بسّام خالد الطيّارة01/01/2023
العام 2022؛ إنه عام «الحرب العالمية الثالثة: الفوضى الغريبة». لا نقول 2023 هو عام الحرب، الحرب بدأت قبل عام 2022 ولكنها خرجت إلى الملأ في 24 شباط/فبراير 2022 عندما انطلقت أول رصاصة من روسيا نحو أوكرانيا.
أفاق سكان المعمورة على صوت المدافع وسقطوا في حيرة الأسباب ورائحة البارود وعبق الدخان وساد الذهول شعوب أوروبا: هل يعقل أن الحرب صارت في قلب القارة العجوز؟
في الكواليس، كان قادة أوروبا يدركون أن الصراع قادم لا محالة. الدول المنغمسة في الصراع اليوم وأولها أميركا تتصرف وكأنها أُخذت على غفلة بينما إنطلقت شرارة الصراع منذ صيحة باراك أوباما وإشارته إلى آسيا وتنبيهه من تصاعد القوة الصينية!
بعكس ما يقال ويكتب هنا وهناك لا توجد شبكة فوضوية. توجد شبكة مصالح معقدة وسهلة في آن واحد. الفوضى هي عامل يمكن أن يساعد كل القوى التي تمتلك نظرة معولمة لمصالحها.
وفي الواقع، تكدست في العام 2022 ملفات لأزمات «وجودية للانسانية» واكبت التحضيرات للصراع بين القوى الكبرى.
عالمنا يعيش اليوم حالة من عدم اليقين، فالعام 2023 ينفتح على تكتلات دولية جديدة بسبب الحرب الروسية الأوكرانية التي تغوص أوروبا في وحولها، يرافقها أفق اقتصادي صعب لعل أبرز مؤشراته تصاعد التضخم وإرتفاع الطاقة وضعف النمو.. والأسباب عديدة ومنها الإحتباس الحراري.
وها هي الاستراتيجيات الكبرى تتصادم بين بعضها البعض لأنها تحمل في طياتها تناقضات واضحة تبرز عبر مجموعة أسئلة بديهية:
هل يمكن مكافحة الاحتباس الحراري في ظل أزمة اقتصادية خانقة تطال الغرب الغني قبل الجنوب الفقير؟
هل يمكن التصدي للفقر الذي ينخر الجنوب الفقير فقط بنظريات الحداثة المناخية؟
هناك ثلاثة أحداث تولدت في العام 2022 الذي يطوي صفحته الأخيرة ولا بد من وضعها تحت المجهر:
١) حرب أوكرانيا.
٢) مؤتمر المناخ «كوب 27».
٣) كأس بطولة العالم لكرة القدم (مونديال 2022).
هذه الأحداث الثلاثة قلبت رقعة التحالفات في العالم. فقد أعاد فلاديمير بوتين الحرب إلى قلب أوروبا وكشف أن الحديث عن القانون الدولي وحرمة الحدود الدولية و«الاعتداء على الجار» ليست عوامل يمكنها أن تشكل عامل تكاتف دولي. من يقف مع أوكرانيا اليوم ويدعمها بالمال والسلاح «الغرب حسب التعريف السياسي» يبدو عاجزاً عن «جر» دول الجنوب في ركاب التصدي لروسيا. ما هو السبب؟ بوتين لا يفعل شيئاً سوى «تقليد» ما فعلته اميركا ومعها بعض الدول الحليفة في العراق وكوسوفو وليبيا وباناما وحتى أفغانستان. ربما يعتبر بوتين أن «الحملة العسكرية الخاصة» هي مقاربة لما فعله في جورجيا ومولدافيا عام 2008، وأن الغرب لن يتحرك أيضاً، لكن غاب عنه أن بريطانيا والولايات المتحدة كانتا تدربان الجيش الأوكراني منذ عام 2014 في سياق ثورة ميدان الملونة. سقط بوتين في الفخ المنصوب له، لتتفرغ واشنطن للصين وجنوب المحيط الهادىء.
كذلك أخطأ الغرب في تقدير التحالفات التي «ستستدير» نحو موسكو للاستفادة من ردات فعل العقوبات التي فُرِضَت على روسيا، كما أخطأ في تقدير عدد الصواريخ التي بحوزة سيد الكرملين.
استولى بوتين على جزء من شرق أوكرانيا ولا يتوانى في تدمير البنية التحتية المدنية للبلاد بوابل من الصواريخ اليومية. إذ تعول موسكو على الشتاء لإرهاق الأوكرانيين.. وأيضاً لإرهاق الأوروبيين والأميركيين الذين يدعمون كييف عسكريًا واقتصاديًا.
صحيح أن غالبية الدول، مع استثناءات مثل الهند أو جزء من إفريقيا أو العالم العربي، أدانت حرب بوتين في الأمم المتحدة ولكن الغالبية منها ترفض تطبيق العقوبات الغربية. وفي الوقت نفسه، تحاول موسكو وبكين تجنيد الجنوب في المعركة ضد ما يعتبرانه هيمنة أميركية على النظام الدولي وهو بالنسبة للصينيين والروس تحدي القرن المقبل
الجديد الذي أبرزته الحرب في أوكرانيا أن روسيا تخوض حربًا تقليدية تحت غطاء ترسانتها النووية. فهي تستخدم الأسلحة النووية كتهديد لمنع الدعم الغربي من التحول إلى دعم عسكري مباشر.
وهنا تبرز إحدى أهم تجليات التغيير الاستراتيجي ذلك أن العديد من القوى الوسطى تراقب هذا النمط العسكري عن كثب، وقد تؤدي حرب بوتين إلى تسريع الانتشار النووي في القارات كافة.
