ما يدفع الى استخدام هذا التوصيف، نداء الإستغاثة العاجل من الرئيس توكاييف بنظيره الروسي فلاديمير بوتين، بعد أربعة أيام فقط من اندلاع الإحتجاجات الشعبية، وإذ جاءت النجدة الروسية على وجه السرعة، فالأمرعنى أن لدى الطرفين قراءة موحدة حول مخاطر فقدان السيطرة على دولة مجاورة لروسيا وعملاقة في جغرافيتها وتتعدى مساحتها مليونين وسبعمائة ألف كلم2، فضلا عن ثرائها بمصادر الطاقة.
بصورة عامة، لم يخرج فعل استنجاد “الرئيس بالرئيس”، عن المنظومة الفكرية لتوكاييف والتي اودعها في كتابه المعروف بعنوان “دبلوماسية كازاخستان” الصادر في عام 2005، وهي السنة التي كان يشغل فيها منصب وزير خارجية بلاده.
في هذا الكتاب يتطرق توكاييف إلى مجموعة هامة من العناوين، من بينها علاقة كازاخستان بروسيا، و”منظمة معاهدة الأمن الجماعي” والتحديات الأمنية التي يمكن ان تواجه كازاخستان، على مستوى العدوان الخارجي أو على صعيد ما يسميه “الثورات ومصائب الدم”، وحيال ذلك، ينطلق توكاييف في نظرته نحو روسيا، من زاوية التبني الكامل لمفهوم الفضاء الأوراسي، ويعتمد على ما يقوله المفكرون الروس في هذا المجال، من مثل تروبيتسكوي وفلورينسكي وفرنادسكي وغوميليوف، فيستشهد برؤاهم القائلة “بالأهمية الكبرى لمنطقة أوراسيا، كمنطقة تربط بين أجزائها وحدة التاريخ والجغرافيا والثقافة لدى الشعوب التي تقطنها، فمصائر شعوب أوراسيا قد تشابكت في سلسلة واحدة كبرى لم يعد من الممكن فصل حلقاتها، ولا يمكن فصل شعب عن هذه الكتلة الموحدة إلا بممارسة العنف الإصطناعي ضد الطبيعة”.
توكاييف: “لا تستطيع كازاخستان ان تستغني عن روسيا، ولكن روسيا.. هيهات.. ان تتعامل بدون كازاخستان”
وعلى ما يقول توكاييف “تطوير التعاون الشامل مع روسيا، من الأولويات الإستراتيجية لأنشطة السياسة الخارجية لكازاخستان، حيث تتطابق مصالح الدولتين في الكثير من المعايير، إذ يتعين على كازاخستان أن تقوم بالتعاون مع روسيا في قضايا النقل والطاقة والإمكانات الصناعية والعلمية وجملة المنشآت الإستراتيجية، وستبذل كازاخستان جهودها من أجل تعزيز المساحة الإقتصادية والدفاعية والإعلامية والإنسانية المشتركة مع روسيا”.
ماذا يبقى؟ بالنسبة لتوكاييف “هناك الكثير من العوامل تجعل التعاون متعدد الجوانب بين كازاخستان وروسيا، هذا هو التاريخ المشترك والحدود المشتركة بطول سبعة آلاف كلم، واللغة المشتركة ونمط الحياة، لذلك فأية سياسة أخرى تنافي المصالح الأصلية للدولتين، وروسيا وكازاخستان مثالان نادران من بين جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق، لم يبق شيء من القضايا معلقة في علاقتهما، ودخلتا القرن الحادي والعشرين بصفة الحليفين الإستراتيجين اللذين يرتبطان بأواصر الصداقة المجيدة”.
ماذا يعني ذلك؟ يجيب توكاييف بالقول “لا تستطيع كازاخستان ان تستغني عن روسيا، ولكن روسيا.. هيهات.. ان تتعامل بدون كازاخستان”.
الأمن الجماعي أم “وارسو” جديد؟
في بيان طلب النجدة من فلاديمير بوتين، قال الرئيس الكازاخي قاسم جومارت توكاييف “إن العصابات الإرهابية التي تنظم الاحتجاجات في كازاخستان تلقت تدريبات خطيرة بالخارج وطلبتُ مساعدة دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي” بحسب ما أوردت وكالة “سبتونيك” الروسية (5 ـ 1 ـ 2022) ونقلت الوكالة نفسها عن بوتين قوله إن موسكو “تراقب عدوان الإرهاب الدولي في كازاخستان”.
