في 7 كانون الأول / ديسمبر، نشرت الجريدة الرسمية في تونس قرار تغيير تاريخ إحياء الذكرى السنوية للثورة التونسية من 14 كانون الثاني/يناير- وهو اليوم الذي أُطيح فيه بنظام الرئيس المُستبد زين العابدين بن علي– إلى 17 كانون الأول /ديسمبر – وهو اليوم الذي أضرم فيه البائع المتجول الشاب محمد البوعزيزي النار في نفسه.
وسرعان ما أصبح القرار موضع نقاش بين المواطنين التونسيين من كافة الأطياف والقطاعات. فقد جرت العادة أن تحتفل المكاتب الحكومية والشركات في سيدي بوزيد في يوم 17 كانون الأول/ديسمبر من كل عام بعطلة رسمية تكريماً للبوعزيزي؛ وهو من مواليد الولاية، بينما في أماكن أخرى في تونس فان تاريخ 14 كانون الثاني/يناير يمثل إنطلاقة ثورة الياسمين في البلاد.
كان الهدف من التسوية المُصاغة بعناية في ديباجة الدستور التونسي لعام 2014 هو التوفيق بين الفصائل المنقسمة بخصوص تاريخ الاحتفال بحركة الاحتجاج الشعبية التي أطاحت بالنظام الاستبدادي في البلاد.
لكن بالنسبة إلى الرئيس التونسي قيس سعيّد، الذي استولى على سلطات تنفيذية كاسحة في 25 تموز/يوليو أبرزها وضع سلطة الطوارئ بيده، ومن ثم علَّق الكثير من مواد الدستور وأعلن أنه قادرٌ على حكم البلاد بموجب مرسوم رئاسي في 22 أيلول/سبتمبر، فإن الخلاف حول الموعد الرسمي للثورة التونسية ليس بأمر تافه على الإطلاق. بل على العكس من ذلك، إنه أمرٌ حاسمٌ بالنسبة إلى أيديولوجيته وبرنامجه السياسي.
فالحاكم الجديد لتونس يعتبر أن الثورة اندلعت مع شرارة النيران التي أضرمها البائع البوعزيزي بنفسه، لكن السياسيين اختطفوها باسم ما يُسمى “الانتقال الديموقراطي”، أي لحظة هروب الرئيس التونسي السابق إلى السعودية.
عقد مظلم
في 13 كانون الأول/ديسمبر 2021، وصف رجل البلاد القوي فترة العشر سنوات (2011 – 2021) بـ”العقد المُظلم” الذي جعل الحكومة تركع على ركبتيها ومثل “تهديداً وشيكاً” لمستقبل البلاد – وهو ما يُبرر بطبيعة الحال التدابير الاستثنائية المُعلنة حالياً.
باختصار، إن الاستيلاء على جميع السلطات التنفيذية والقضائية في 25 تموز/يوليو كان وسيلة قيس سعيّد لتحقيق قطيعة كاملة مع كل ما حدث منذ 14 كانون الثاني/يناير 2011.
الخلاف حول تاريخ إنطلاقة ثورة الياسمين علامة واضحة على حجم التحديات بين تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والحريات السياسية من جهة أخرى
وليس المقصود هنا جائحة كورونا العالمية التي أصابت تونس بالشلل، ولا الخلافات السياسية حول توزيع السلطات بين الرئاسات الثلاثة (الدولة والحكومة والبرلمان)، ولا حتى نتائج الانتخابات الرئاسية لعام 2019. “القطيعة” التي يريدها سعيّد هي مع كل النظام السياسي الذي أقيم منذ الإطاحة ببن علي، “لأنه فشل” على حد تعبيره.
تتضمن خارطة الطريق التي أعلنها سعيّد للخروج من الأزمة دستوراً جديداً وبرلماناً جديداً ومؤسسات حكم جديدة، بدون أي إشارة إلى تنظيم انتخابات جديدة. وحده الرئيس سيبقى في منصبه، على الرغم من أنه هو نفسه نتاج النظام السياسي الذي تم تأسيسه بعد الثورة.
إن الخلاف حول التاريخ الذي يمثل بداية ثورة الياسمين علامة توضح حجم التحديات بين تحقيق المساواة الاقتصادية والاجتماعية من جهة، والحريات السياسية من جهة أخرى.
فمن هذا المنطلق بالذات انبثقت الثورة التونسية التي كانت أبرز مطالبها تحقيق المساواة الاجتماعية. وروايتها التأسيسية بُنيت حول معالجة أزمة البطالة في تونس: رمز الثورة (البوعزيزي) كان جامعياً، وقد اضطر لأن يعمل بائع فاكهة وخضروات ليعيل نفسه وعائلته.
لكن سُرعان ما أُثيرت أسئلة حول الحريات العامة، التي أضعفتها سلسلة من الأنظمة الفاسدة والاستبدادية. في العقد الذي أعقب الثورة، كانت الحكومات المتعاقبة تُعطي الأولوية للإصلاح المؤسسي على حساب القضايا الاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما ساهم في ظهور أحزاب تطالب بعكس الوضع، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالحريات السياسية والديموقراطية.