الجديد أيضاً أن هذه الحرب قد شدّت أواصر العلاقات عبر الأطلسي وأعادت إحياء الناتو ووسّعته. لقد أظهر هذا الحلف تفوق ترسانة الأسلحة الغربية، وذلك مقابل تضعضع حالة الاتحاد الأوروبي وبروز تفاوت بين دوله السبع والعشرين في «طريقة تعبيرها» عن دعمها لأوكرانيا وحتى في مسألة تقرير سياسة العقوبات ضد موسكو التي كانت تناقش بحدة قوية.
كما يمكن القول إن هذه الحرب قد دفنت شعار «سياسة دفاعية أوروبية مشتركة” وأفضل مثال هو التباعد بين ألمانيا وفرنسا من جهة وانحياز دول البلطيق للمظلة الأميركية تحت رعاية بولندا من جهة ثانية.
اعتقد قادة الغرب أن قمة الـعشرين في إندونيسيا ستقضي على ما تبقى من تحالفات تدعم ـ وإن بفتور ـ روسيا. غير أن هذه القمة جاءت مرآة سياسية لـ«كوب 27» المناخية في شرم الشيخ. لم يقدم الغرب الغني في قمة شرم الشيخ فلساً واحداً لدعم الجنوب الفقير في مجهوده لمحاربة الاحتباس الحراري. فقط تذكر الجنوب أن «ثقب الجو» الذي يتسبب بتغيير مناخي عنيف هو من «صنع الغرب الغني» في مساره نحو التقنيات الحديثة.
في شرم الشيخ، كما في إندونيسيا، كان الحديث، كما وصفه ديبلوماسي أوروبي «عبارة عن حديث طرشان»، فلا الغرب استطاع إقناع الجنوب بضرورة «حماية القانون الدولي» ومحاسبة روسيا، ولا استطاع الجنوب الاستماع إلى مطالب الشمال له بالحد من لجوئه للطاقات التي تسبب التغيير المناخي في المسار الصناعي لدوله.
من هنا التفتت الرؤوس نحو الصين هذا العملاق الذي لا يخفي رغبته بمنافسة الولايات المتحدة في كافة المجالات. فكابوس الغرب هو أن تدعم الصين جارتها روسيا في حربها في أوكرانيا. ولكن لا يزال شي جين بينغ، الذي قطف ولاية ثالثة، مخلصًا في كلماته لـ«الصداقة اللامحدودة» بين بكين وموسكوولكنه لا يذهب أو لا يبوح بالمساعدات التي يقدمها أو قد يقدمها لحليفه فلاديمير بوتين، وفي الوقت نفسه، لا يتردد بالتعاضد مع سيد الكرملين من أجل نزع الطابع الغربي عن القرن الحادي والعشرين ونزع مقاليد الاقتصاد العالمي من «الدولار الملك».
لكن الرجل الأول في الصين يبدو منشغلا بتداعيات Covid-19 والديون الداخلية المتراكمة على الطبقة الوسطى مع تراجع محركات النمو المحلي بسبب سياسة الحجر التي اتبعها. ومما يقلق الغرب أن النموذج «الاستبدادي الصيني«، أي أسلوب شي جين بينغ، هو أقرب إلى أسلوب بوتين. وكذلك بعد الحديث عن دعم إيراني لروسيا بالمسيرات وتصريحات زعيم كوريا الشمالية كيم إيل يونغ بشأن دعمه لموسكو، يرى الغرب ملامح تكتل جديد (روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية) يتكل على عملاقين ويذكر بماض قريب، في مقابل الغرب (الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وبعض الدول الصغيرة).
أي تقف بقية العالم في مطلع هذه السنة الجديدة؟
صحيح أن غالبية الدول، مع استثناءات مثل الهند أو جزء من إفريقيا أو العالم العربي، أدانت حرب بوتين في الأمم المتحدة ولكن الغالبية منها ترفض تطبيق العقوبات الغربية. وفي الوقت نفسه، تحاول موسكو وبكين تجنيد الجنوب في المعركة ضد ما يعتبرانه هيمنة أميركية على النظام الدولي وهو بالنسبة للصينيين والروس تحدي القرن المقبل.
لكن واقع العالم، أكثر تعقيدًا ولا يتناسب مع هذا الإطار المبسط. أفضل مثال هو الهند التي تعتبر زعيمة الجنوب العالمي. هذا البلد عضو في رباعية “الكواد” – مع الولايات المتحدة وأستراليا واليابان – لاحتواء التوسع الصيني في منطقة المحيط الهادئ. ولكن نيودلهي تتحايل على العقوبات الغربية وتشتري النفط الروسي الرخيص الذي يمول الحرب في أوكرانيا وهو دعم غير مباشر لبوتين.
كذلك عدد من القوى المتوسطة، مثل المملكة العربية السعودية أو تركيا فهي تحرر نفسها من الوصاية الأميركية، ولكن لا تضع نفسها تحت المظلة الصينية الروسية بالكامل. من الرياض إلى أنقرة، ومن مانيلا إلى جاكرتا حيث الاصطفافات باتت «اصطفافات مصلحية» أحيانًا مع أحد أقطاب القوة العظمى (الغرب)، وأحيانًا مع المعسكر الآخر (الصيني أو الروسي أو مع الإثنين).
وهكذا يبدأ عام 2023 من القرن الحادي والعشرين على إيقاع حرب عالمية منفتحة على مشهد دولي فوضوى. ولكنها فوضى تحت مظلة المواجهة الصينية الأميركية.
في الأفق الاستراتيجي العالمي ثمة غرابة غير مسبوقة في التاريخ: تتنافس القوات الأميركية والصينية في الفضاء في حين أن استيراد السوق الأميركية من الصين لا يتراجع بينما تتمول مائتا شركة صينية في بورصة نيويورك.. كل عام وأنتم بألف خير.