إيران “الشرقية” في الكرملين.. مقايضة فيينا بأوكرانيا

زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لروسيا تتحدث عن نفسها وليست في حاجة إلى الخوض كثيراً في الخلفيات والدوافع والنتائج، ذلك أن السياق الذي أتت فيه، ليس بعيداً عن قاعات فندق قصر كوبورغ في فيينا حيث المفاوضات النووية، ولا عن الحدود الروسية-الأوكرانية، التي تحتشد من على جانبيها الجيوش، ومعها يحبس العالم أنفاسه في إنتظار ساعة الصفر للإنفجار أو الإنفراج. 

على عكس الطاولة المستطيلة التي باعدت بين كرسيي فلاديمير بوتين وإبراهيم رئيسي، إتقاءً لسلالة “أوميكرون” من فيروس كورونا الذي يتفشى بسرعة هذه الأيام في روسيا، فإن مواقفهما كانت متقاربة على صعيد الأزمات الدولية: من سوريا (حيث حصر بوتين الموضوع بنجاح التعاون في محاربة الإرهاب)، إلى أفغانستان إلى الملف النووي في فيينا إلى نظام العقوبات الأميركي الذي يطاول كلاً من موسكو وطهران. وتأكيداً على الأهمية التي توليها موسكو للعلاقات مع إيران في هذه المرحلة، ألقى رئيسي كلمة أمام مجلس دوما الدولة الروسي، في تكريم قلما يحظى به زعماء يزورون موسكو.

إنطوت زيارة رئيسي على رسائل لا لبس فيها في ظروف دقيقة يواجهها الشرق الأوسط وأوروبا. عشية الزيارة، تحدث وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن إقتراح روسي لعقد مؤتمر خليجي-إيراني لإطلاق حوار إقليمي، في توطيد للدور الروسي في منطقة تضعف فيها الثقة بالحليف التقليدي، أميركا. وفي الوقت نفسه، يتيح الإخفاق الأميركي بإيجاد تسوية لحرب اليمن، لموسكو أن تضطلع بدور في أزمة آخذ لهيبها في التصاعد، وباتت تحتاج إلى إختراق كبير في السياسة. وما لم تعطه إيران وحلفائها الحوثيين لأميركا في هذا الشأن، يمكن أن يجيّروه لموسكو، التي أبقت على موقف متوازن منذ بداية الأزمة اليمنية.

يبعث بوتين بدوره برسالة واضحة للغرب مفادها، أنه الطرف الوحيد الذي قد يكون قادراً على إقناع إيران بتليين موقفها في فيينا، لكن ذلك لن يكون من دون مقابل. والمقابل الذي تريده موسكو يتمثل في تنازل غربي في المسألة الأوكرانية

وفي صلب الزيارة، المفاوضات النووية العالقة في فيينا. والرسالة الإيرانية الموجهة إلى أميركا مفادها أن الرافعة الروسية باتت موجودة في حال أخفقت المفاوضات وبقيت العقوبات الأميركية مفروضة على طهران. في هذا السياق، كتبت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية أن بوتين ورئيسي وافقا على “إطار” لإتفاق ينص على زيادة التعاون الإقتصادي والعسكري بين البلدين. وسبق لوسائل الإعلام الإيرانية أن تحدثت عن أن رئيسي يحمل معه إلى موسكو مشروع إتفاق إستراتيجي للتعاون على مدى 20 عاماً. وبحسب مسؤولين إيرانيين فإن الإتفاق يركز على نقل التكنولوجيا الروسية إلى إيران، وشراء تجهيزات عسكرية روسية وتوظيف إستثمارات روسية في البنى التحتية لقطاع الطاقة الإيراني. والإتفاق المقترح يشبه إلى حد كبير الإتفاق الضخم الذي وقعته إيران مع الصين العام الماضي لمدة 25 عاماً ويشمل ضخ بكين إستثمارات في إيران بـ400 مليار دولار في مقابل حصولها على كميات من النفط الإيراني بأسعار مخفضة.

