاهما بالتعافي القوي في أعقاب جائحة كورونا.
تحتاج الصين إلى تسريع الإصلاحات للسماح بمزيد من التجارة الخارجية والاستثمار والمعرفة التكنولوجية، وهو ما يدور حوله الشعار الصيني الجديد لـ “التداول المزدوج”. ويعتقد أن تحفيز الإنتاج والاستهلاك المحليين من شأنه أن يشجع الشركات الأجنبية على الاعتماد بشكل أكبر على سلاسل التوريد الصناعية والأسواق الاستهلاكية في الصين وتعزيز ما أطلق عليه الرئيس الصيني “اقتصاد العالم المفتوح”.
إن تبني التكامل الاقتصادي الدولي سوف يدعم بدوره النظام الداخلي للصين، لأن الاقتصاد المزدهر يجب أن يعزز شعبية الحزب الشيوعي الصيني. قد تستمر الصين في مقاومة الدعوات لإعادة تشكيل نظامها السياسي، لكن يجب عليها الالتزام (أو التكيف مع) القواعد الدولية التي ستفيد اقتصادها، وتساعد على التقدم الاجتماعي، وتوفير الأمن البيئي على المدى الطويل.
يجب أن تكون إخفاقات التدخلات الأميركية في أفغانستان والشرق الأوسط بمثابة تذكير واقعي بحدود القوة الأميركية. إذا فشلت الولايات المتحدة والصين في إدارة المنافسة بينهما، سيواجه العالم الانقسام والاضطراب والصراع. تتمثل الخطوة الأولى لبناء الاحترام المتبادل في محاولة فهم جذور انعدام الثقة المتبادل بينهما. إذا تمكن القادة في كلا البلدين من فهم كيف ينظر كل منهما إلى الماضي، فسيكون لديهم فرصة أفضل لبناء مستقبل أفضل.
(*) النص الكامل بالإنكليزية في “الفورين أفيرز“