هذا التصنيف لحركة الإحتجاجات التي شهدتها كازاخستان، أملى على روسيا وأرمينيا وبيلاروسيا وقرغيزستان وطاجيكستان وهي الدول الأعضاء في “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” أن تصد “العدوان الخارجي” ويُرسل بعضها قوات عسكرية لمساعدة توكاييف، وهو الذي كان قدّم شروحات لمهمات وأدوار هذه المنظمة في كتابه، حيث يقول “إن تكوين رابطة الدول المستقلة في خريطة العالم السياسية، وجمعها في منظومة الكومنولث، لا توفر مطلقاً الدفاع عن استقلال هذه البلدان، لذلك نشأت ضرورة إنشاء نظام الأمن الجماعي، وتنص المادة الرابعة من المعاهدة على أنه في حالة تعرضت إحدى الدول المشاركة لإعتداء من أي طرف او مجموعة، فهذا يُعدً اعتداء ضد جميع الدول المشاركة بهذه المعاهدة، وفي حالة قيام اعتداء ضد أي دولة من الدول المشاركة، تقدم جميع الدول المشاركة المساعدة اللازمة لها بما فيها العسكرية”، وهذه المعاهدة كما يقول توكاييف تم تطويرها وتمديدها تباعاً، إلى أن تم التوافق على “إنشاء مركز مكافحة الإرهاب لدعم الأمن والإستقرار في الحدود الجنوبية لآسيا الوسطى”.
كيف يعمل مركز مكافحة الإرهاب؟
يقول توكاييف “في 25 أيار/مايو 2001، عُقدت الدورة العادية لمجلس الأمن الجماعي في ارمينيا، وخلال الإجتماع كانت الإشارة إلى ضرورة تثبيت التعاون السياسي والعسكري، وأُخذت إجراءات معينة لمنع التشكيلات الإجرامية والإرهابية بإنشاء قوات جماعية للإنتشار السريع في آسيا الوسطى، تتشارك في تشكيل هذه القوات أربعة أعضاء، كازاخستان وروسيا وقرغيزستان وطاجيكستان، وعند الحاجة يمكن أن تنضم إليهم دول أخرى”.
توكاييف: “يزعمون بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكن وقائع التاريخ أثبتت أن الفرحة بالخبز لازمة في كل مكان وزمان”
ثورات الشياطين
في السابع من الشهر الجاري، نقلت وكالة “سبوتيك” عن توكاييف قوله “أعطيتُ الأمر لأجهزة إنفاذ القانون والجيش بفتح النار للقتل دون سابق إنذار”.
إطلاق النار من أجل القتل، لماذا؟
هذا السؤال يفرض العودة إلى كيفية نظرة توكاييف إلى الأمن والإضطرابات والثورات، ففي الصفحة التاسعة والثلاثين من كتابه يقول “إن الإعتراف العالي بقيمة الحياة الآمنة والمطمئنة للشعب الكازاخي الذي ابتلى طوال تاريخه بمعاناة غير قليلة، يملي علينا اليوم عدم قبول التطرف وعدم قبول الفكر والنداءات والأفعال التي تقود إلى اضطرابات وفوضى”، ويكمل توكاييف شارحاً: “لا مكان لتهديد الإستقرار، سواء جاء من الخارج على شكل اعتداء غرباء، او جاء من الداخل على شكل تنكيلات إقطاعية أو ثورات تحمل معها المصائب والدم، وتعرف هذا جيداً جميع الشعوب المتعايشة في كازاخستان”.
في مجمل التغطيات الإعلامية وعلى مختلف اتجاهاتها، والتي وردت من كازاخستان منذ اليوم الثاني من هذا الشهر، أن الإحتجاجات الشعبية في بلاد الكازاخ انطلقت بعد رفع أسعار المحروقات، ما أدى إلى ارتفاع المواد الغذائية والإستهلاكية، وهذا يعني أن الناس خشيت من الجوع وحرّكتها مخاوف بطونها وأمعائها، وما عادت تلوي إلا على التحطيم والتكسير.
حول الجوع يقول توكاييف “يزعمون بأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لكن وقائع التاريخ أثبتت أن الفرحة بالخبز لازمة في كل مكان وزمان”.
ليس من المناسب مناقشة توكاييف حول ما قصده السيد المسيح من قوله ذاك، ولكن للضرورة أحكام، ذلك ان معنى قول المسيح أن الإنسان لا يعيش ببُعد واحد، أي البُعد المادي، فالإنسان بحاجة أيضا إلى البُعد الروحي، ولكن الرئيس توكاييف الذي عاش في الصين سنوات عدة، لا بد أنه قرأ أو سمع ما قاله منشيوس الفيلسوف الصيني القديم، يقول منشيوس:
“الجوع لا يعرف الحكمة”.