تضاؤل الدعم
ومن المفارقات أن نتيجة الحوارات التي جرت صبَّت في مصلحة فصيل ثالث وأسفرت عن دعوة لمشروع سلطوي جديد في البلاد. باختصار، إن شيطنة عقد ما بعد الثورة بأكمله يعني تجاهل كل ما تم تحقيقه وله قيمة في عملية الإصلاح والتقدم الديموقراطي.
في أعقاب 25 تموز/يوليو 2021، اعتبرت شرائح كبيرة من الطبقة الحاكمة ووسائل الإعلام، وإلى حد ما المجتمع المدني، أن نهج الرئيس الراديكالي كان بمثابة “رُبَ ضارة نافعة” لمنع البلاد من الإنزلاق إلى المزيد من الفوضى.
ومع ذلك، رفضت بعض الأحزاب السياسية دعم مشروع سعيّد.
تقاسم السلطات، واحدة من أهم إنجازات الثورة، معرضة اليوم لخطر الإنهيار
ومن هؤلاء، الإتحاد النقابي القوي (مؤيد سابق لسعيّد)، والإتحاد العام التونسي للشغل، يجاهران بمعارضتهما للرئيس الذي نصَّب نفسه على أنه “الرجل القوي”. بالمقابل، يعلن الرئيس عدم توافقه مع هذين الإتحادين. ومع ذلك، فإن شخصيات بارزة كانت مُقربة من الرئيس المخلوع (بن علي) تبدي دعمها؛ وبحماسة شديدة؛ لحاكم قرطاج الجديد، ومن بين هؤلاء الوزير السابق والموالي للنظام صدوق شعبان.
فمنذ إعلان حالة الطوارئ، شرع سعيّد في تفكيك نظام الضوابط والتوازنات، بالبناء على عدد صغير من الحقائق الثابتة بهدف تشويه سُمعة هيئة حاكمة بأكملها. وقد دفع البرلمان وهيئة مكافحة الفساد خسائر فادحة، كما تعرضت الهيئة العُليا للانتخابات (ISIE) والمجلس الأعلى للقضاء والسلطات المحلية لانتقادات شديدة.
أحد أهم الإنجازات الرئيسية للثورة؛ وهو تقاسم السلطات؛ مُعرض لخطر الإنهيار. فالسلطة التنفيذية تُخاطر بترك صلاحياتها تتآكل، وإعادة مهمة الإشراف على الانتخابات لوزير الداخلية يعرض العملية الانتخابية برمتها للخطر، وقد يقع القضاء المستقل مرة أخرى تحت سيطرة الحكومة.
أضف إلى ذلك أن حرية التعبير، التي يُشادُ بها حتى الآن، وتُعد من بين الإنجازات العظيمة التي حققتها الثورة، هي أيضاً مهددة.
استثناءات مُقلقة
وبرغم أن حرية التعبير ظلَّت غير مقيدة كثيراً؛ حتى الآن؛ كانت هناك العديد من المؤشرات المقلقة على أن هذا قد يتغير. وذلك لسبب رئيسي واحد وهو أن الرئيس سعيّد يرفض الإجابة على أسئلة الصحافة المحلية، ويكتفي بنشر مقاطع فيديو على صفحة حسابه الرسمي على الفيسبوك.
فعلى سبيل المثال، خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى تونس، تم تنظيم مؤتمر صحفي لم يحضره ولا صحافي واحد. وبمناسبة زيارة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون للبلاد، تمت دعوة الصحافيين العاملين في التلفزيون والصحافة الوطنية فقط، بشرط عدم توجيه أي أسئلة إلى الرئيس التونسي.
حتى الآن، لم تكن هناك إصلاحات رئيسية في السياسات الخاصة بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية. وبرغم الإيحاءات القومية للخطاب الرسمي التونسي، لا تزال المناقشات مع صندوق النقد الدولي جارية.
في تموز/ يوليو 2020، سنَّ سعيّد مشروع قانون مثير للجدل للتوظيف في القطاع العام، بدعم من البرلمان ضد نصيحة رئيس الوزراء آنذاك إلياس الفخفاخ، مما فتح الباب أمام توظيف خريجي الجامعات الذين توقفوا عن العمل منذ أكثر من 10 سنوات.
ولكن بعد أن منح نفسه صلاحيات كاملة، غيَّر رأيه، واعتبر أن القانون غير قابل للتنفيذ. تم قمع حركة الاحتجاج التي تلت ذلك، وتعرض المحتجون للقمع بواسطة الغاز المسيل للدموع، وفي الوقت نفسه تسارعت محاولات الهجرة غير الشرعية من تونس.
وهكذا، بعد 11 عاماً على ثورة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2011، يبدو مستقبل تونس غامضاً أكثر من أي وقت مضى. ومع خيبة الآمال التي سببتها الأحزاب السياسية المهيمنة لكثيرين، وتزايد ميل الرئيس سعيّد إلى الاستبداد والسلطوية، يبدو أن التجربة الديموقراطية التونسية مُعرضة لأن تصبح في غياهب التاريخ.
(*) حاتم نافتي، كاتب مقالات فرنسي تونسي. ومؤلف كتاب “من الثورة إلى الإصلاح، أين تذهب تونس؟”، نُشر عام 2019، وفيه يلقي الكاتب نظرة على سجل بلد الربيع العربي الوحيد الذي التزم بالديموقراطية.
(**) النص الأصلي بالإنكليزية على موقع “ميدل إيست آي“