وبذلك، لم يعد العداء للولايات المتحدة، وحده، الذي يجمع روسيا والصين وإيران، بل إن الدول الثلاث ترسي أسس تعاون عملي للمستقبل في السياسة والإقتصاد والمجال العسكري، وتعمل على بلورة خريطة جيوسياسية في إطار المواجهة الأوسع مع أميركا. ولا يتوه المرء كثيراً في تفسير رسالة المناورات البحرية الروسية-الصينية-الإيرانية في شمال المحيط الهندي، غداة قمة بوتين-رئيسي. والدول الثلاث أعضاء في منظمة شانغهاي للتعاون، التي ترتاب واشنطن في أنها قد تشكل مُستقبلاً، حِلفاً عسكرياً على غرار حلف شمال الأطلسي.  وعبر التقارب مع إيران، يبعث بوتين بدوره برسالة واضحة للغرب مفادها، أنه الطرف الوحيد الذي قد يكون قادراً على إقناع إيران بتليين موقفها في فيينا، لكن ذلك لن يكون من دون مقابل. والمقابل الذي تريده موسكو يتمثل في تنازل غربي في المسألة الأوكرانية. وعلى سبيل المثال، كانت روسيا هي من أقنع حكومة رئيسي بالقبول بنتائج الجولات الست من مفاوضات فيينا التي جرت مع حكومة الرئيس السابق حسن روحاني بين نيسان/أبريل وحزيران/يونيو 2021، كأساس للمفاوضات المستمرة حالياً، وإن لم تقبل طهران بها كلها.

ليست بالطبع أوكرانيا وحدها موضوع الحديث في الحوارات الدائرة في الأسابيع الأخيرة بين أميركا وروسيا. الأزمة الأوكرانية تتشابك اليوم مع الملف النووي الإيراني ومع المصلحة الأميركية في العودة إلى إتفاق العام 2015 لوقف الخطوات الإيرانية نحو “العتبة النووية”، وتفادي التورط في “البدائل الأخرى” التي تكثر من الحديث عنها. فالذهاب إلى الخيار العسكري لن يكون مأمون العواقب، فضلاً عن أنه قد يؤخر البرنامج النووي الإيراني لكن لا يلغيه. وليس أدل على المرارة الأميركية من قول المسؤولين في إدارة الرئيس جو بايدن، أن إنسحاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة (الإسم الرسمي للإتفاق النووي) كان “أسوأ قرار” أميركي تم إتخاذه في العقد الأخير. مستشار الأمن القومي جيك سوليفان تحدث عن “الآثار الكارثية” لقرار ترامب.

إنها المرة الأولى التي يبدو فيها أن إيران تحسم خيار التوجه شرقاً، وتُبدي إستعداداً للتخلي عن الخيار الغربي، مع كل المفاعيل التي يمكن أن تترتب على ذلك

وفي توقيت قاتل، على صعيد مفاوضات فيينا، يأتي التقارب الروسي-الإيراني. وتدرك واشنطن أكثر من غيرها أن الصين وروسيا في إمكانهما أن يعوّضا إيران عن العقوبات الأميركية حتى لو إنضمت إليها دول أوروبية في حال الخيار الديبلوماسي. بدورها، تضغط أميركا على روسيا في أوكرانيا من خلال مزيد من المساعدات العسكرية ومن خلال عدم حسم مسألة إنضمام كييف إلى حلف شمال الأطلسي. ومن خلال هذا الضغط تأمل واشنطن في أن تتمكن موسكو من إقناع طهران بتنازلات تقود إلى إعادة إحياء الإتفاق النووي، لا سيما أن حقيقة الموقف الروسي تقوم على معارضة إمتلاك إيران للقنبلة النووية، وفي الوقت نفسه، رفض اللجوء إلى الخيار العسكري.

إقرأ على موقع 180  أزمة الطاقة العالمية.. الأسوأ لم يأتِ بعد (1)

والبعد الشرق أوسطي للتعاون الروسي-الإيراني، مضافاً إليه الصيني، يتخطى الإتفاق النووي، إلى تغيير جوهري في الخيارات السياسية في المنطقة، إذ أنها المرة الأولى التي يبدو أن إيران تحسم فيها خيار التوجه شرقاً، وتُبدي إستعداداً للتخلي عن الخيار الغربي، مع كل المفاعيل التي يمكن أن تترتب على ذلك.

وها هي صحيفة “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية من موقع التحذير والتنبيه، تقرأ في زيارة رئيسي لموسكو “دعوة لروسيا كي تمارس المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط”. وتذكّر بمقابلة للسفير الإيراني السابق لدى روسيا محمود رضا سجادي مع وكالة أنباء “فارس” يقول فيها إن من شأن التقارب الإيراني-الروسي، أن يقود إلى “شرق أوسط جديد”.

وحتى في الداخل الأميركي، يزداد التوجس من الآتي. وعبّر عن ذلك، جو ليبرمان المرشح لمنصب نائب الرئيس الأميركي على لائحة الحزب الديموقراطي عام 2000، عندما علّق على تعزيز التعاون الروسي-الإيراني في مقال نشره في وقت سابق من كانون الثاني/يناير الجاري في صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية، قائلاً إن “التحدي الأكبر الذي ستواجهه الولايات المتحدة في عام 2022 لن يكون كوفيد-19 أو التضخم، وإنما روسيا وإيران”.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تحديات أوروبا الداخلية.. الوحدة والتصالح مع الجغرافيا (2)